خسرت الفلبين وجنوب شرق آسيا في الأول من أغسطس الجاري امرأة حفرت لنفسها مكانا في التاريخ الآسيوي رغم دخولها المتأخر للمعترك السياسي، وتواضع مواهبها السياسية والعلمية، ناهيك عن خلو الفترة التي عاشتها داخل قصر “مالاقانيان” الرئاسي، ما بين فبراير 1986 و يونيو 1992 من أية إنجازات اقتصادية أو تنموية كبرى.
والمقصود بهذه الشخصية السيدة كورازون أكينو – أو “كوري أكينو” بحسب اسمها الشعبي التي رحلت عن 76 عاما بعد صراع طويل مع مرض سرطان القولون.
وهذه التي جاءت كرئيسة حادية عشرة للفلبين، وكأول رئيسة للجمهورية في آسيا، واشتهرت بارتداء الملابس الصفراء البسيطة، لها مكانة خاصة في قلوب الفليبينيين، رغم أنها لم تنجز لهم الكثير كما أسلفنا، وتميزت إدارتها بالضعف واتسم عهدها بحالة من اللااستقرار وكثرة الانقلابات العسكرية والعديد من الكوارث الطبيعية.
ومصدر هذه المكانة لم يكن محصورا فقط في صورتها الخارجية المتقاطعة مع صورة السواد الأعظم من نساء الفلبين، شكلا وملبسا وتصرفا وسلوكا والتزاما دينيا، وإنما أيضا في ما مثلته كأيقونة للديمقراطية وكرمز للحرية والانعتاق من قيود الطغيان والديكتاتورية التي كبل بها سلفها الشعب الفلبيني منذ استباقه انتخابات العام 1973 الرئاسية بإعلان الأحكام العرفية في 21 سبتمبر 1972، علاوة على إلغاء دستور العام 1935 الذي كان يحدد فترة الرئاسة، ربما – مثلما قيل – قطعا للطريق على بنينو أكينو الذي كان آنذاك يعتزم دخول السباق الرئاسي معتمدا على تاريخ عائلته السياسية وخبرته العملية الطويلة كسيناتور، ناهيك عن شعبية تحققت له من انتخابه في عام 1955 كعمدة لمدينة كونسيبشيون في إقليم “تارلاق”، وهو في الثانية والعشرين من العمر.
إلى ذلك نظر فلبينيون كثر إلى كوري على أنها تجسيد رائع للزوجة الوفية التي تواصل رسالة زوجها وتحمل اللواء من بعده دون خوف أو وجل من تبعات هكذا عمل في ظل نظام أرعن يعيش على عصاته الأمنية وعيونه الاستخباراتية، بل وجد فيها الكثيرون أيضا نموذجا للأم التي لا تتخلى عن واجباتها الأسرية تجاه أبنائها رغم كل مشاغلها الرسمية ومسئولياتها العامة، خصوصا وأن تلك المسئوليات كانت وقت وصولها إلى سدة الحكم كبيرة ومرهقة بسبب ما تركه سلفها الديكتاتور “فرديناند ماركوس” وزوجته “ايميلدا” وبطانتهما وراءهم من مشاكل وفساد وتسيب وديون عامة وانقسامات داخلية.
وربما لولا حماقة ماركوس في التخلص جسديا من خصمه ومنافسه اللدود “بنينو أكينو” زوج السيدة كوري والسناتور السابق ما بين عامي 1967 و 1983، أي باغتياله في 23 أغسطس 1983 قبل أن تطأ قدماه أرض بلاده التي كان عائدا إليها من المنفى الأمريكي، لما خرجت كوري من مطبخها لتصبح بين عشية وضحاها زعيمة سياسية تقود الجماهير في الميادين والساحات وتلهب حماسهم وتزرع فيهم روح التحدي والانتقام من مقتل كبير معارضي الحكم الديكتاتوري، بل وتستقطب إلى جانبها أيضا رموز الكنيسة الكاثوليكية النافذة وقسما معتبرا من جنرالات وعناصر الجيش والشرطة ممن ساهموا معا في ما عرف بثورة قوة الشعب في عام 1986 والتي أعادت وضع الفلبين على سكة الديمقراطية، وفصلت لها دستورا جديدا دائما يضمن الحريات المدنية ويحدد ملامح المؤسسات الديمقراطية. تلك الثورة التي لا نبالغ لو قلنا أنها ألهمت بدورها أمما أخرى كانت تعيش أوضاعا مشابهة للوضع الفلبيني تحت حكم ماركوس.
نعم! لقد أبت كوري طوال سنوات من ارتباطها بالسيناتور المعارض “بنينو أكينو” أن تنغمس في عالم السياسة، مكتفية بتحضير الطعام والقهوة وتهيئة منزلها لاستقبال حلفاء زوجها من السياسيين، بل قيل أن كوري لم تكن تشارك في حملات زوجها الانتخابية مفضلة الجلوس خلف الكواليس والإنصات لما كان يتفوه به. غير أن هذا الإصرار على الابتعاد عن عالم كان زوجها منغمسا به حتى النخاع، بدأ ينحسر ببطء حينما اضطرت كوري – بسبب حالات الملل التي نمت عنها من العيش في أرياف تارلاق من بعد سنوات الإقامة كطالبة في الولايات المتحدة – إلى مرافقة زوجها ورفاقه السياسيين إلى ولائم العشاء في نادي قاعدة كلارك العسكرية الأمريكية، وبالتالي مشاركتهم حواراتهم عن القضايا السياسية المحلية والخارجية. بعد ذلك، كانت المرة الوحيدة التي خاضت فيها كوري السياسة علانية وعلى مرأى من الجماهير، هي في عام 1978، وذلك حينما خاطبت الجماهير في حملات انتخابية لصالح زوجها الذي كان معتقلا وقتذاك، لكنه كان مصرا على دخول السباق الانتخابي.
ولدت ماريا كورازون سومولونغ كوجوانغكو أكينو في 25 يناير 1933 لعائلة ثرية من أصول صينية وأسبانية وفلبينية مختلطة. وكانت كوري هي الطفل السادس لتلك العائلة التي حرصت على إرسال أطفالها إلى أفضل المدارس. وهكذا أرسلت كوري أولا إلى كلية سانت تشولاستيكا في مانيلا حيث أنهت دراستها في عام 1943 بتفوق ملفت للنظر، وأرسلت ثانيا، وتحديدا في عام 1946 للانخراط لمدة عام واحد في مدرسة كنسية كاثوليكية في مانيلا، وأرسلت بعد ذلك إلى الولايات المتحدة للالتحاق بأكاديمية “رافينهيل” في بنسلفانيا، فمدرسة “نوتردام الكنسية في نيويورك، فكلية مونت سانت فينسينت في نيويورك أيضا. وقبل تخرجها في عام 1953 وحصولها على بكالوريوس آداب اللغة الفرنسية، وشهادة في طرق تدريس الرياضيات – حيث كان منتهى طموحاتها وقتذاك أن تعود إلى الفلبين لتعمل كمدرسة للفرنسية والرياضيات – تطوعت كوري للعمل مع حملة المرشح الجمهوري ” توماس ديوي” الذي كان يخوض انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 1948 ضد المرشح الديمقراطي “هاري ترومان”، فكسبت شيئا من الخبرة التي ستوظفها لاحقا للفوز برئاسة الجمهورية في بلدها. لكن قبل ذلك مرت سنوات درست خلالها كوري القانون في جامعة الشرق الأقصى المملوكة لعائلة زوج أختها الكبرى”جوزفين”، قبل أن تترك الجامعة في عام 1954 لتتزوج من “بنينو سيرفيلانو أكينو جونيور” ابن الرئيس الأسبق للجمعية التشريعية والذي أنجبت له ابنا سار على درب أبيه فانتخب كسيناتور في عام 2007، وأربع بنات هن: ماريا ايلينا كروز، و أورورا كورازون أبيلادا، و فيكتوريا ايليزا دي، و الممثلة ومذيعة التلفزيون “كريستينا برناديت ياب”.
لقد جاءت موافقة الديكتاتور ماركوس على خروج بينينو أكينو وأسرته من الفلبين إلى المنفى الأمريكي في عام 1980 تحت ضغوطات إدارة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر. وعلى اثر ذلك اختار نينو وكوري وأسرتهما الاستقرار في مدينة بوسطون. تلك المدينة التي قالت كوري عنها فيما بعد أنها قضت فيها أجمل سنوات زواجها وعمرها.
ويبدو أن نينو على العكس من زوجته لم يطق الابتعاد طويلا عن وطنه رغم كل المغريات التي توفرت له في بوسطون، فقرر بعد 3 سنوات من الإقامة والعلاج في الأخيرة، وتحديدا في 21 أغسطس 1983 أن يطير عائدا إلى مانيلا دون أسرته، ليغتال بمجرد ملامسة قدميه أرض مطار مانيلا الدولي الذي أطلق عليه لاحقا اسم “مطار بنينو أكينو” تخليدا لذكراه وتضحياته من اجل حرية شعبه. أما كوري وأبنائها فلم يعودوا إلى الفلبين إلا بعد اغتيال نينو بعدة أيام من اجل المشاركة في جنازته والتي شارك فيها أكثر من مليوني فلبيني، وعدت من أكبر الجنازات في تاريخ الفلبين.
فيما خص التطورات التي سبقت فوزها برئاسة الفلبين، لوحظ أنها في البداية كانت زاهدة في المنصب رغم إلحاح الكثيرين – ولا سيما من تايكونات المال والأعمال – عليها بالترشح في انتخابات فبراير 1986 التي دعا إليها ماركوس فجأة في عام 1985 للهروب من تدهور شعبيته ونفوذه، وذلك بحجة أنها الوحيدة القادرة على توحيد الشعب خلفها لطرد ماركوس. وقتها كان مرشح المعارضة الأبرز هو السيناتور سيلفادور لوريل ابن أحد رؤساء الفلبين السابقين. وهذا ماطل طويلا قبل أن يسحب ترشيحه لصالح أكينو، وقبل أن يوافق على ترشيح نفسه لنيابة الرئاسة على قائمة الأخيرة.
وفي انتخابات سادتها أعمال العنف والتزوير والتهديد والحرب النفسية و اتهام المعارضة بالتعاون مع الشيوعيين (من قبل رجال وأنصار ماركوس)، بل سبقها أيضا خطاب غير مألوف على لسان ماركوس الذي استهزأ بكوري وأعلن أنها “مجرد امرأة لا تصلح إلا للفراش” سارع المتنافسان الرئيسيان (ماركوس وكوري) إلى الإعلان عن فوزهما وسط تضارب النتائج وتباين إعلانات اللجان الانتخابية. فبينما كانت مصادر ماركوس تعلن في 7 فبراير 1986 عن فوز الأخير، كانت كوري ترفض تلك المزاعم وتهدد بالعصيان المدني ومقاطعة الأعمال والشركات التابعة لآل ماركوس وحلفائهم، وإنزال الجماهير إلى الساحات والطرقات، ورفض اقتسام السلطة مع ماركوس – بحسب اقتراح الموفد الأمريكي إلى مانيلا “فيليب حبيب”.
ولعل ما قلب الأمور رأسا على عقب لصالح كوري ليس فقط وقوف رأس و أساقفة الكنيسة الكاثوليكية إلى جانبها، وتنديد الإدارة الأمريكية بنتائج الانتخابات التي أعلنها ماركوس، وإنما أيضا ما حدث في 22 فبراير 1986 والذي يعتبر يوما مفصليا في ثورة قوة الشعب. ففي ذلك اليوم أعلن اثنان من كبار أنصار ماركوس (وزير الدفاع خوان بونسيه انريلي ونائب رئيس أركان الجيش فيدل راموس) تمردهما عليه وانحيازهما إلى الشعب، مع اعتكافهما في قاعدتين عسكريتين في كويزون سيتي، حيث تجمعت الجماهير بقيادة كوري وبدعوة من الكاردينال “جيمي سين” بهدف عمل درع بشري يحول دون اقتحام قوات ماركوس للقاعدتين. ويمكن ملاحظة مدى أثر هذا الحدث على مجريات الأمور من أنها مهدت الطريق لكوري كي تقف في صبيحة يوم 25 فبراير 1986 في “كلاب فلبينو” في سان خوان لتؤدي اليمين الدستورية كرئيسة للبلاد أمام قاضي قضاة المحكمة العليا، فيما كان ماركوس يؤدي وحيدا نفس القسم بالتزامن في قصر “ملاقانيان”، لكن ليقرر الهرب من غضبة الشعب إلى هاواي عشية اليوم نفسه مصطحبا معه زوجته وأبناءه.
أن المرأة التي وحدت الفلبينيين خلفها للتخلص من الديكتاتورية، وحدتهم مرة أخرى في أوائل هذا الشهر، حينما اشتركوا جميعا في وداعها رغم كل التباينات الطبقية والانقسامات الجهوية الموجودة في مجتمعهم. والأمر الآخر الذي لا بد من الإشارة إليه هو أن كوري بقدر ما كانت شجاعة في مسيرتها الطويلة ضد الظلم والطغيان، وفي تصديها لسبع محاولات انقلابية، كانت أيضا شجاعة في مقاومتها للمرض. فهي رغم علمها منذ 24 مارس 2008 أن أيامها باتت معدودة، فإنها ظلت حتى آخر لحظة في حياتها تشارك في الأنشطة العامة وتتردد كعادتها على الكنيسة للعبادة، وتستقبل ضيوفها، وتحرص على أن تغرس في الأجيال الجديدة قيم التصدي لكل من يحاول تغيير دستور البلاد من اجل إطالة وجوده في السلطة أو إعادة انتخابه لأكثر من فترة.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh