حسن فحص – الشفاف
ماذا يعني الاعلان الإيراني عن افتتاح منشأة جديدة لانتاج الوقود النووي بالاستفادة فقط من الخبرات الايرانية وعدم الاعتماد على خبرات اجنبية؟ وماذا يعني ان إيران باتت قادرة على تأمين اليورانيوم اللازم لانتاج الوقود الخاص بمفاعل “اراك” بقوة 40 مغاوات وات الذي يعمل بالماء الثقيل لانتاج البلوتونيوم؟ وماذا يعني ايضا الاعلان عن تشغيل نحو 3000 (ثلاثة آلاف) جهاز طرد مركزي جديد من نوع بي 2 (P2) في منشأة “نطنز” المخصصة لتخصيب اليورانيوم؟ ماذا يعني كل هذا عشية الحديث عن دعوة إيران من قبل مجموعة الدول الدائمة العضوية في مجلس الامن الدولي بالاضافة لالمانيا او ما بات يعرف بمجموعة دول (5+1) للمشاركة باجتماعاتها المخصصة لبحث برنامجها النووي والوعد الإيراني بدراسة هذا الطلب، وارتفاع وتيرة الجدل داخل الادارة الامريكية وكذلك الاسرائيلية بأن البرنامج النووي الإيراني “قد تجاوز نقطة العودة” ولا بد من اتخاذ خطوات عملية في التعاطي معه. حيث ترى الادارة الامريكية ان الخطوة الامثل في هذه المرحلة استيعاب هذا المتحول ودراسة امكانية الاعتراف به في اطار ضمانات رقابة دولية مشددة، في حين يساور الادارة الاسرائيلية القلق وتدعو إلى تدمير هذا البرنامج وعدم العيش في هاجس امكانية استخدامه مستقبلا لانتاج سلاح نووي سيستخدم بالضرورة ضدها انطلاقا من نظرية الصراع الايديولوجي الذي يحكم العلاقة بين طهران وتل ابيب.
من المعروف ان الصين هي الشريك الاساس لايران في بناء منشـأة اصفهان لانتاج (الكعكة الصفراء) وغاز الهغزافلورايد اليورانيوم (UF6) من اليورانيوم الطبيعي الذي يستخرج حاليا من مناجم “صغد” لليورانيوم في محافظة “يزد” وسط إيران. في حال نضوب المصادر الداخلية ستعمد إيران لاستثمار ما تملكه من حصص في انتاج مناجم دولة ناميبيا لليورانيوم التي تبلغ 10% (عشرة بالمئة) منذ ايام الشاه محمد رضا بهلوي. وفي حال توصلها إلى تفاهم مع المجتمع الدولي فانها ستعاود المطالبة بحصتها مما ينتجه معمل كوروديف الفرنسي الذي تملك اكثر من 30% من انتاجه من ايام الشاه ايضا. أي ان طهران التي تقول ان مصادرها الداخلية لليورانيوم الطبيعي لا تنحصر في منجم “صغد” لن تكون قلقة لجهة تأمين ما تحتاجه لتشغيل منشآتها لانتاج غاز UF6 وتاليا الوقود النووي.
والخطوة الجديدة القائمة على خبرات ايرانية تحمل رسالة بـأن طهران ايضا لم تعد قلقة لناحية امتلاكها هذه التكنولوجيا، وانها استطاعت امتلاك زمامة المبادرة التكنولوجية السلمية حاليا، والتي يمكن ان تتحول إلى عسكرية في أي مرحلة اذا ما استدعت التطورات ذلك، وانها لن تكون محصورة في المجال النووي، بل ستكون مقرونة بتكنولوجيا الصواريخ بعيدة المدى وحتى الباليستية التي ستكون قادرة على حمل رؤوس نووية اذا ارادت طهران ذلك.
طهران قالت على لسان محمود احمدي نجاد، في ترجمة شعبوية لكلام المرشد الاعلى للنظام آية الله علي خامنئي، انها ترحب بالمبادرة التي اطلقها الرئيس الامريكي باراك اوباما حول الحوار. لكنها اكدت ان هذه المبادرة اذا كانت محكومة بالروحية التي سيطرت على تصريحات الادارة السابقة، فان الرد الإيراني سيكون ذاته التي تلقته ادارة الرئيس جورج بوش، أي المزيد من العرقلة الاقليمية والحروب والمتنقلة وافشال المخططات الامريكية في المنطقة. اما في حال بادرت الادارة الجديدة إلى مد اليد بصدق فان طهران ستكون مستعدة لمبادلتها ذلك، لكن بعد مرحلة اختبار نوايا.
وهنا لا بد من القول ان القيادة الايرانية المتمثلة بالمرشد الاعلى، رغم من كل الاصوات الايرانية التي نادت بضرورة الحوار مع واشنطن، هي التي تمتلك مفاتيح الحرب والسلم ومفاتيح الحوار مع الولايات المتحدة الامريكية. وان تحولا اساسا قد طرأ على خطابها منذ عام 2004 حين هدد خامنئي من مدينة اصفهان بانه سيعاقب أي مسؤول يتحدث عن الحوار مع امريكا ويعتبره خائنا تجب محاكمته. مرورا بخطابه في مدينة مطلع العام الماضي 2008 عندما تحدث ولاول مرة بصراحة عن الحوار مع واشنطن واكد انه اذا وجد ضرورة للحوار وان مصلحة إيران تستدعي هذا الامر فهو اول من سيدعو إلى ذلك، عندما بادر شخصيا بالرد على رسالة التهنئة التي وجهها اوباما إلى الشعب والقيادة الايرانية واكد فيها ان طريق الحوار تمر من خلال تغيير عملي في اسلوب وتعاطي ولهجة الادارة الامريكية مع إيران والاعتراف بموقعها ودورها والانجازات التي حققتها خصوصا في المجال النووي.
الرسالة والرد عليها اوضحا بشكل جلي ان الطرفين – الامريكي والايراني – قد عرفا القناة التي يجب ان توجه عبرها الرسائل. فكلام اوباما كان الاول من نوعه لرئيس امريكي تجاه إيران منذ قطع العلاقات بين البلدين قبل 30 عاما. ورد خامنئي الايجابي جدا كان ايضا الاول من نوعه وبشكل علني من القيادة الايرانية العليا، ما يعني ان مرحلة الغزل عن بعد شارفت على الانتهاء وان الآباء قد سمحوا للاولاد الذين اضناهم الحب والبعد بالتلاقي والحديث المباشر وطي صفحة الرسائل عبر الوسطاء الذين قد يستغلون ذلك لتمرير مصالحهم لدى الطرفين. وهي رؤية كانت سائدة داخل المجلس الاعلى للامن القومي الإيراني حول ضرورة التفاوض المباشر ومن دون ان يكون هناك حاجة لدفع فواتير لاطراف تلعب دور الوسيط. من هنا يمكن فهم التصريحات الاخيرة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف – لاول مرة – من انه “لا يوجد أي دليل على توجهات عسكرية في البرنامج النووي الإيراني”، والتي قد تفسر بان موسكو تعتقد بان مسار المفاوضات قد يكون جديا وقد يؤدي إلى نتائج إيجابية، وانه بات عليها استرضاء الطرفين، خصوصا في ظل عتب ايراني من موقف روسيا المتردد في دعم سلمية البرنامج النووي واستياء امريكي من تصلب موسكو في موقفها الرافض لتطبيق العقوبات الدولية ضد إيران.
من هنا يمكن القول ان إيران قصدت من وراء الاعلان عن افتتاح مصنع جديدة لانتاج الوقود النووي بخبرات ايرانية محلية وعن نيتها تشغيل المزيد من اجهزة الطرد المركزي المتطورة، ونيتها رفع عدد هذه الاجهزة ليصل إلى خمسين الفا (50 الفا) توجيه رسالة إلى الولايات المتحدة الامريكية، بان السقف الذي يجب ان تبدأ منه المباحثات هو الاعتراف بحق إيران بامتلاك التكنولوجيا النووية – السلمية – وحقها في الاستمرار في تطوير هذه القدرات، من دون أي معارضة لتشديد الرقابة حتى الامريكية عليها، وذلك قبل البدء باي مفاوضات. وان هذا الاعتراف سيشكل المدخل الطبيعي لاي تعاون مستقبلي بين الطرفين حول مختلف القضايا والملفات ذات الاهتمام المشترك، بالاضافة إلى تقديم ضمانات بعدم عرقلة هذه المسيرة من أي من الاطراف الاخرى، خصوصا الجانب الاسرائيلي الذي يهدد بعمل عسكري ضد المنشآت الايرانية النووي.
يمكن القول ان الرسالة الايرانية كانت شديدة الوضوح، وان الادارة الامريكية قد تلقتها بوضوح ايضا. بدليل ان وزيرة الخارجية الامريكية السيدة هيلاري كلينتون لم تعلق على الاعلان الإيراني النووي، لكنها دعت بالمقابل الحكومة الايرانية إلى اطلاق سراح الصحفية الامريكية من اصل إيراني ركسانا صابري التي اعلن عن قرب محاكمتها امام محكمة الثورة بتهمة التجسس لصالح الامريكيين.