-1-
في هذه الحلقة نعرض لموقف أهل الضاحية الأصليين بما حل بمنطقتهم لا سيما الشيعة منهم. كما نعرض لإسهام السلاح الفلسطيني فيما آلت إليه أحوال هذه المنطقة، اضافة إلى المكانة التي تحتلها الضاحية في نسيج الهوية الشيعية اليوم.
الضاحية تسمية حديثة نسبياً، ترجع إلى سني الحرب اللبنانية ومسمايتها. قبل ذلك كانت المناطق الواقعة تحت هذه التسمية العامة، تستقل كل منها باسم خاص، وكانت الضاحيةأحياء: حارة حريك وبرج البراجنة والشياح والرويس والصفير والمريجة والغبيري، أما اليوم فجميعها “ضاحية” على وجه الإجمال.
في المقابل يحرص أبناء الضاحية الأصليون (1) على انفراد مناطقهم بأسمائها الحقيقية، وقلما يستعملون مسمى الضاحية للإشارة إليها خلافاً لما جرت عليه عادة الوافدين إليها، كأنهم بهذا يتنصلون من الحال التي آلت إليها مناطقهم، تلك التي تزامن إجمالها بهذا الأسم (الضاحية) مع بداية فعل المهجرين الوافدين اليها، فعلهم في المنطقةز هكذا تراهم حين يضطرون إلى إجمالها يفضلون مسمى “ساحل المتن الجنوبي” ولا يخفون تفضيله على مسمى الضاحية.
قبل أن تستقر مناطق ساحل المتن الجنوبي على مسمى ” الضاحية” أطلق عليها أكثر من طرف سياسي وأهلي أسماء عدة، فالزعيم الشيعي موسى الصدر أسماها بـ” ضاحية المحرومين” ووصفها اليسار بـ”ضاحية البؤس” أما حزب الله فجعلها في أدبياته الأولى “ضاحية المستضعفين”.
من بين كل هذه الأسماء والمسميات نجح النازلون في الضاحيةوالنازحون إليها تهجيراً في تثبيت الاسم الذي اختاروه، على حين أخفق أهلها الأصليون في ترويج تسميتهم، فبقيت محصورة في أوساطهم. غير أن نجاح النازلين وإخفاق الأهالي في شأن التسمية ليس سوى مرآة نجاح أكبر حققه النازلون ألا وهو نجاحهم في جعل هذه المنطقة على الصورة التي يرغبون بمعزل عن رأي أبنائها وطموحاتهم إن لم يكن رغماً عنهم. فتاريخ هذه المنطقة الحديث ليس سوى تاريخ فعل النازحين فيها وتأثيرهم في مجراها، فيما أهالي المنطقة الأصليون لم يكونوا بغالبيتهم حيال الذي يحدث أكثر من شهود ومشاهدين لا يملكون من أمرهم سوى التفرج وحسب.
وحين تسأل عن الجديد في الضاحية يجيبك أهلها القدامى ” كل شيء جديد، لا شيء قديم بعدما صارت هالدني غير دني ” (2) والجديد في لغة أهل الضاحية ليس سوى التغيير الهائل الذي طاول مناطقهم عمراناً واجتماعاً وسياسة.
تغيرت الضاحية على غير ما يرتئي أهلها ويتمنون، هذا أقله ما تشي به حرقتهم إزاء ما انتهت إليه أحوال مناطقهم، وما يؤكده ضعف إسهامهم في هذا التغيير إن لم يكن انعدامه، فالذي غير الضاحية ليس أهلها وليس سنن الزمن والتطور بل أغيار قدموا إليها في صورة اللاجىء والمهجر.
منذ مطلع عهد الاستقلال كانت مناطق الضاحية الجنوبية قد بدأت بالتحول إلى قبلة سكن وإقامة للنازحين إلى المدينة من الأطراف لكنها هجرات بقيت في جانب كبير منها هجرات فردية، شملت في عدادها متنوعين دخلاً ونسباً، فلم تعرف هذه المناطق،_أقله حتى خمسينيات القرن الفائت، تاريخ قدوم اللاجئين الفلسطينيين إليها_ لم تعرف الهجرات الجماعية، تلك التي كانت اثنتان منها كفيلتين بتغييرها. الأولى كانت فلسطينية مع إنشاء مخيم برج البراجنة في عام 1950 والثانية شيعية (من الجنوب والبقاع) بدأت بعد حرب العام 1958 لتعود وتتفاقم إبان الحرب ابتداءً من العام 1975 ، لا سيما غداة التهجير الذي طاول الشيعة من قاطني الضواحي الشرقية ومن جنوب لبنان.
نزول الفلسطينيين
قدم الفلسطينيون إلى الضاحية في العام 1950 فنزلوا في برج البراجنة حيث أنشىء المخيم على تلة رملية محاذية لطريق المطار. بداية لقي الفلسطينيون كل حفاوة وترحاب نظراً للتعاطف الكبير مع مأساتهم. فكانت العلاقات بنازلي المخيم جيدة، واتسمت بالود المتبادل، ولم يعكر صفوها سوى بعض الإشكالات الفردية التي كانت تحدث بين الفينة والأخرى بين شبان من الخيم وآخرين من أهالي المنطقة. غير أنها لبثت إشكالات محدودة النطاق ولم يكن لها أن تعبر عن حالة عامة من النفور والعداء أو الضيق بالنازلين الجدد في أوساط أهل المحلة.
فالنازلون الجدد يومها كانت أمارات الضعف غالبة على صورتهم، وبسبب من ذلك، ما كانوا ليلوحوا لأهل المنطقة كمصدر تهديد واستفزاز. كما أن الظن المشترك، أكان في أوساط اللاجئين الفلسطينيين أو في أوساط أهل المنطقة على السواء، بأن وضعية اللجؤ ليست أكثر من حالة مؤقتة وعابرة لا بد أن تعقبها عودة اللاجئين إلى ديارهم، واطمئنان الطرفين إلى حتمية حصول هذا الأمر عاجلاً أم آجلاً، جعل الفلسطينيين من جهتهم لا يطلبون شيء آخر أكثر من الإقامة وجعل أهل المنطقة لا يرتابون بنزول الفلسطينيين في منطقتهم وتأثيره فيها.
ظلت هذه الحال سارية نحو عقد ونيف، إلى أن كان العام 1967 وتحديدا شهر حزيران منه ، الشهر الذي شهد هزيمة الجيوش العربية أمام الجيش الإسرائيلي، واحتلال الأخير المزيد من الأراضي في فلسطين ومصر وسوريا والأردن، الأمر الذي كان له الأثر الكبير على طرفي العلاقة: اللاجئين الفلسطينيين وأهل الضاحية.
دلت هزيمة العام 1967 ، كما جرت العادة تسميتها، على ضعف الجيوش العربية ونكوصها عن حمل مهة استرجاع الأرض. وبدوره أرسل ضعف الجيوش العربية رسائل شكيرة في أكثر من اتجاه. فبالنسبة للفلسطينيين جاءت هزيمة 67 لتبدد ما كان ترسخ في ذهنهم من أن العودة إلى الوطن معقودة اللواء على الجيوش العربية. هكذا فبعدما جوبهت الإتصالات الأولى بالمقاومة الفلسطينية بتحفظ شديد من عائلات المخيم الفلسطيني في برج البراجنة، أسهمت الهزيمة في ارتفاع حظوة المقاومة في أوساط الفلسطينيين بشهادة عمليات الالتحاق الواسعة بالمقاومة الفلسطينية غداتها. هذا بالنسبة للفلسطينيين، أما بالنسبة لأهل المحلة من مسلمين ومسيحيين فكان أول ما فعلته هزيمة 67 أن أسقطت صفة المؤقت عن اللاجئين الفلسطينيين؛ وما زاد من حدة الأمر وبعث القلق في نفوس الأهلين الطابع العسكري الذي راح يتخذه الوجود الفلسطيني، هذا الذي تبدى في طفرة الانضمام إلى المقاومة الفلسطينية وسط أبناء مخيم برج البراجنة.
بداية خروج الضاحية على الدولة
لم يكن انخراط فلسطينيي المخيم في صفوف المقاومة بعيد الأثر عن شكل العلاقة بالجوار اللبناني الشيعي والمسيحي في محيط المخيم، فقد أفضت عسكرة الوجود الفلسطيني إلى رجحان كفة أهل المخيم على أهل المحلة.
في البداية تمكن المسلحون الفلسطينيون من انتزاع المخيم من سلطة الدولة، وشيئاً فشيئاً راحت سلطتهم تتمدد خارج حدود المخيم لتشمل جواره (3) ؛ فحين حصلت أولى المجابهات بين المقاومة الفلسطينية والدولة اللبنانية وانتهت بهزيمة الدولة وشرعنة المقاومة الفلسطينية من طريق اتفاق القاهرة، جرى تثبيت سلطة المقاومة على مناطق واسعة من الضاحية الجنوبية، فكان هذا فاتحة خروج الضاحية عن سلطة الدولة الجامعة التي لم ترجع اليها حتى الآن.
بديهي أن الجوار، لا سيما الشيعي، لم يرق له الأمر في البداية ولم يستطع الأقرار بسهولة بأن من كانوا مسودين عليهم أضحوا هم سادتهم (4) لكنه في خاتمة المطاف رضخ للأمر الواقع وماشاه على خفر. هذا كان حال الشيعة، لكن المسيحيين من سكان حارة حريك كان أمرهم على النقيض من ذلك، حيث بعثت عسكرة الفلسطينيين في الجوار، مصحوبة بتهاوي سلطة الدولة في المنطقة، بعثت في نفوسهم القلق وحملت البعض منهم على الرحيل من المنطقة إلى مكان أكثر أمناً، حتى أنه، إن كان لأحد أن يعين تاريخاً محدداً لبدء نزيف الهجرة المسيحية من المنطقة، جاز له القول بتزامنها مع خروج المخيم على سلطة الدولة.
بيد أن هجرة المسيحيين بعامة من المنطقة لم تبق مستندة على مخاوف وحسب، بل زاد على ذلك اعتداءات تعرضوا لها في أكثر من محطة جاءت كترجمة أمينة للمخاوف المسيحية إياها. فمنذ العام 1969 تاريخ خروج المخيمات الفلسطينية على سلطة الدولة تحول المسيحيون من أهالي حارة حريك إلى رهائن يجري الاقتصاص منهم كلما تعرض الفلسطينيون إلى اعتداء من أي طرف لبناني وفي أي مكان على الأراضي اللبنانية. هكذا، فبعد حادثة الكحالة التي وقع ضحيتها عدد من الفلسطينيين كانوا متوجهين إلى دمشق لتشييع أحد شهدائهم، وجد مسلحو المخيم في مسيحيي حارة حريك بديلاً مناسباً للاقتصاص من المتهم المفترض باعتداء الكحالة فنظموا هجزماً على حارة حريك من طرف واحد حيث لم يسجل خلال “المعركة” التي استمرت اكثر من 18 ساعة أي حالة إطلاق نار مصدرها حارة حريك (5) . لكن، وعلى الرغم من ذلك، وبسبب ضعف شوكة أهالي الحارة المسيحيين، أجبر هؤلاء على الاعتراف الضمني بأنهم كانوا طرفاً في الاشتباك. ومنذ ذلك التاريخ اطردت حركة النزوح المسيحي من حارة حريك فلم يبق فيها حتى العام 1983 سوى من لم تسعفهم حالتهم المادية على ترك مسقط رأسهم، حتى إذا ما قتل ميشال واكد اليساري أبن حارة حريك وداعية بقاء المسيحيين في بلدتهم، فهم الجميع الرسالة فشدوا الرحال إلى جهة آمنة لا يكونون فيها مادة اقتصاص كلما خطر ببال أحد الأطراف المحاربة إرسال الرسائل إلى الكتائب اللبنانية الميليشيا المسيحية.
قضى الفلسطينيون على التنوع داخل الضاحية من طريق التسبب بهجرة أهلها المسيحيين، وأسهم التهجير الشيعي إبان الحرب في رفد العسكرة بمادتها البشرية وتأمين دوامها، حتى إذا ما أخلى الفلسطينيون الساحة غداة الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، لم ترجع الأمور إلى سابق عهدها، بل كان الشبان الشيعة من المهجرين إلى الضاحية، بتنظيماتهم اليسارية والشيعية الصريحة آنذاك، جاهزين للحلول مكان الفلسطينيين وإكمال مسيرة العسكرة في المنطقة، فلم يكن بلا معنى بالمرة أن أوائل المقاتلين الشيعة كانوا من أولئك الشبان الذين تلقوا تدريبهم العسكري على أيدي تنظيمات فلسطينية كانوا أنخرطوا فيها منذ ومن. أما لماذا حل الشيعة الوافدون إلى الضاحية محل الفلسطينيين ولم يؤل ذلك إلى شيعة من أهل الضاحية الأصليين، فهذا يسأل عنه ما هو مشترك بين الفلسطينيين والنازحيين الشيعة من سيرة سوسيولوجية قوامها الهجرة ولحمتها الإقتلاع من الأرض. وبديهي أن مثل هذا التكوين ليس صفة أهل الضاحية الأصليين من الشيعة ولا سمة الجزء الغالب منهم أو أكثريتهم.
فصول من كتاب “بلاد الله الضيقة: الضاحية أهلاً وحزباً”، الصادر عن “دار الجديد” تُنشَر تباعاً بإذن من المؤلّف
(1) المقصود بهذا الوصف هم السكان الذين تعود أصولهم إلى بلدات في منطقة الضاحية وهم يتوزعون بشكل رئيسي على الطائفتين الشيعية والمارونية مع أقلية سنية .
(2) تغيرت كثيراً الحارة علي، هنا مثلاً، حيث اقترعت للتو كانت المنطقة كلها بساتين خضراء،…) هذا ما قاله الجنرال ميشال عون إثر قيامه بالاقتراع للمرة الأولى في مسقط رأسه حارة حريك التي لم يزرها منذ العام 1983 . من موقع www.tayyar.org .
(3) نقد السلاح الفلسطيني ، فيصل جلول (دار الجديد، ص 54، 55)
(4) المصدر السابق ص 59
(5) صحيفة النهار اللبنانية ، فيصل جلول نقد السلاح الفلسطيني، ص 74