(مقالة عقب زيارتي الأخيرة)
في منتصف رمضان دعيت وزوجتي للإفطار على مائدة صديق لي عربي. في صالته تلفاز كبير وقنوات عربية كثيرة و أغاني رمضان و مسلسلاته “والذي منه” كما يقال في العامية المصرية.
المهم انني انتابتني موجة من الشوق او الحنين الى اللغة العربية والبرامج العربية و غيرها لأبقى على إتصال ببلدي و لو معنويا.
وبسبب هذا الشعور بالـ’نوستالجيا’ قررت ان أشتري دشا عربيا برغم اني مقل في مشاهدة التلفاز الى حد الندرة، لكني تساءلت لم لم أشتر دشا عربيا الى الآن؟
…السؤال هذا اجاب عليه وصولي الى لبنان في إجازتي الشهر الماضي و متابعتي لبعض البرامج على القنوات المحلية.
ليس لدينا في لبنان قناة تلفزيونية مجردة، بمعنى انها قناة تلفزيونية من حيث انها مصدر رزق او مجال عمل كغيرها من مجالات الأعمال. بل كل قناة ناطقة بهوى فئة او حزب ليس لها من السياسة الا ما يخطّه “الزعيم”.
المستقبل ‘حريرية’ و الـ”إن بي إن” للـ’أستاذ’، و الـ”أو تي في” ‘للجنرال، و هلم جرا.
لا تملك ايا من المحطات نظرة واقعية او موضوعية او محايدة… انا حتى لا أريدها محايدة بل اقنع بأن تكون مسيسة تسييسا خفيا او منحازة على خجل بدل الإنحياز الواضح الفاضح. ثم يأتي مثل هؤلاء الزعماء و الصحفيين المحسوبين على القناة وخطها السياسي ليحدثونا عن الطائفية وليدعي كل حزب\قناة الوطنية!!! عجيب امر لبنان و ساسته، كل يدعي وصلا بليلى.
أحن الى بلدي و أشتاق كل فترة ان أراه و أزوره، و كل سنتين تقريبا أسأل زوجتي، ما رأيك لو نعود؟ او متى ينبغي لنا العوده؟
تتركني لتساؤلاتي وتقول: متى قررت أعلمني.
ثم أزور لبنان فأجد الجواب جاهزا…
أعترتني موجة التساؤل هذه قبل سفري بحوالي شهر. وما زلت متسائلا حتى زرت البلد…
ما هي الا يومين او ثلاث حتى تذكرت السبب…
للأسف انا انسان “مطيف”! أقصد بهذا “منسوب الى طائفة” -بالرغم اني ابعد ما أكون عن الطائفية او الإنتماء الحزبي او السياسي.
و لست في هذا وحدي، بل كل لبناني”مطيف” شاء ذلك ام أباه. الطائفة تفسر وجودنا وتسيّسه لصالحها- او الأحرى لصالح زعمائها. الفرد غير موجود من حيث كونه فردا ولا من حيث كونه لبنانيا بل هو موجود للطائفة وبالطائفة.
تسير في الشارع فلا ترى الا وجوه “الزعماء”، كل في منطقته. ثم تسير في بعض الأحياء و الصور في مداخل الأحياء تحوي “آيات الله” و “أرواحه”! نصفهم ليسوا عربا، بغض النظر عن كونهم ليسوا لبنانيين.
صور رجال بالعمائم هنا و هناك. في أزقة أخرى، صور اصحاب البدلات. و البلد ضائع ما بين لحى هؤلاء وربطات عنق أولئك.
ولا تستطيع ان تتكلم في السياسة إن كان لك نظرة أخرى للأمور، خاصة إن إختلفت مع توجه الطائفة العام وخطها السياسي، لأنه ببساطة “بدّك تفهم أكتر من فلان، تخّنتها”، ليصبح الناخب وبعيد اللحظة الإنتخابية مجرد تابع، لا صوتك ‘بيودّي’ و لا له معنى أساسا.
لا شئ يحز في قلبي مثل الولاءات الخارجية. صور الذين يلعبون بالوطن ويسيؤون اليه بتحالفات غريبة مشبوهة مرفوعة في الشوارع و الأزقة، يُهتف بإسمهم بمناسبة و بدونها.
أنا لا أفهم الشعب الذي يدعي انه أكثر العرب ثقافة وعلما لا يزال يبيع صوته الإنتخابي بحفنة دولارات لا تكفيه آخر الشهر.
ننتخب ثم ننتظر زعيمين ليتصالحا ليباركا لنا الحكومة الجديدة و يعمداها!
لو كان الأمر بيدي لما عمل معتمّ بالسياسة أيا كان دينه!
ولكنت سحبت حق المزاولة السياسية من كل من يستخدم عبارات التخوين والعمالة و كل من يحتكر الفهم و الوطنية.
ما علينا، بينما كنت اسمع الأخبار – وكل لبناني مطيّف يسمع الأخبار من قناة الطائفة المعتمدة لا غير و أحيانا من قناة الحلفاء- رأيت من الناس من يسب و يلعن كلما ذكر إسم فلان من طائفة أخرى مناوئة.
التخوين في كل شئ و العمالة في أصغر القرارات..
الناس لا يتفكرون في مقال الخصم أبدا، ولا يعملون عقلا و لا يستعملون منطقا. فكل كلام الخصم مُملى عليه من فلان وعلان من الخارج، و كل إقتراح العوبة ومؤامرة – شئ يصدّ النفس والله.
لكني سلمت، لأنني وعدت نفسي ان لا احادث أحداً في سياسة و لا أرد و لا أبدي وجهة نظر فصمدت ووفيت، لكن صبري امتحن الى آخر ذرة.
إن مشكلة وكلاء الحق الحصريين ان كل ما عدا فهمهم ناقص ولا قول الا قولهم، وسيف الطعن في الذمة و الأمانة و الولاء جاهز.
أصغر كلمة قيلت لي في السابق حين كنت ساذجا بما يكفي لأبدي رأيي كانت “غسلوا دماغك” أو “هذا كلام عملاء مدفوعين”. فقلت “يا إجماعة انا لست عميلا ولي رأيي و إن خالف رأي ‘الزعيم’ ونظرته و لم يدفع لي أحد أي شئ و هذا حسابي انظرو فيه »!! فيجئ الرد الجاهز “انت تعيش بين أظهرهم – أي الغرب- و لا تفهم الحقائق”. يعني انا ما بين وصفين، اما عميل او لا أفهم!!
أصبحت أكره لبنان، هذا البلد الذي كنت آمل له الكثير.
في أحداث “فتح الإسلام” في طرابلس مات في المواجهة جنود من عدة طوائف و كل طائفة رأت في غيرها العيب و السبب.
هناك من إتهم بالتمويل، ومن إتهم بتكتيف يد الجيش، ومن اتهم بالدعم العسكري و غيره و غيره، فلا الشعب تظهر له الحقائق يوما و لا الساسة يتعقلون ويسكتون ابواق الفتنة المتمثلة بقنواتهم الفضائية.
و يظل الساسة يضحكون على الناس. اليوم يشتم أحدهم الآخر، وغدا على طاولة الغداء، و بعد غد يخرج علينا هذا ليقول لدي إثباتات بتورط أناس في كذا و كذا و لكن لن نعلنها! لكن لدي الأدلة، لا تجبروني على نشرها!!
شئ مضحك ، هيك، كل لديه دليل و كل يتكلم من باب”بلاش أفضح المستخبي”!
و الكل يلعب نفس اللعبة الوسخة و لا أبرئ منها أحدا!!!
و الشعب، يستعطف هذا و ذاك لقمة عيش و حفنة دولارات.
في أثناء الإنتخابات سمعت عمن دفع الأموال و من حجز التذاكر وغيرها و غيرها، و كل زعيم يريد ان يقنع الشعب انه الوحيد النزيه والباقون إشترو أصواتهم!
إييه لك الله يا لبنان. بلد ليس له وزن ولا قيمة عالمية تذكر، لو غاب عن الأرض غدا لما إفتقد. تُخَوِّن (بضم التاء وتشديد الواو المكسورة) كل طائفة غيرها- و غير حلفائها طبعا- ولا افهم كيف نجا هذا البلد من الإحتراق الكلي.
فلا الثقافة التي نفخر بها علمتنا، ولا الحرب التي خضناها أفهمتنا ان لا مفر من الأخذ و الرد مع بعضنا البعض بسلام.
إجازتي امضيتها في لبنان عشتها قرفانا منزعجا لا نفس لي على اي شئ..
فبعض الساسة يحتكرون الله، وبعضهم يحتكرون الحق، والآخرون يحتكرون التقدم وغيرهم يحتكرون المقاومة والوطنية و الديمقراطية، وقس على ذلك!!
انا ما عدت أريد قنوات عربية تنغص علي حياتي. ولا انا مشتاق لسماع الكلمة اللبنانية ولا اللحن البناني.
حياة الغربة المنعزلة على علاتها الكثيرة ـحمدُ مائة مرة من العيش في مثل هذه الظروف و مثل هذا المحيط السلبي المريض الممرض وأنا لست بحاجة لدش يذكرني بذلك بإستمرار.
doctor.nassar@googlemail.com