عشتُ عشر سنوات بعيدة عن بيروت. وفي كل صباح باكر من هذه السنوات كنتُ أستفيق بسؤال سرّي لا يدوم أكثر من عِشْر اللحظة: «أين البحر يا ترى؟ من أية جهة هو الآن…؟». ولا أكمل السؤال حتى يحلّ الوعي ويكون الجواب السريع بأنني أسكن في مدينة لا بحر لها. اشتقتُ الى البحر يوميا، وأنا عائشة على ضفاف النيل العظيم. لذلك، عندما قررتُ العودة الى بيروت، والاستقرار فيها، كانت عيني من بعيد على شقة امام البحر. غريزيا قصدتُ ذلك. من دون حساب، من دون منطق «واقعي». فكانت الاستحالة، أو المفاجأة التي خشيت من وقوعها، رغم توقعي حصولها… أيضا في مكان سري ومحظور من عقلي.
أولى محاولاتي كانت مع «جو» السمسار، جاري القديم؛ الذا بدى كأنه «يقدَر» حسابي بالمليونين او الثلاث ملايين دولار فقط. لذلك، وقع «إختياره» على شقة عالية، ليست تماما على الواجهة البحرية، لكن ارتفاعها يسمح للقاطنين فيها برؤية البحر وقليل من الجبل من جهة الصالون وغرفة الطعام والمطبخ، ومن غرفتي نوم من غرف الشقة الثلاث. وبالسؤال الطبيعي عن سعرها، أجاب «جو» السمسار: «انها لك هذه الشقة. ومن اجلك سوف أخفّض سعرها… أستطيع، من اجلك، ان أجعلها بمليون دولار، بدل مليون دولار ونصف. انها ببلاش (مجانية) لو نظرتِ الى…«. وكأنه يوحي، بأنه بهذا الخفض «الحبّي» للسعر، يحفظ لي المليونَين المتبقيَين من الهدر. اذ «يعلم»، قبل أن أعلم أنا، بأن شقق الواجهة البحرية «تدور حول» المليونين وأحيانا الثلاثة ملايين دولار. هو الحريص على جيبي واموالي بحكم الجيرة السابقة.
«جو» كان فاتحة السماسرة وأقلهم خداعا، على ما لاحظتُ بعدما تعاملتُ مع سماسرة آخرين. فهؤلاء منكبّون فقط على ستر عيوب الشقق التي يعرضونها عليك، وبلهاث غريب يشدّدون دوما بأنها الشقة «اللقطة»… الخ. وهم عادة الذين يدلّونك على شقق أكثر تواضعا من تلك الواقعة على البحر. ذاك اني تغيرت وجهتي وصرتُ اكثر واقعية. ولا أبحث عن غير شقة للايجار في واحدة من الاحياء الممكنة. اما المكتب العقاري الأكثر «مهنية» من السماسرة، او هكذا يفترض بأناقته وتنظيمه الظاهرّين، فلا يبدو مستعداً لتكليف مندوباته بالخروج من هوائه المكيف إلا اذا فاقَ ايجار الشقة الشهري مبلغ 1250 دولارا. مدفوع سنة سلفا مع مكافأة المكتب «بمبلغ شهر… مدام!»… وعلامات الاستياء الواضحة على تواضع السعر المعروض.
فقررتُ بأن السماسرة لن يفيدوني بشيء، واتّكلتُ على نفسي: سوف أبحث بنفسي عن شقة بالتجول مشياُ على الاقدام في الاحياء التي أرغب بالسكن فيها، أو أحلم بالسكن فيها. والرغبة المباغتة بالحلم تحضر عندما تغلب لذة النظر على المصلحة المباشرة…
بعد مشوار او ثلاث، فكرتُ بأن اصور ما أراه من عجائب البنية المعمارية الجديدة. لكنني عدلتُ. فقد يعتقد من أتوجه اليه بالسؤال عن شقة، ويكون عادة الناطور، بأنني من تلك اللبنانيات حاملات الجنسيتين، مغتربة ثرية لا تعرف البلاد… فيزيد ايجار الشقة.
صار هذا نزهتي اليومية… جلتُ طويلا. كان نظري لا ينزل عن سماء العمارات العالية، لا ينزل الا امام البيوت القديمة النادرة، أو العمارات الأقل قِدَما. والخاطر الذي يلحّ عليّ: «أين أحب ان أسكن؟ ولكن… أين أستطيع أن أسكن؟». وتصدّ عيني أشياء نافرة: تكدّس البيوت والعمارات بعضها على بعض، إختفاء الاطفال من الشوارع، تبدّد المساحات الخضراء، سيطرة ناطحات سحاب جديدة على السماء، وهيمنتها على الناطحات القديمة حتى تصير قزَمة بازائها. وتستوقفني أشياء أخرى: مثل الفرز الطبقي الجديد للأحياء. من يتذكر منطقة الكولا منذ سنوات؟ وحتى بعضها الآن؟ حي شبه فقير، بعضه من صفيح والآخر أقل فقراً… هكذا كان. ألآن ترتفع على مساحاته الضيقة مجمعات سكنية ضخمة لا يقلّ سعر الشقة فيها عن المليون دولار.
أو البيوت القديمة النادرة الآن، المحاصرة بالمرتفعات الاسمنتية وحدائقها الآخذة بالتقلّص. من يسكنها يا ترى؟ أغنياء قدماء؟ فقراء جدد؟ هل يصمدون؟ أم «يبيعون» كما يفعل نظرؤهم ويغتنون؟ أم ان الورثة سيفعلون؟ ام انهم لا يحتاجون؟ لا أغنياء ولا فقراء؟
واذا كانوا فقراء، فهم محظوظن من بين ابناء طبقتهم الجديدة. يستمتعون بالمساحات الرحبة لبيوتهم المهلْهلة. فالبيوت الجديدة واضحة الفرز من هذه الناحية. كلما ارتفع سعر الشقة، كانت مساحتها رحبة واسعة، كاشفة الضوء والبحر والسماء. والعكس ايضا: شقق الفقراء تضيق بهم، بالعتمة التي يضيفونها على بيوتهم، لكثرة عددهم ربما.
لكن أغلظ ما يقع عليه نظري هي تلك العادة، ذاك التقليد المعماري الشنيع، إنسانيا ومعماريا: عادة إرتفاع العمارة بلصق عمارات اخرى، أو في وجهها. من دون حساب لا للجمال ولا للرحابة ولا للنظر. حتى لو كانت الجهة الملصوقة واجهة الشقة الاولى، أي صالونها، او فروعها، أي غرف النوم والمطبخ. كم من سكان بيروت، استفاقوا يوما ولاحظوا، وبالكثير من الحكمة والقدرية، بأن نوافذ غرف النوم عندهم باتت مسدودة بسور اسمنتي؟ أو بأن صالونهم، بدل ان يطلّ على البحر او الجبل او على شيىء… باتَ الآن يطلّ على بناء شاهق، لا يفصله عنه اكثر من مترين او ثلاثة على الأكثر. قصص وحكايات تسمعها اثناء تجوالك. ذلك الوجيه الذي احتفل منذ 15 عاما بانتقاله الى شقة فخمة، ها هو الآن يواجه عملاقا اسمنتيا ملتصقا ايضا ببيته، يسدّ عليه نوافذه وشرفاته؟ او ذاك المبنى الضخم حيث تؤجَّر الشقق المفروشة ليوم او شهر او سنة، وبأسعار سياحية. واجهته محطَة وقود «فخمة» ومدخله من خلف المحطة! او تلك الصديقة التي ترى في احدى الشقق «لقطة» تريد المسارعة في شرائها. وعندما تأخذني اليها وتشرح لي «وضعيتها»، تقف في شرفة الصالون وتقول: «منظر بديع. بحر وجبل. نستطيع ان نستمتع بهما لبضعة اشهر قبل ان تطلع عمارة بوجهنا تحزرين منذ الآن مدى إرتفاعها». ثم تشرح من جهة غرفة الطعام: «ترين البحر هنا ايضا، او قطعة منه… لكن لا للأرض الفارغة الآن، الملاصقة لهذه الجهة، ان ترتفع فوقها عمارة ايضا، تحجب قطعة البحر. فلا يبقى لنا، بعد سنة ربما، غير قطعة بهذا الحجم من البحر»… مشيرة بأصابعها الاثنين الى ضيقها.
ولكن ايضا، وربما هذا ثأر الطبقات المغلوبة: هل أرغب فعلا بالسكن في ناطحات السحاب الواقعة على شاطئ البحر؟ كلا… بعد هذا التجوال. ليس فقط تأدّبا. اذ سوف أشعر حينذاك يوميا بالحاجة الى الاعتذار من الذين خرّبتُ عليهم متعتهم في بيوتهم الأقل إرتفاعا. وهذا باب من ابواب الذنب الطبقي، أخلاقي اكثر من اللزوم. لكنه موجود. بل هناك باب اكثر واقعية: لن يكون بوسعي، لو أخذت بيتا هناك، التمتّع، الا بين جدران الشقة الفخمة المطلّة على البحر. فالكورنيش ليس حياً سكنياً سوف يطيب لي التفاعل مع مكوَناته. بل هو مرتع المتنّزهين من الطبقات الأقل يسراً، ومرتع أبواق السيارت والأغاني الصاخبة المنبعثة منها والتشْفيط والزحمة اليومية الخانقة، والسواح جماعةً بحافلات «البولمان» الضخمة. ولا ينعم الكورنيش بلحظة هدوء بعد عودة هذا الحشد الى نومه. فهو طريق المشاة الرياضيين المبكرين والسكارى والرافضين إنتهاء السهر وصبيان الموتوسيكلات الصاخبين، مطلقي العبارات السوقية باعتزاز…
من أين نستطيع ان نرى بيروت، أن نتفاعل مع صورتها وإرتفاعها ورائحتها وألوانها… لو كنا من سكانها، أغنياء أو فقراء أو متوسطين؟ هل ندير الظهر لناسها ونتنسّك لبحرها، أو للنوادي الخاصة؟ أم ننغمس بهؤلاء الناس ولا تعود لنا سماء ولا بحر إلا بطعم نزهة سيارة ورائحة بنزين؟ ان نرى بيروت ولا نراها في نفس الوقت؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل