بقلم فلاح الحسيني
من يعرف الايرانيين ومدى الباطنية المتأصلة في تركيبتهم النفسية والتي انعكست على سلوكياتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية، نتجة لمسار طويل من تراكم التجارب، شكلت فيها مرحلة “الحشاشين” علامة فارقة رسخت هذا السلوك في تركيبتهم على مر العصور؛
من يعرف هذا عن الايرانيين، قد لا تصيبه الدهشة او يتفاجأ من سلوكياتهم السياسية واسلوب تدخلاتهم في ازمات المنطقة، خصوصا الدول العربية على مدى العقود الاربعة الماضية، والتي لا تختلف في جوهرها مع سلوكيات النظام الملكي السابق مع تغيير في نوعية الخطاب وآليات العمل، لكنها تبقى محتدة في المضمون.
من هنا قد لا يكون مستغربا ان يحرص الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس والراعي لكل التنظيمات الشيعية في المنطقة، خاصة في العراق، على نشر صور وجوده في غرفة عمليات فصائل الحشد الشعبي العراقي المنضوية في اطار غرفة عمليات فيلق القدس وقيادة سليماني الاقليمية.
وعلى الرغم من الاتفاق الذي بات يقينا بين طهران وواشنطن حول عملية تحرير الفلوجة، والذي رسم بدقة حدود الدور لـ”قوات الحشد الشعبي” المشاركة في العملية، وان تقوم بدور الاسناد وتنظيف المناطق المحيطة بمدينة الفلوجة وعدم مشاركتها في الدخول الى هذه المدينة. وعلى الرغم من الحرص القيادة العراقية، خاصة رئيس الوزراء حيدر العبادي، على عدم تحويل هذه المعركة الى صراع “طائفي” بين مكونين اساسيين في التركيبة العراقية، اي السنة والشيعة، الا ان الاحساس الايراني بامكانية تحقيق انجاز عسكري مفصلي يعيد للعاصمة بغداد استقرارها وينقل العراق قفزة نوعية الى الامام، كان المحرك الاساس لهذا التصرف الايراني “المشبوه” والذي دفع سليماني الى التحرك على وجه السرعة من مدينة “قم” صباحا ليصل الى بغداد مباشرة الى غرفة عمليات “الحشد الشبعي” ويشارك قيادات فيلقه العراقية التخطيط للعمليات العسكرية، في محاولة “لاقتناص” الانجاز العسكري.
الخطوة التي قام بها سليماني “على وجه السرعة” والحضور الى محيط الفلوجة، تصب في خانة تقديم الذرائع لكل الذي يحاولون تحويل المعركة الى معركة “طائفية”، وتحويل وجوده بالقرب من الفلوجة الى جانب قيادات معروف انتماءها وخطابها الطائفي، الى مادة “سهلة” لدى بعض القوى الاقليمية ووسائل اعلامها من اجل استغلاله و”تعليق ناقوس الخطر” على الوجود السني في العراق، والتركيز في الاخبار التي تبثها وتنشرها على “مجزرة طائفية تحدث لاهل السنة في العراق على ايد شيعية”. وبالتالي قدمت لها ذريعة لتغليف دفاعها عن الجماعات الارهابية في الفلوجة وغيرها بالدفاع عن اهل السنة.
ان تحويل معركة الفلوجة، من معركة ضد الجماعات الارهابية (داعش وغيرها) الى معركة طائفية بين السنة والشيعة، من المحتمل ان يحمل معه تعقيدات كثيرة للحكومة العراقية ولمسار الحرب على الارهاب، خاصة ما يتعلق بعملية استعادة الموصل وانهاء وجود داعش في كل العراق، اذ سيساهم في استنفار القوى السياسية العراقية “السنية” بوجه الحكومة التي عملت في المرحلة السابقة للتوصل الى اتفاق مع هذه القوى على طبيعة المعركة المقبلة في الموصل، وحدود تدخل قوات الحشد الشعبي فيها.
اعادة خلط الاوراق امام الحكومة العراقية، من خلال المساعي الايرانية – بجهود الجنرال سليماني – لتحويل مشاركة الحشد الشعبي الى رأس حربة في معركة الفلوجة، يضرب ايضا كل الجهود التي بذلتها الحكومة في تسليط الضوء والتركيز على الدور الذي يقوم به ابناء العشائر السنية في محافظة الانبار، خاصة ابناء مدينة الفلوجة الرفضين لوجود الارهابيين في مدينتهم، وان معركة تحرير المدينة سيكون من مهمة القوات المسلحة وابناء عشائر الانبار، وتأتي استكمالا للدور الذي قام به الحشد الشعبي، الذي يعتبر جزءا من المنظومة العسكرية للحكومة في محيط المدينة والاقضية التابعة لها في الكرمة وغيرها.
ان ما قام به الجنرال الايراني سليماني في الفلوجة، مع الاعتراف بالدور المفصلي الذي لعبه قبل نحو سنتين في معركة “جرف الصخر” لا يمكن الا ان يكون هدفه حرف الانظار عن الجهود التي تبذلها القوات المسلحة العراقية والحكومة العراقية في التأكيد على ان المعركة ضد الارهاب هي معركة “وطنية بامتياز” وبمشاركة كل مكونات المجتمع العراقي المذهبية والدينية والقومية.
ولعل الباطنية الايرانية ومحاولة تلمس ما ترمي له من اهداف، يساعد على القول بان ما تريده ايران وما تسعى له، لم يعد خافيا على احد ولا يمكن التغطية عليه اخفاؤه في اطار سياسة راسخة لدى هذه القيادة منذ عام 1988 وما بعدها، وان ما يتم الكشف عنه هذه الايام من حوارات سرية بين طهران وواشنطن حول مستقبل العراق، يصب في سياق ما تشهده الساحة العراقية في هذه المرحلة. اي ان الهدف الايراني لا يمكن ان يتوافق مع قيام او تشكيل حكومة قوية ومؤسسة عسكرية موحدة قادرة على ضبط الامور والاوضاع وتعيد للعراق انسجامه ووحدة وقدرته وقوته.
ولعل الحساسية الايرانية قد تفاقمت وازدادت في السنة الاخيرة، خاصة في ظل الجهود التي تبذلها الحكومة العراقية لاستعادة المبادرة العسكرية والامنية في مواجهة الارهاب والقوى الخارجة عن سلطة الدولة، وقد رفع من وتيرة التدخل الايراني السلبي الموقف الذي اعلنه رئيس حكومة العراق العبادي بحصرية السلاح في القوات المسلحة ومؤسساتها العسكرية والامنية. وقد اضيف الى القلق الايراني النجاحات التي حققتها هذه الحكومة في اعادة تنظيم الجيش العراق واعادة بنائه بعد النكسة القاسية التي تعرض لها بعد سقوط الموصل، وهو مسار قد لا يرضي طهران التي اعلنت عن نيتها في العراق عندما اكدت ان الحل في مواجهة الارهاب وتنظيم داعش هو استنساخ التجربة الايرانية في بناء مؤسسة تشبه “قوات التعبئة – البسيج” تكون موازية للمؤسسة العسكرية وتتولى مهمة محاربة الارهاب وفرض الامن والاستقرار في العراق.
ان ما يشهده العراق من انجاز عسكري تقوم به الحكومة العراقية ومؤسستها العسكرية على نصاب وطني جامع، لا يمكن ان يمر من دون محاولات ايرانية وعربية على نصاب طائفي هذه المرة من اجل مصادرة الانجاز. وايضا لا يمكن ان يمر ان يستنفر الجهات الاقليمية المتضررة من عودة الحكومة الى دورها على حساب الميلشيات ومشاريعها الخارجية مستغلة طائفية تحاول ايران عبر جنرالها السليماني من اضفائها على المعركة ضد الارهاب، وهي مشاريع تصب في سياق عرقلة نجاحات عمل الحكومة العراقية التي تسعى لتكون الانجازات التي تتحقق في خانة العراق وابناء العراق بكل انتماءاتهم ومكوناتهم المختلفة والمتعددة.
[…] (الشفاف) […]