“هنا الضاحية – وعد” فاخفض لها جناح الذل والطاعة والهوان
في 18 تشرين الثاني 2008، دعت كلية الهندسة المعمارية في الجامعة الاميركية في بيروت، المهندس حسن جشي، المدير العام لـ”مشروع وعد لإعادة إعمار الضاحية الجنوبية” لبيروت، الى القاء محاضرة تلتها مناقشة في قاعة الكلية. المهندس جشي تلا كتيباً أُعد للمناسبة، وتضمن المسار الذي سلكه تنفيذ “وعد” – وخلفها “مؤسسة جهاد البناء” و”حزب الله” – إعادة إعمار الضاحية. وفي حضور جمع كبير من طلبة الجامعة وغيرهم من مهتمين ومتابعين، قدمت الدكتورة منى فواز المحاضرة والمحاضر. وقد وزعت “وعد” على الحضور الكتيب الذي تلاه مديرها العام، إضافة الى “فيلم وثائقي” عنوانه “هنا الضاحية – وعد”، مستنسخ على أقراص مدمّجة (C.D.). والفيلم هذا يتضمن رؤيا “حزب الله” لـ”تاريخ” ضاحية بيروت الجنوبية، منذ القرون الوسطى. وفي 5 كانون الأول 2008، دعت نقابة المهندسين في بيروت، الى ندوة – مناظرة بين المهندسين حسن جشي ورهيف فياض والدكتورة منى فواز، حول “مشروع وعد”. لكن الندوة أُجلت بسبب ضآلة الحضور. وبما أن المحاضرة والندوة المؤجلة، حلقة من محاولات كلية الهندسة في الجامعة الاميركية ببيروت إطلاق مناقشة عامة حول إعادة إعمار الضاحية ما بعد حرب تموز 2006، لتشارك فيها هيئات ومؤسسات المجتمع المدني – نحاول في هذه الزاوية نقل المناقشة الى الحيز الصحافي العام. في الحلقة الأولى هذه عرض لـ”الفيلم الوثائقي: هنا الضاحية – وعد”، على أن تليها حلقة ثانية عن محاولة كلية الهندسة المعمارية في الجامعة الاميركية بيروت، إطلاق مسابقة هندسية دولية لإعادة إعمار الضاحية الجنوبية، وعن وقائع مثل هذه المسابقة. وتلي هاتين الحلقتين حلقات أخرى حول المشروع. و”مرايا الاحوال” ترحب بتوسيع حيز المناقشة، فتدعو الراغبين من المهتمين والمتابعين الى المساهمة فيها.
في المحاضرة التي دعت كلية الهندسة في الجامعة الاميركية ببيروت، المهندس المعماري حسن جشي – وهو مدير عام “مشروع وعد” لإعادة إعمار الضاحية الجنوبية – الى القائها في 18 تشرين الثاني 2008، لم يعرض “الفيلم الوثائقي: هنا الضاحية – وعد” الذي وُزعت على الحضور نسخ من أقراصه المدمّجة (C.D) مع كتيبات اعدت للمناسبة في عنوان “وعد: نعمرها أجمل مما كانت”. لكن من تسنت له، بعد المحاضرة، مشاهدة “الفيلم”، لا بد أن يجده أشد وضوحاً وقوة من الكتيب الذي تلاه المحاضِرُ، في الكشف عن “استراتيجية وعد” ومن يقف وراءها، أي “مؤسسة جهاد البناء” و”حزب الله”. فإذا كان الكتيب يتضمن المعطيات والظروف العامة التي أدت الى ولادة “وعد”، والخطوات “العمرانية” العامة التي تتبعها لإعادة إعمار الضاحية الجنوبية بعد حرب تموز – آب 2006، فإن “الفيلم” يفصح عن الرؤيا القيامية لـ”مشروع وعد” الذي ليس سوى حلقة او محطة موعودة في هذه الرؤيا التي تجعل التاريخ و”المشروع الإعماري” محطات في “مواكب ومشاهد (قوة) أمة المستضعفين الحسينية الخمينية”، على ما عنون وضاح شرارة مقالة له في صحيفة “المستقبل”، 3 آب 2008.
إعمار النكاية
بزهو ملؤه التهديد والوعيد والفخر والإعتزاز والصلف، يظهر إسم “الفيلم” على الشاشة السوداء: “هنا الضاحية – وعد”، قائلاً للمشاهد: إنتبه، إحذر، أنت في حضرة الضاحية، “وما أدراك ما (الضاحية) يوم تنزّل الملائكة والروح فيها” و”الوعد الصادق”، “فاخفض (لها) جناح الذل” والطاعة والهوان، كما أخفضته بيروت لجيش الحزب السري الخميني في 7 و8 و9 ايار 2008.
فعلى طريقة التصوير الفضائي والقيامي، ذاك الذي يفترض انه يبعث الخوف والذهول في الابصار والافئدة ويخطفها – لكن الذي أمسى من لعب الاطفال وتسلياتهم مع شيوع برنامجيات “غوغل” على أجهزة الكمبيوتر – تنقل كاميرا “هنا الضاحية” مشهداً للكوكب الأزرق وهو يدور سابحاً ي الفضاء، ثم يروح كوكبنا يقترب ويتسع بطيئاً بطيئاً، فنرى على الشاشة، البحار والمحيطات والقارات. ومن آسيا الى الشرق الاوسط، فبيروت، فضاحيتها كأنها مركز الكرة الأرضية العالم. وسرعان ما تروح تنهال على الضاحية – المركز الكوني، ومن جهات الفضاء كله، القنابل والصواريخ – وهذه ليست سوى صور مفرقعات نارية يكثر إطلاقها في الأعراس اللبنانية – كأنما العالم كله، بل الكون يقصف الضاحية ثاراً منها.
بعد هدأة قصف المفرقعات النارية، تنبلج من أرض الضاحية وسمائها سحب البشارة القيامية البيضاء، وتروح تتلألأ متحولة اشكالا مخضبة بألوان نورانية كبزوغ فجر كوكبي، قبل ان يتمخض الأفق، كما من سفينة نوح، عن توليد كلمة “وعد” نارية فولاذية كأنها خرجت من فوهات براكين وتصدعات جيولوجية، مصحوبة بمقتطف صغير مستل من سمفونية كارمينا بورانا. وسرعان ما تروح الكلمة النورانية الوليدة (وعد) تسبح في الفضاء فوق مجسمات بنايات صنمية جديدة هي صنيعة الوعد الإلهي النوراني الكبير، لتستقر، أخيراً، كاميرا “هنا الضاحية” على عبارة “بنعمرها أجمل ما كانت”.
هذه الرؤيا القيامية لولادة “وعد” في مقدمة “الفيلم الوثائقي”، تشي بأن إعمار الضاحية “أجمل مما كانت” يهدف، في المقام الأولى، الى نكاية اسرائيل والولايات المتحدة الاميركية والعالم كله الذي يتآمر عليها. ويهدف في الدرجة الثانية الى حمل سكان الضاحية على الشعور بأنهم مدينون بعيشهم وسكنهم وحياتهم وموتهم الى “وعد” الحزب الخميني وإرادة النكاية التي يجعلها ركيزة مشروعه الإعماري. وإرادة النكاية هذه، أو “شوكة النكاية” وردت حرفياً في عنوان فصل من كتاب وزعته “القاعدة” على شبكة الانترنت في عنوان “إدارة التوحش – أخطر مرحلة ستمر بها الأمة”، من تأليف أبي بكر ناجي. فـ”مجموعات النكاية في مناطق التوحش”، بحسب هذا الكتاب، مهمتها خلق “موالاة إيمانية بين هذه المجموعات” والناس. و”تتمثل (الموالاة هذه) في عقد مكتوب بالدماء، أهم بنوده الدم الدم والهدم الهدم”. ويتكفل العقد هذا بـ”تحقيق شوكة كبرى يعجز العدو عن مواجهتها”. والحق ان أهم أنجاز حققه “حزب الله” في حرب تموز – آب 2006، هو عقد الدم والهدم هذا بينه وبين جمهوره الشيعي، وضم إليه “الشيعة العونية” المسيحية السائرة على خطاه على طريق دمشق – طهران.
“النّوارة” وغاراتها
بعد هذه المقدمة تنتقل كاميرا “هنا الضاحية” الى الضاحية الجنوبية قبل حرب تموز – آب 2006، فتصور مشاهد من حياة أهلها وسكانها في شوارع تكثر فيها صور الشهداء المنصوبة متتابعة على أعمدة الإنارة، مع صور عملاقة للسيد حسن نصرالله. يرافق هذه المشاهد صوت يتصنّع الرصانة والهدوء، ولا يختلف في نبرته وأدائه عن اصوات مذيعي محطة “المنار” التلفزيونية وإذاعة “النور”. ويعلن هذا الصوت:
“لم تكن مجرد ضاحية جنوبية للعاصمة”، من دون ان يسمي هذه العاصمة، إلا حين ترد مضافة الى الضاحية في الجملة التالية: “فضاحية بيروت الجنوبية لا تشبه مثيلاتها من ضواحي المدن في العالم الثالث، فقيرة بائسة وتابعة تحكمها عقدة النقص والغضب من جارتها القوية”، من دون أن يعلن الصوت الإذاعي من تكون هذه الجارة القوية التي لم تفوّت المنظمات العسكرية المتعاقبة منذ 1969، فرصة سانحة للسيطرة عليها. وبعد 1982 ورثت جماعات حربية جديدة، المنظمات الفلسطينية المسلحة، فتجددت حملات الإغارة على بيروت للسيطرة عليها: “إنتفاضة 6 شباط” 1984، ثم قامت حركة “امل” الشيعية المسلحة باجتثاث منظمة “المرابطون” البيروتية المسلحة وغيرها من “الزمر العرفانية” سنة 1985، قبل إحتراب “أمل” والحزب الاشتراكي الجنبلاطي الدرزي للسيطرة على بيروت في 1985 و1986، تمهيداً لعودة الجيش السوري اليها، ليقول الجنرال ميشال عون بعد تنصيبه رئيس حكومة عسكرية انتقالية سنة 1989: ما همّ لو دمرت بيروت مرة جديدة؟ وذلك على إيقاع مفاوضاته الحربية مع النظام السوري، للوصول الى رئاسة الجمهورية. وبعد عودة الجنرال من منفاه الفرنسي – وهو عاد حاقداً حقداً ثأرياً على من أطلق اغتياله “ثورة الارز” التي أعادته من المنفى، وتحاول حتى الساعة تحرير لبنان ميراث الإحتلال السوري – حالف الجنرال حزب الاحتلال، فأحتلا معاً وسط مدينة بيروت طوال أكثر من سنة ونصف السنة. وهو الاحتلال الذي لم ينتهِ إلا بقيام “حزب الله” وحركة “أمل” والحزب السوري القومي الاجتماعي، بالإغارة على أحياء بيروت في 7 و8 و9 و10 أيار 2008. والغارة العسكرية هذه، هي التي مكّنت الجنرال من حيازة 4 وزارات في “حكومة الوحدة الوطنية” الصامتة او الخرساء عن قرصنة النظام السوري المتمادية ضد لبنان.
هذه الوقائع – المحطات كلها وغيرها الكثير، هي التي مكّنت “الضاحية” من أن لا تكون “مجرد ضاحية جنوبية للعاصمة”، بل معقلاً وحصناً أهلياً حربياً يعتز الصوت الاذاعي في “فيلم: هنا الضاحية” بأنه “هنا في لبنان، وفقط في لبنان، فاقت الضاحيةُ العاصمةَ صيطاً وشهرة”. فهنيئاً للضاحية بهذا الصيت وبهذه الشهرة، وهنيئاً للبنان بهذه الضاحية التي كان رئيس تحرير احدى الصحف البيروتية العروبية، قد سماها “النوّارة” طوال سنوات 1983 و1984 و1985، في احلك مرحلة وأشدها قتامة وسواداً في تاريخ لبنان الحديث.
الحزب الخميني قبل 550 سنة
بعد المقدمة والولادة القيامية لـ”وعد”، يبدأ “الفيلم الوثائقي” برواية “قصة الضاحية الموغلة في القدم (والتي) لا راوي لها ولا مكان في كتب التاريخ الرسمية”. والقصة الغائبة أو المغيّبة، والتي يولّدها الحزب الخميني على صورته ومثاله، هي “قصة منطقة أصرت، منذ ان وجدت على ظهر البسيطة، على أن تكون بهذا القدر من العناد. ولعل هذا هو سبب تدميرها بهذا القدر من البشاعة”. فهي “المسكونة ثورة ومقاومة”، منذ “أول خبر عنها” أورده “صالح بن يحيى سنة 1450م، عن برج البراجنة” التي يجعلها الحزب الخميني في “فيلمه الوثائقي” مهداً أول لولادته قبل 550 سنة”، على ما “يروي” المذيع في “الفيلم”. و”الثابت”، بحسب المذيع، “أن الاستقرار السكني في قرية البرج والمناطق المجاورة لها، بدأ منذ اوائل 1700م، (فراحت) تفد اليها جماعات من المسلمين الشيعة”. اما السكان المسيحيون، فراحت “جماعات” منهم تلجأ الى المنطقة “لتعمل في زراعة الارض، حسب قوانين الإقطاع في ذلك الوقت”. واستمر لجوء المسيحيين الى كنف الضاحية الخمينية، أثناء “مذابح 1840 – 1860 في الجبل” الدرزي – المسيحي. فآوى “وجهاءُ الشيعة في الضاحية” المسيحيين الذين لا وجود لهم في “فيلم: هنا الضاحية” إلا في هذه “الواقعة” الوحيدة، اي فلاحين وهاربين ولاجئين الى مهد الحزب الخميني الاول الذي قام بـ”اول حركة مقاومة قبل 225 سنة، عندما رفض سكان برج البراجنة دفع الإقطاع للامراء المعنيين”.
و”بقيادة إبن الضاحية الشهيد عبد الكريم قاسم الخليل (حصلت) بعد قرنين جولة جديدة من المقاومة” والتحرير. كأن عبد الكريم الخليل – وهو من شهداء 6 أيار 1916 على مشانق ساحة الشهداء في بيروت – كان عضواً في خلية حزبية أنشأها “حزب أمة المستضعفين”. شأنه في هذا شأن “شابين مسلحين صعدا إلى مئذنة جامع المنشية (في برج البراجنة) وبدأا بإطلاق النار على موكب الجنرال الفرنسي غورو (الذي) قبِلَ دعوة الى حفلة تكريم له في ساحة المنشية”. وفات مذيع “الفيلم” ان يقول إن مكرّمي جنرال “الشيطان الاكبر” في الحفل، كانوا “يهود الداخل” من “صهاينة حكومة فيلتمان وألمرت”. والرصاصات التي أطلقها “المجاهدان” من مئذنة جامع المنشية، هي التي حملت الجنرال الفرنسي على “المغادرة فوراً”، هارباً من حيث أتى، فـ”لم تطأ قدماه أرض الضاحية الجنوبية أبداً”، بل وطئت فقط أرض بيروت ولبنان. وهي الأرض التي سوف يحررها من دنس أقدام جنرلات الطغيان، الحزبُ الخميني الموعود الذي أرهصت بولادته قرية برج البراجنة، قبل ان يحرر حارة حريك من سكانها المسيحيين (الغائبين اصلا عن الرواية القيامية هذه) ويتخذ الحارة معقلاً أو مربعاً أمنياً لحروبه التحريرية اللاحقة. والتغييب هذا كان دأب التأريخ الصهيوني لاستيطانه أرض فلسطين الخالية والمقفرة من الشعب الفلسطيني. وحروب التحرير التي يؤرخ الحزب الخميني لجهاده بها، لا تختلف في شيء عن “حرب الاستقلال” الصهيونية في فلسطين، قبل أن يكذّبها المؤرخون الاسرائيليون الجدد’ أخيراً.
ومن محطات حروب التحرير “البارزة” التي خاضها الحزب الخميني في “الضاحية”، بحسب “الفيلم الوثائقي”، “ولادة مشروع الحركة الاسلامية الشيعية في لبنان، على يد الأب المؤسس السيد موسى الصدر”. أما “المرحلة الفاصلة في تاريخ الضاحية (فكانت في) صيف 1982: مولود جديد يرى النور، عُرف لاحقاً بحزب الله – المقاومة الاسلامية في لبنان. ومنذ ذلك الحين بدأت فصول علاقة بين الضاحية (والحزب)، فأصبح للمقاومة عاصمة جديدة هي الضاحية وقلبها حارة حريك”.
استغرق انتقال الحرب الخميني من معقل حاضنته الأسطورية الأولى، قرية برج البراجنة بحسبة، الى عاصمته الجديدة، حارة حريك، على مسافة مئات قليلة من الأمتار، نحو 550 سنة من الخرافات والأساطير، ومن انتزاع شذرات من الوقائع والحوادث من سياقاتها، وخلطها بالمنامات والرؤى القيامية، ممارساً في هذا كله العنف وإرادة النكاية على التاريخ والبشر والعمران. وفيما كانت “وعد” تطلق مشروعها لإعادة إعمار الضاحية بعد حرب تموز – آب 2006، كانت توزع في شوارع الضاحية والجنوب كتيبات عن إقتراب موعد “عصر الظهور”، أي ظهور المهدي المنتظر، ويكثر خطيب الحزب الخميني الأول في لبنان، من إطلالاته الخطابية معلناً بشارة “الوعد الصادق” و”النصر الإلهي” الذي نعيش اليوم في ظلاله الميمونة.
الحرب والرؤيا القيامية ركيزتان لإعمار النكاية والإستبداد الأهلي (1)مقال ممتع جداً فيه الكثير من السرد وال ” اللف والدوران ” اعتقد ان الكاتب لا يعرف او لم يحدد ما الهدف من وراء هذا التحقيق ، الذي على ما يبدو قد نشر على مرحلتين ، في المرحلة الاولى استهدف الاستاذ ابي سمرا الكتاب ” الكتيب الذي نشر في محاضرت الجامعة الاميركية ” وفي المرة الثانية في هذا التقرير يستهدف القرص المدمج ” CD ” فيلم هنا الضاحية . لا ادري ما مصير الطاولات والكراسي وحصتهم من ثقافة الاستاذ ابي سمرا؟َ!!؟! ولكن اتمنى من حضرته ان يكون واضحا اكثر في تعليقاته وانصحه… قراءة المزيد ..