استكمالاً لما بدأناه في الأسبوع الماضي حول مُبادرة مركز ابن خلدون للمُصالحة الوطنية في مصر المحروسة، تحدثنا عن توقيتها ـ أي لماذا الآن؟ وقلنا أنها تأتي استعداداً للانتخابات البرلمانية المُقرر لها أكتوبر 2010، وقبل عامين من الانتخابات الرئاسية المُقرر لها أكتوبر 2011.
وقد دخل على الخط، قداسة البابا شنودة، دون سابق إنذار، واستبق معركة الانتخابات الرئاسية، بمُبايعته لترشيح نجل الرئيس، لكي يرث السُلطة في حياته أو بعد مماته. وأثار تصريح البابا، بلا شك، أستحسان أسرة الرئيس، وأعضاء الحزب الوطني، وبعض الأقباط. ولكنه أيضاً أثار استهجاناً واسعاً بين أقباط آخرين، وبين مُعظم المسلمين.
وقد تزامن تصريح البابا مع أحد اللقاءات الدورية لتحالف المنظمات المصرية في أمريكا الشمالية، وهو تحالف يضم حوالي عشر منظمات، بما فيها أهم وأكبر منظمات أقباط المهجر. وكان د. مصطفى الفقي، رئيس لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشعب قد طاف، منذ شهر، بالولايات المتحدة، وتحدث إلى تجمعات أقباط المهجر في كنائسهم، للترويج لنفس الشيء. وكان ذلك سبباً للاصطدام ببعض من استمعوا إليه في حينه، من نفس الأقباط الذين ناشدهم لمُبايعة آل مُبارك. ومما قاله لهم، وتندّروا عليه بأصوات مُرتفعة، “أن الأقباط يعيشون أزهى عصورهم في ظل عهد مُبارك. وأن الذي يتولى رعايته وحراسته ليلاً هو ضابط قبطي”!. وغفل أو تغافل الرجل عن أحداث عدة فتن طائفية راح ضحيتها عدد من الأقباط في نفس أسبوع زيارته.
وبنفس التندر والاستهجان الذي قوبلت به تصريحات د. مصطفى الفقي، قوبلت تصريحات الأنبا شنودة، في الترويج لآل مُبارك بين أقباط المهجر.
ولكن فضلاً عن التندر والاستهجان، سأل بعضهم لماذا فجأة يهتم النظام باسترضاء أقباط المهجر؟
وجاءت الاجتهادات التالية من الأقباط أنفسهم:
1ـ لقرب تاريخ زيارة الرئيس مُبارك للعاصمة الأمريكية، والتخوف من قيام الأقباط بالمُشاركة في مُظاهرات ضده، للمُطالبة بالديمقراطية لكل المصريين، والمواطنة الكاملة للأقباط.
2ـ اعتقاد النظام أن الأقباط المصريين قد أصبحوا كُتلة تصويتية لا يُستهان بها داخل أمريكا. وقد أصبح أعضاء الكونجرس، والرئيس الأمريكي نفسه، يحسبون لها حساباً ملموساً. وهذا ما يُفسر إشارة الرئيس أوباما إلى حقوق الأقباط، في خطابه بجامعة القاهرة. ويبدو أن هناك من همس في أذن أقطاب النظام، بأن عليهم بالأقباط عموماً وأقباط المهجر خصوصاً، إذا كان آل مُبارك يُريدون ضمان الرضا والتأييد على الساحة الأمريكية.
3ـ أن هذا الهجوم الغرامي من النظام نحو أقباط المهجر هو أمر مؤقت إلى أن تتم زيارة مُبارك لأمريكا واستكمال سيناريو التوريث، ثم العودة لضرب الأقباط بالأحذية القديمة للنظام، من خلال أجهزته الأمنية.
4ـ عكس ما ورد في الاجتهاد الثالث أعلاه، قال البعض أن الغزل مع الأقباط والأمريكان والأوروبيين والإسرائيليين هو جزء من مُخطط مُتوسط المدى لضرب الإخوان المسلمين، ضربة قاصمة، لا تقوم لهم بعدها قائمة لا في الانتخابات البرلمانية ولا الرئاسية. وبالتالي يمضي سيناريو التوريث بهدوء وسلاسة.
ويبدو أن لهذا الاجتهاد الرابع شواهد عديدة، ليس أقلها هذا التزامن والتواكب في زيارات أقطاب النظام للعاصمة الأمريكية، ولقاءاتهم بأعضاء الكونجرس ومُستشاري البيت الأبيض، وحتى أقطاب اللوبي الصهيوني المعروف باسم “إيباك” (Iappc).
بل وأضاف بعض من شاركوا في اللقاء الدوري لمنظمات المصريين في المهجر الأمريكي، أن وفود الغزل من مسئولي النظام أحجمت الملف الإيراني لاسترضاء اللوبي الصهيوني (إيباك). من ذلك أن “مصر” تسمح الآن للبواخر الحربية الإسرائيلية بالمرور في قناة السويس، في طريقها لبحر العرب والخليج الفارسي، استعداداً لضرب المواقع النووية الإيرانية.
ولكن ما يُهمني التعليق عليه في هذا المقال هو مسألة استخدام النظام للإخوان المسلمين “كفزّاعة”، يُخيف بها الأقباط والطبقة الوسطى المصرية في الداخل، والغرب وأمريكا وأقباط المهجر في الخارج. وقد تمرّس النظام وأجهزته الأمنية بهذه اللعبة لدرجة الاحتراف. وها هو البابا شنودة، وقسط وافر من الأقباط ينجرفون إلى مُعاداة “الديمقراطية”، لما تنطوي عليه من انتخابات حُرة ونزيهة، خوفاً من وصول الإخوان للسُلطة، من خلال صناديق الاقتراع.
ورغم أن ذلك مُستبعد في الأجلين القريب والمتوسط، حيث أن الاستطلاعات التي قام بها مركز ابن خلدون منذ عام 1995، والإخوان يحصلون على تأييد يتراوح بين 15و30 في المائة. وقد تأكد ذلك في آخر انتخابات نيابية مصرية عام 2005، حيث حصلوا طبقاً لمصادر ابن خلدون المستقلة على 23% من الأصوات في عموم مصر. ولكن مع مُمارسات النظام والأجهزة الأمنية حُرم الإخوان من 3% مما كانوا يستحقونه من مقاعد نيابية. أي أنه لو كان كل شيء قد تم بالقسطاس الأمير لكان الأخوان قد حصلوا على اثني عشر مقعداً إضافياً، ليصل مجموع مقاعدهم إلى مائة (من 444 مقعد في البرلمان)، بدلاً من ثمان وثمانين مقعداً.
ورغم هذه الحقيقة إلا أن النظام من مصلحته المُبالغة في القوة التصويتية والشعبية للإخوان، للدرجة التي دفعت خُبراء المشهد المصري للقول أنه “لو لم يوجد الإخوان، لقام النظام بخلقهم من العدم!” أي أن النظام يحتاج إليهم “كفزّاعة” يُخيف بها من يُهمهم أمر السُلطة في مصر.
ورغم أن هواجس الأقباط والطبقة الوسطى والغرب من وصول الإخوان للسُلطة، قد يكون لها ما يُبررها، إلا أن ذلك لا يشفع لقداسة البابا الدخول في معمعة المُفاضلات السياسية بين المُرشحين أو المُتطلعين للرئاسة. فهذا أمر “دنيوي”، لا علاقة له بالوظيفة الروحية لأي قيادة دينية ـ لا مسيحية ولا مسلمة. وإلا عُدنا إلى عقلية ومُمارسات العصور الوسطى الأوروبية، حيث كانت الكنيسة تتدخل في السُلطة، ووصل بها الجبروت والفساد إلى درجة المُتاجرة “بصكوك الغفران” ـ أي بيع أماكن في الجنة لمن يملك أموالاً يستطيع بها الشراء!
طبعاً، لم يصل البابا شنودة، بعد إلى هذه الحالة. كذلك لم يُحاكيه بعد شيخ الأزهر أو مُفتي الديار المصرية. فنرجو ألا يفعلوا مثلما فعل هو. بل أرجو أن يتراجع هو عن مُبايعته لنجل الرئيس، أو على أقل تقدير أن يؤكد أنه كان يُعبر عن رأي أو تفضيل شخصي، لا يُلزم به أحداً من أقباط مصر، وأن كل منهم له إرادته الحُرة في تفضيل وانتخاب من يشاء.
أما بالنسبة للإخوان المسلمين فإن عليهم أن يُطمئنوا كل من نجح النظام في “إفزاعهم”. وذلك بإقرار احترامهم لمبدأ المواطنة الكاملة المتساوية لكل المصريين ـ بما فيهم النساء والأقباط وأبناء الديانات الأخرى قاطنة، بل وغير المؤمنين ما داموا من بني الإنسان، الذين ولدوا على تراب مصر وأرضها. وعليهم أن يقرّوا أيضاً بحق كل مواطن مهما كان دينه أو نوعه في شغل أي منصب، بالانتخاب الحُر، بما في ذلك منصب رئيس الجمهورية. وكما نطالب بابا الأقباط بعدم التورّط في السياسة، فإننا نطالب الإخوان المسلمين بعدم التورّط في التمييز بين المصريين. وبذلك فقط تُبنى أحد أركان المُصالحة الوطنية، التي بادر بها مركز ابن خلدون للدراسات الديمقراطية.
والله أعلم.
semibrahim@gmail.com
من سفر المنفى