فور انتخاب آصف زرداري رئيساً لباكستان، عقد أحدالمقرّبين منه إجتماعاً مع الجنرال أشفاق كياني طرح خلاله على رئيس أركان الجيش سؤالاً صريحاً: “ما هو الوقت الذي ستعطونه لنا قبل أن يعود الجيش إلى السلطة”؟ وكان جواب كياني: “الآن، نحن بحاجة إليكم لكي تحموا الجيش، بعد أن باتت سمعة العسكريين سيئة جداً في نظر الناس”! وحينما سأل كياني محاوره عما يمكن للجيش أن يقوم به لاستعادة ثقة الناس، قال مستشار زرداري: “إجمع قادة الفيالق واقترح عليهم أن تصدروا إعلاناً بأن الجيش سيتخلّى عن نصف ميزانيته وسيقدّمها لميزانية التعليم والصحة”! وبعد أن مجّ كياني سيجارته طويلاً، نظر إلى محاوره وقال له “لن يقبلوا”!
ومع أن الجيش كان، حتى بضعة أشهر، يشعر بأنه بحاجة للسياسيين لحمايته من نقمة الناس، فقد نجح الرئيس زرداري في تلميع صورة الجيش ولكن عبر إسقاط صورة السياسيين في نظر الرأي العام الباكستاني. والغريب في موقف الرئيس زرداري أن “عناده” في مواجهة نوّاز شريف بالإستناد إلى قوانين مشكوك في شرعيتها سنّها برويز مشرّف يتعارض حتى مع آراء مستشاريه الذين طالبوه منذ بداية الأزمة بالتراجع وإصدار “عفو” لصالح نواز شريف. الأزمة الباكستانية يمكن أن تعيد الجيش إلى التعاطي بالسياسة، وقد يكون الرئيس زرداري نفسه أول ضحاياها، كما يرد في رسالة مراسلنا في “لاهور”.
*
أمير مير- لاهور، خاص بـ”الشفّاف
مع ازدياد حدّة الأزمة السياسية في باكستان، قرّر رئيس أركان الجيش أشفاق كياني التدخّل أخيراً وطلب من رئيس الحكومة يوسف رضا غيلاني أن يلعب دوره وأن يخفّف من حدة الإحتقان، وهذا في حال رفض الرئيس آصف زرداري التراجع وقبول بعض مطالب أحزاب المعارضة، وأبرزها إعادة حكومة “حزب الرابطة الإسلامية” التي يقودها شقيق نواز شريف في البنجاب. وكان حاكم البنجاب قد أقال الحكومة المحلية قبل أيام ووضع المقاطعة تحت سيطرته المباشرة.
ووفقاً لمصادر حكومية مطّلعة في “إسلام آباد”، فقد اتّفق الجنرال كياني ورئيس الحكومة غيلاني في اجتماعهما الذي انعقد يوم أمس الأربعاء (أثناء زيارة الرئيس آصف زرداري لإيران) على أن العناد الذي ينمّ عنه الرئيس زرداري سينتهي إلى تعقيد الوضع وقد يؤدّي إلى زيادة حدة الإشتباك السياسي. وجدير بالذكر أن شعبية الرئيس زرداري ما تزال ضعيفة جداً، وأنه لم ينجح في إزالة سمعة الفساد عن إسمه رغم قضائه سنين طويلة في السجن من غير أن يصدر أي حكم بحقّه. وقد أعربت القيادتان المدنية والعسكرية عن قلقهما من إحتمال تدهور الأوضاع الأمنية في أعقاب دعوة أحزاب المعارضة وجمعيات المحامين والمجتمع المدني إلى مسيرة كبرى وإلى حركات إعتصام. وبناءً عليه، طلب قائد الجيش من رئيس الحكومة أن يتدخّل وأن يمارس صلاحياته الدستورية والإدارية بغية وضع تصحيح الخلل السياسي القائم.
ومن هذا المنطلق، ورغبة منه في تحقيق مصالحة سياسية واسعة النطاق، فقد شرع غيلاني في رسم إستراتيجية للخروج من حالة الإضطراب السياسي المتزايد. وتقول الأوساط المقرّبة من رئيس الحكومة أنه سوف يطلب من الرئيس أن يلغي قرار الحكم المباشرة في “البنجاب” وأن يعيد القضاة الذين تم عزلهم (في عهد الرئيس السابق برويز مشرّف)- وهذان هما المطلبان الرئيسيان لأحزاب المعارضة- من أجل قطع الطريق على المسيرة الكبرى التي من المقرّر أن تنتهي باعتصام أمام رئاسة الجمهورية في “إسلام آباد” يستمر حتى الإستجابة للمطالب. لكن أوساط رئيس الحكومة تقول أنه إذا ما رفض الرئيس زرداري قبول هذين المطلبين بغية الخروج من الأزمة، فإن رئيس الحكومة، غيلاني، يمكن أن يُصدِرَ القرارين بنفسه متحدّياً الرئاسة. ويمكن لرئيس الحكومة، ببساطة، أن يعيد القضاة إلى وظائفهم بواسطة أمر تنفيذي، كما يمكنه أن يوجّه نصيحة إلى رئيس الجمهورية بإنهاء الحكم المباشر لـ”البنجاب” الذي يمارسه حاكم المقاطعة، وسيكون الرئيس مُلزَماً دستوريا بالتوقيع على القر ار إذا وصله على هذا النحو.
إن عدداً من قادة المؤسسة العسكرية باتوا، الآن، يعتبرون الرئيس زرداري، على غرار مشرّف من قبله، جزءاً من المشكلة حيث أنه لا يتصرّف كرئيس للبلاد. ويقول هؤلاء أن زرداري، بدلاً من أن يلعب دوراً أبوياً، قد قلّص دوره إلى مجرد دور رئيس “حزب الشعب الباكستاني”، وأنه لا يتطلع سوى إلى خدمة مصالحه الشخصية. وبناءً عليه، وإذا لم يتراجع زرداري وأصرّ على المجابهة بدلاً من المصالحة الوطنية، فهنالك إحتمال كبير في أن حلفاءه في التحالف الحاكم، وأقساماً من “حزب الشعب الباكستاني” الحاكم نفسه يمكن أن يسحبوا ثقتهم من زرداري. ويعتقد مراقبون سياسيون في باكستان أنه إذا ما تطوّرت الأمور على هذا النحو فإن الجيش يمكن أن يتدخّل وأن يطلب من زرداري التنحّي.
بالمقابل، وحيث أن قائد الجيش، الجنرال كياني، ومنذ أن تسلّم منصبه في ديسمبر 2007، قد بذل جهوداً واعية من أجل إبقاء الجيش بمنأى عن السياسة، فمن المستبعد جداً أن يقدم على الإستيلاء على السلطة. والأرجح أن الجنرال كياني سيستخدم نفوذه لكي يتولّى رئيس الحكومة، غيلاني، مقاليد الأمور الحكومية، باعتبار أنه مقبول من جانب الأحزاب الحاكمة وأحزاب المعارضة البرلمانية معاً. فجدير بالذكر أن غيلاني هو رئيس الوزراء الوحيد في تاريخ باكستان الذي انتُخِبَ بالإجماع وبأصوات كل الأحزاب، بما فيها “حزب الرابطة الإسلامية” المؤيد لمشرّف و”الحركة القومية المتحدة” (ألطاف حسين)، و”حزب عوامي القومي”، و”جمعية علماء الإسلام”، و”حزب الرابطة الإسلامية- نواز شريف”.
من جهة أخرى، فلا مفرّ من ملاحظة أن زرداري، بموجب الدستور، يظلّ أقوى حاكم مدني في تاريخ البلاد نظراً لأنه يتمتع بكل الصلاحيات الإدارية التي كان الجنرال مشرّف قد خوّلها لنفسه حينما قام بتعديل الدستور. وهذا يعني أنه قادر على عزل قائد الجيش واستبداله بجنرال يرتاح له. وبالفعل، نُشِرَت تقارير صحفية تحدثت عن مساعي غير معلنة لترقية الجنرالات المحسوبين على زرداري. وهنالك شائعات في أوساط الرئاسة مفادها أن زرداري مستعجل وأنه بدأ بالفعل بعقد إجتماعات خاصة مع هؤلاء الجنرالات الذين سيُحالون على التقاعد قريباً. وحسب أحد المصادر، فإن 3 جنرالات في الخدمة يقومون بزيارة الرئاسة في ساعات غير مألوفة، مثل الساعة 3 صباحاً، وأن هيئة الأركان العامة قد تلقّت تقارير بهذا الصدد.
يٌُقابل ذلك كله أن أوساط بعض الجنرالات تقول أنه حتى لو فكّر زرداري بمثل هذه الخطوة مجرّد تفكير، فإن تلك ستكون آخر خطوة سيقوم بها قبل إرساله إلى منزله، على غرار ما حدث لنوّاز شريف في أكتوبر 1998 حينما قرّر عزل قائد الجيش آنذاك، الجنرال مشرّف، الأمر الذي دفع اللواء 111 في الجيش المتمركز في “إسلام آباد” للردّ وإسقاط حكومة شريف. وهنالك شعور في أوساط الجنرالات بأن زرداري، ذي الطموحات غير المحدودة، يقامر بالمنصب الذي حصل عليه بالأصوات الشعبية، ويقامر بثقة الجيش به، بصورة غير محسوبة. وحتى لو قرّر قائد الجيش إتخاذ موقف محايد وامتنع زرداري، من جهته، عن القيام بأي تحرّك ضده، فإن عرض القوة في الشارع الذي يوشك نوّاز شريف على القيام به يمكن أن يخلق مشاكل مستعصية لزرداري.
والواقع أن بعض مسؤولي “حزب الرابطة الإسلامية- نوّاز شريف” يعتقدون أن عناد زرداري يصبّ في مصلحة رئيس الحكومة الأسبق نوّاز شريف الذي أحرز نقاطاً بفضل قرار الرئاسة بعزل حكومة “البنجاب” التي يسيطر عليها وإخضاع المقاطعة للحكم المباشر. ويرى هؤلاء أن قرار الرئاسة، ووقفة التحدّي من جانب شريف، قد عزّزا شعبيته. فنوّاز شريف الذي يخوض معركة بقائه في الحياة السياسية، قد دعا الناس إلى النزول إلى الشوارع، وجعل قضيته جزءاً من النضال من أجل قضاء مستقل، بل وأطلق تصريحات وردت فيها كلمة الثورة. وتقول أوساط قريبة من نوّاز أنه يحضر نفسه لخوض إنتخابات عامة مبكرة يمكن أن تجري في نهاية العام الحالي في ظلّ حكومة مؤقتة محايدة، وهذا إذا ما استمرّت الأزمة الراهنة وأدّت إلى إقالة الحكومة.
ومع تصاعد الصراع على السلطة بين زرداري وشريف، فقد عاد الجنرال مشرّف إلى الظهور. وبعد أشهر من البحث عن السلوان في ملاعب التنس والغولف، أطلق مشرّف عدة تصريحات وعقد مؤتمرات صحفية، رغم أنه ممنوع رسمياً من الكلام. وقد تحدث مشرّف للصحافة الباكستانية في مطلع الأسبوع الحالي بعد عودته من الهند، بل وتطرّق إلى احتمال عودته إلى الحياة السياسية مع أن ذلك مستبعد جداً.
لقد تسبّبت الأزمة السياسية في باكستان بقلق بالغ في واشنطن، ترافق مع تقارير صحفية بأن أدارة أوباما تخشى بأن يؤثر الحكم المعطّل في باكستان في الخطط الاميركية الخاصة بأفغانستان ومنطقة جنوب آسيا. وتعارض واشنطن تصاعد الأزمة في باكستان نظراً للتهديد الأمني الذي تمثّله “القاعدة” و”طالبان”، والذي ما يزال قوياً في حزام الحدود الأفغاني-الباكستاني. لقد تحوّلت باكستان خلال أسابيع قليلة إلى مصدر صداع للرئيس أوباما، وتبدو واشنطن متلهفة لإعادة الأمن والإستقرار إلى باكستان في أسرع وقت ممكن. إن تزعزع الإستقرار في باكستان يمكن أن يتحوّل إلى أول حالة فشل لسياسة الرئيس الأميركي الجديد. وتبعاً لذلك، فهنالك مؤشرات على أن صانعي القرار في واشنطن يضغطون على زرداري لإصلاح علاقاته مع شريف وللتراجع عن التصعيد. وإلا، فإن الولايات المتحدة يمكن أن تسحب دعمها لزرداري، الذي بات يُنظر إليه كثقل معطِّل.
amir.mir1969@gmail.com