والدينية في سويسرا (Keystone)أثار أستاذ جامعي سويسري جدلا حادا في بعض وسائل الإعلام السويسرية، بعدما طرح فرضية اعتماد التعددية القانونية لتسهيل التعامل مع الاختلاف الثقافي والديني في الكنفدرالية. ورغم أنه لم يذكر بالحرف كلمة “الشريعة” الإسلامية في مقاله، فإن تأويلات كثيرة شدّدت على أنه يدعو ضمنيا إلى تطبيقها في حالات مُعينة.
وقد وصفت الدكتورة إلهام مانع، أستاذة العلوم السياسية في جامعة زيورخ، مقترح البروفيسور جيوردانو بـ “خطوة إلى الوراء”، محذرة من “عدم توافقه مع الديمقراطية والمساواة بين الجنسين وحقوق الإنسان”.
البروفيسور كريستيان جيوردانو، أستاذ علم الاجتماع والأنتروبولوجيا الثقافية الأوروبية في جامعة فريبورغ السويسرية، استوحى موقفه من رئيس الكنيسة الأنغليكانية، أسقف كانتربري، الذي أثار العام الماضي عاصفة من الاحتجاجات في بريطانيا بعد اقتراحه، اعتمادا جزئيا للشريعة الإسلامية.
وردّت نسخة يوم الأحد 11 يناير الجاري من صحيفة “نويه تسورخر تسايتونغ” الرصينة (تصدر بالألمانية في زيورخ) على مقترح البروفيسور جيوردانو بأنه “يكاد يكون بسيط التفكير”، مُضيفة أنه ليس من الواضح نوعية المشاكل التي يُفترض أن يحـُلها ذلك المقترح.
وكتبت الصحيفة: “ليس هنالك مكان للشريعة في سويسرا”، مشددة على أن “الحقوق الخاصة للناس، ما عدا داخل محاكم التحكيم والجمعيات، قد ألغيت”. وذهب بعض المـُعلقين إلى حد اتهام جيوردانو بتأجيج العنصرية والمخاوف والأحكام المسبقة ضد الإسلام، وبتغذية مبررات أنصار المبادرة التي أطلقتها أطراف يمينية بهدف حظر بناء المآذن في سويسرا.
غير أن عالـِم الأنتروبولوجيا الاجتماعية السويسري، الذي قال إنه أراد إثارة النقاش حول هذه القضية، أوضح أن كلامه أسيء فهمه. وصرح في حديث لسويس انفو: “لـم أطالب بحقوق خاصة للمسلمين، بقدر ما طالبت بالتعددية القانونية. (…) فالتشريع السويسري الحالي “ضيـّق جدا” بالنسبة للأقليات.
وقد اندلع النقاش بعد أن كتب البروفيسور جيوردانو مقالا نُشر في شهر ديسمبر الماضي في العدد 22 من “تانغرام”، وهي مجلة نصف سنوية تُصدرها اللجنة الفدرالية لمناهضة العنصرية.
“من أجل نقاش صريح وبدون اتهامات”
وبعد احتدام الجدل في الصحافة السويسرية عن مقال البروفيسور جيوردانو، أصدرت اللجنة الفدرالية لمناهضة العنصرية يوم 23 يناير الجاري في برن، بيانا أكدت فيه تشجيعها لـ “نقاش صريح وبدون اتهامات”، وأعربت فيه عن أسفها لاستخدام المقال الذي قالت عنه إنه “نص ذي طابع علمي لا يتحدث فيه المؤلف عن المسلمين تحديدا ولا يقول في أي مكان أنه يجب إدخال الشريعة في سويسرا، ولذلك، فإنه من الخطإ اتهام اللجنة الفدرالية لمناهضة العنصرية، اعتمادا على مساهمة حـُرّرت من قِبل شخص خارج عن اللجنة، بتشجيع إقامة محاكم موازية وأحكام أجنبية لا علاقة لها بتشريعاتنا. فعلى العكس من ذلك، ترجع اللجنة الفدرالية لمناهضة العنصرية دائما إلى الدستور والقوانين الأساسية في اتخاذ مواقفها”.
كما ذكـّر البيان بأن أعضاء اللجنة يُدافعون داخلها عن آراء المنظمات التي يمثلونها، وأن تلك الآراء لا يجب أن تتفق بالضرورة مع آراء اللجنة، كما حرصت اللجنة في بيانها على “تأكيد ثقتها الكاملة في عضوها المُــسلم”.
وكان جورج كرايس، رئيس اللجنة، قد صرح في وقت سابق لصحيفة “تاغس أنتسايغر” (تصدر بالألمانية في زيورخ) أن الأمر يتعلق بـ “نقـاش لا أساس له”، مشيرا إلـى أن مُقترحات جيوردانو قد استُـخدمت بشكل سيّء، ومشدّدا في الوقت نفسه على أن الأستاذ الجامعي جيوردانو، ليس عضوا في اللجنة الفدرالية لمناهضة العنصرية وأن آراء الكتّـاب المشاركين في مجلة “تانغرام” لا تـُعبر بالضرورة عن مواقف اللجنة.
تـعدديـة قانـونـية
وأشار جيوردانو في مقاله إلى أن التعددية القانونية باتت واقعا في كافة المجتمعات المتعددة الإثنيات والثقافات تقريبا، لكن يتم تجاهلها أو إنكارها في الغالب لأنها “تُعتبر خطرا على التماسك الإجتماعي”، وأضاف أن التعددية القانونية مسألة تتعلق أكثر باعتماد آليات، في بعض مجالات القانون، تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الثقافية.
وأوضح في هذا السياق أن “التعددية الثقافية ليست مجرد تنوع ثقافي – بل تنوع ثقافي يُـدار سياسيا”، وأنه “لا يكفي فقط قبول جوانب التنوع البهية، مثل الغذاء والموسيقى”.
وقد حصل البروفيسور جيوردانو على دعم بعض ممثلي الجاليات المسلمة، بحيث قال الأستاذ الجامعي فرهاد أفشار، رئيس التنسيق بين المنظمات الإسلامية في سويسرا في تصريحات لسويس انفو: “إذا ما أخذنا في الاعتبار المشاكل المتعددة الأطراف (التي تعني العديد من البلدان)، فيجب أن يصبح النظام القـانوني مــَرِنا أيضا”.
وأوضح السيد أفشار أن الأولوية يجب أن تظل بالتأكيد للقانون السويسري، لكن عندما يتعلق الأمر بالقضايا الدينية للمهاجرين المسلمين، فذلك لا يكفي دائما. وذكر كمثال على ذلك، النقاشات الجارية حول دروس السباحة بالنسبة للتلميذات والتلامذة المسلمين.
« بالله عليكم، لماذا سنريد قانونا تمييزيا ضد المرأة؟ »
التـماسك الاجتـماعي
وأقر البروفيسور جيوردانو بأنه “استوحى” الفكرة من روان ويليامز، كبير أساقفة كانتربري ورئيس الثمانين مليون من أنغليكان العالم، والذي كان قد واجه في شهر فبراير 2008 دعوات لتقديم استقالته، بعد أن حث السلطات البريطانية على القيام بتكييف بعض القوانين مع الشريعة الإسلامية لصالح التماسك الإجتماعي.
واقترح الأسقف ويليامز استحداث “محكمة تكميلية” تتيح للمسلمين إمكانية اتخاذ القرار حول الجهة التي تُفض فيها النزاعات (التي يتورط فيها أفراد ينتمون لنفس الدين)، بحيث يختارون بين المحاكم المدنية أو المؤسسات الإسلامية، التي تقدم منتدى بديلا للتحكيم.
وأثار مقترح الأسقف ويليامز سخط من يؤمنون بضرورة الفصل بين الدِّين والدولة وبمفهوم تساوي الجميع أمام القانون، لكن البروفيسور جيوردانو له تصوّر واضح بهذا الشأن، فكل محكمة يجب أن تكون تابعة للدولة المعنية ولدستورها.
وقال في هذا الصدد: “من البديهي ضرورة احترام الهرمـيّة التي يقوم عليها النظام القانوني بهدف ضمان الصلاحية القانونية للدستور، الذي يجب أن يظل علمانيا، ولحقوق الإنسان والمبادئ الأساسية للديمقراطية”.
وأضاف: “أنا لا أدعو إلى اعتماد مواز لقوانين خاصة بالأقليات – فذلك ليس القصد على الإطلاق، بل يجب أن تظل الكلمة الأخيرة دائما للدولة، ولا يُلزم كلُّ فرد من هذه الأقلية أو تلك بالذهاب إلى تلك المحاكم – بل فقط الأشخاص الراغبين في ذلك”.
كما نوّه إلى أن التعددية القانونية ليست بالتأكيد علاجا عجيبا، لكنها بدون أدنى شك حل أفضل من غض الطرف عن النـظم القانونية الموازية القائمة بعدُ في عدد من البلدان الأوروبية والتي تعمل دون أي شكل من أشكال مراقبة الدولة، على حد تعبيره.
وعن أسباب الدعوة إلى تكيـّف القانون مع الأجانب بدل تكيف الأجانب مع القانون، أجاب البروفيسور جيوردانو: “أعتقد أن هنالك بعض الأشخاص – ليس الجميع، بل فقط البعض منهم – المنغرسون في ثقافتهم، ولا أعتقد أن باستطاعتك إجبارهم على تغيير هويتهم”.
مخاوف من التمييز
هذه الحجة تُقابل برفض الدكتورة إلهام مانع، أستاذة العلوم السياسية في جامعة زيورخ والحاملة للجنسيتين اليمنية والسويسرية. فهي قالت في تصريحات لسويس انفو: “إنه حقا من الغطرسة القول بأن المهاجرين لا يمكنهم في الواقع الاندماج، لأنهم غير معتادين على تقاليدنا القانونية. بعبارة أخرى، لماذا سيواجه المهاجرون مشاكل في ظل نظام يحترم حقوق الإنسانية الأساسية والمساواة بين الجنسين؟”.
وأضافت الدكتورة مانع، وهي مسلمة، بأنها لا تتفق مع الممارسة المعتمدة في بريطانيا، لأنها أدّت إلى مجتمعات موازية وإلى التمييز ضد المرأة.
وقالت في هذا السياق: “عندما يتعلق الأمر بالطلاق، على وجه التحديد، فلنـُقارن بين قانون الأسرة هنا في سويسرا وقوانين الطلاق في التقاليد الإسلامية. ففي سويسرا، تـُعامل النساء على قدم المساواة مع الرجال – لكل واحد منهما الحق في الاستئناف وطلب الطلاق أمام المحاكم”.
واستكملت قائلة: “في التقاليد الإسلامية، يتمتع الرجل بحق أحادي الجانب لتطليق زوجته بدون إعطائها أي نوع من التبرير. فما عليه سوى النطق بكلمة “أنت طالقة” ثلاث مرات، وليس لديها الحق في الاستئناف. وإذا أرادت أن تطلب الطلاق، عليها إثبات الضرر وهذا يُترك لتقدير القاضي. وفي بعض الأحيان، حتى لو أتـَت بأقوى أدلة ممكنة، يُفكر القاضي: “أنت امرأة – فلا أصدِّقك”.
“خطوة إلى الوراء”
لذلك، تستطرد الدكتورة مانع قائلة: “فبالله عليكم، لماذا سنريد قانونا تمييزيا ضد المرأة بينما لدينا هنا بعدُ قانون يحترم مفهوم المساواة بين الجنسين؟ إنها خطوة إلى الوراء، وخطوة تـُقَنـّن بالفعل إنشاء مجتمع مواز، لأنه وفقا لبعض التقاليد القانونية الإسلامية، يـحق للأب أو ولي الأمر تزويـج ابنتـه دون علمها – وفي جميع مدارس الفقه الإسلامي، تظل موافقة ولي الأمر الذكر شرطا لزواج المرأة. فلماذا سنريد ذلك؟ إنه لا يتوافق ببساطة مع الديمقراطية والمساواة بين الجنسين وحقوق الإنسان”.
كما تثير الدكتورة مانع الانتباه إلى مختلف الدراسات التي أظهرت أن معظم المسلمين في سويسرا ليسوا منزعجين من النظام القانوني السويسري، بل :”بالعكس، هم يعتبرونه امتيازا بالنسبة لهم – ومنفعة تحمي حقوقهم”.
ويعترف البروفيسور كريستيان جيوردانو بأن لا أحد قد يـُصوِّت حاليا لصالح التعددية القانونية في سويسرا، مضيفا في المقابل: “لكنني أعتقد أن النقاش سيــجري، وربما سيزيد الاهتمام في المستقبل بهذه القضية”.
“فرص نجاح المقترح مُنعدمة سياسيا”
من جهته، شدّد البروفيسور يورغ شتولز، مدير مرصد الأديان السويسري التابع لـجامعة لوزان، على ضرورة تقـبّـُل المجتمع السويسري لواقعه الذي يشهد تعدّدا متزايدا للثقافات والدِّيانات، وضرورة إيجاد سُـبل التعامل مع هذا الواقع.
وقال في تصريحات لسويس انفو بهذا الشأن: “هنالك طريقتان مختلفتان للتحرك: العِـلمانية التي تبحث عن الاندماج من خلال مفاوضات برغماتية والتعددية الثقافية، التي يدعو لها البروفيسور جيوردانو. ويبدو لي أنه بدلا من التعددية القانونية التي تؤدي إلى الالتباس وتخلق مخاوف كبيرة، قد يكون أكثر منفعة مواصلة السير على طريق الإندماج، وهذا يشمل مفاوضات عملية مع المجموعات المختلفة لمعرفة إن كانت الدولة تستطيع الاستجابة لاحتياجاتها الثقافية والدينية، وكيف يمكنها القيام بذلك (مثلا، إنشاء مساحات خاصة بالمسلمين في المقابر)”.
وبعد تذكيره بالتجارب “الطويلة والجيدة” لسويسرا في مجال إدارة التوتر بين اللغات والديانات والثقافات المختلة، أوضح شتولز أن مقترح جيوردانو “ليس له أي فرصة للنجاح سياسيا”، مضيفا: “في رأيي، بالمقارنة مع بلدان أوروبية، تسير عملية إدماج الأقليات من ديانات وثقافات أخرى في سويسرا على ما يرام، لكن يجب أن ندرك أن أي إدماج لمجموعات المهاجرين لا تتم خلال بضعة أعوام، بل عادة ما تتطلب أجيالا”.