مر قبل أيام، حدث تاريخي مهم عند العراقيين، يتمّثل بالانتخابات المحلية لمجالس المحافظات.. ويبدو من متابعة هذه العملية، أنها خطوة عراقية جديدة تعدّ أفضل بكثير من تلك الانتخابات التي جرت عام 2005 بكل مشكلاتها وتزويراتها. انه بالرغم من حدوث مشكلات، وخروقات، واغتيالات، وأحداث دموية في هذه العملية، إلا أن ما حدث لا يقارن أبدا، بذاك الذي ساد في العراق قبل أربع سنوات. إن هذا الحدث يكشف، بشكل واضح، أن العراقيين يسعون نحو خطوة جديدة لإصلاح الاوضاع السياسية المتهرئة، والتي كانت من ورائها، مخلفات تركة ثقيلة لتاريخ مضى، فضلا عن سوء السياسات الأمريكية، وصراعات القوى الطائفية والشوفينية.. ناهيكم عن تدخلات دول الجوار، وخصوصا إيران وفرض أجندتها علنا في العراق. إن التجارب المريرة التي مر بها العراق، قد أعطت العراقيين، المزيد من الدروس والعبر لفرز طبيعة القوى السياسية المتنوعة، وتبين للكثير من العراقيين، أن العراق لا يمكن أن يسير بخطواته التاريخية نحو الأمام، إلا في ظل وجود مشروع وطني استقلالي مدني حر، لتوفير الأمن، والسعي لتقدم العراق، وتحقيق حرية العراق، والحفاظ على ثروات العراق، وأداء الخدمات للمواطنين.. إن العراقيين، هم أنفسهم الذين يصنعون التغيير إزاء قوى سياسية سواء كانوا في السلطة، أو قريبين منها تسعى إلى الهيمنة من خلال تدخلاتها وتزويراتها.. فان من سيخسر اليوم في الانتخابات المحلية، سيخسر في الانتخابات العامة في نهاية هذا العام.
لقد عاش العراقيون في ظل سياسة ازمات، ومحاصصات، وانقسامات، ومشكلات اججّتها قوى وميليشيات معينة مرتبطة بمن يريد تحطيم العراق، ولقد أدرك الناس حاجتهم للتغيير نحو الأفضل، وان الحاجة باتت ماسة للمشروع الوطني العراقي المدني المستقل الذي لا خيار آخر أمام العراقيين من دونه.. وان ذلك “التغيير”، لا يمكن أن يحصل إلا من خلال إرادة جماهيرية.. إن الصراعات التي يشهدها العراق اليوم، هي كبيرة جدا، تتلخص بتعبيرها عن واقع منقسم على ذاته بين اكثريات وأقليات، وبين قوى دينية وقوى مدنية، وبين قوميات متناحرة مختلفة.. إن الحياة الصعبة التي عاشها العراقيون على امتداد السنوات الماضية كانت من ورائها سياسات أمريكية فاشلة، كرّست مبادئ الأحادية والدكتاتورية، ثم سياسات احتلال انقسامية، لا تصلح للمجتمع العراقي أبدا، وكان أن مضى في تطبيقها، العديد من القوى التي لعبت على ما أطلق عليه بـ ” المكونات الكبيرة والصغيرة “، فضلا عن إطلاق الإرهاب، واستخدام أسوأ الأساليب، مع افتقاد الأمن والنظام.. كل هذا وذاك أتى سابقا بقوى متسلطة، ومجالس محلية غير صالحة لا للإدارة ولا للسياسة، ولا للسلطة.. فالتهبت الصراعات، وازدادت الانقسامات، وتكرّست المحاصصات، وكثرت التدخلات، وسرقت الثروات، وماتت الخدمات.. على امتداد أصعب ثلاث سنوات من الحياة العراقية اليوم بدءا من 2005، 2006، 2007..
إن التغيير ضرورة عراقية.. ولعل أهم من يقف إزاء ذلك التغيير من اكفهرار المأساة إلى الخروج بالعراق من شواطئ الأمان، وما الانتخابات التي جرت الا تجربة على الأرض، لا سبيل للعراقيين الا ممارستها من اجل درء المخاطر، فضلا عن كون ذلك هو الاسلوب الحقيقي لانتصار القوى السياسية النظيفة التي تحلم من اجل تحقيق مشروع وطني مدني عراقي يحقق للعراقيين آمالهم وأمانيهم، ويخّلص العراق من كل الانقسامات، ونغمة المكونات يحافظ على ثرواتهم التي تبعثرت على امتداد السنين السابقة.. إن العراق، لا يمكنه أن يعيش أبدا الا مستقلا عن أية تدخلات كيلا يتفجر مجتمعه إلى طوائف وشرذمات.. إن التغيير لا يمكن أن ينجح الا بوصول أناس لهم سمعتهم واستقلاليتهم ووطنيتهم ونظافتهم وسعيهم لخدمة الناس في مجالس المحافظات كي ينتشلوا العراق مما آل إليه في كل المجالات.. وليتم استعداد العراقيين لخوض الانتخابات العامة نهاية عام 2009.
إن العراق سيبقى ضمن تجاذبات ومشكلات لا حصر لها، بين قوى دينية وعلمانية، بين قوى وطنية وشوفينية.. الا انه بحاجة إلى طبقة إداريين، وتكنوقراط، ورجال قانون وتشريعات، وساسة مدنيين، ومثقفين حقيقيين، لتأمين فرص التغيير. إن العراق بحاجة إلى المزيد من التشريعات الخاصة بالأحزاب والانتخابات، والحفاظ على الثروات والمال العام.. إنه بحاجة ماسة إلى أن يكون صاحب مكانة عربية وإقليمية بعيدا عن عبث دول الجوار به.. وينبغي أن يخرج من عنق الزجاجة وتحديد علاقاته بالآخرين، والبحث عن عمقه الاستراتيجي، والالتفات إلى نفسه، ومحاسبة كل المقصرين، والمتآمرين، والمخطئين بحقه، وسّراق ثرواته، والعابثين باستقلاله ومقدراته.. إن التغيير ضرورة عراقية لا يمكن إيقافها.. وعلى دول الجوار، احترام علاقاتها مع العراق وشعبه، وخصوصا إيران، ومنع تدخلاتها الفاضحة، وإيقاف نهب النفط العراقي.. وتحريم تمرير أية أجندات دموية لتدمير العراقيين. إن التغيير لابد أن يطال كل العراقيين لبدء تاريخ جديد، وبروح جديدة، وببرامج جديدة، لا يمكن أن يصنعها إلا المشروع الوطني المدني.. وما نخب العراق السياسية البراغماتية النظيفة، أو قوى التكنوقراط والمثقفين الحقيقيين بعاجزين عن تحقيق أحلام العراقيين!
www.sayyaraljamil.com
نشرت في البيان الاماراتية، 4 شباط / فبراير 2000 ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل