حوار هيئة تحرير “ما بعد”
هذا الحديث صريح و شجاع، يأتي من القلب و العقل و الوجدان و هو لمفكر عربي يتمتع بقدرة كبيرة وقوية على تحليل الواقع وربطه بالمستقبل.
ومن البديهي حيث إنّ عدد “ما بعد” مخصص لقضايا القمة الاقتصادية و الاجتماعية و التنموية التي تعقد بدولة الكويت فلا بد من حوار صريح و قوي في العدد يضع أمام صناع القرار آلام و طموحات الشارع العربي.
وفي مقدمة مفكري العالم العربي الذين لديهم القدرة على تقديم هذا الربط الأستاذ الدكتور شفيق الغبرا أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت ومؤسس و رئيس مركز “الجسور العربية”.
ومركز الجسور العربية هو مركز للقيادة و الاستشارات متخصص في تنمية القيادة و الإصلاح في القطاعين العام و الخاص في العالم العربي.
ومن بين المناصب الكثيرة التي شغلها الغبرا منصب الرئيس المؤسس للجامعة الأمريكية في الكويت 2003-2006، وعمل مديراً لمركز الدراسات الإستراتيجية و المستقبلية في جامعة الكويت من سبتمبر 2002 إلى يناير 2003، و من 1998 و حتى 2002 كان الغبرا مديرًاً للمكتب الإعلامي الكويتي في واشنطن العاصمة، من 1996 و حتى 1999 كان رئيسًا لتحرير مجلة العلوم الاجتماعية في جامعة الكويت.
وقدم الغبرا منذ أكتوبر 2006 وحتى يناير 2008 برنامجا ً أسبوعيًّا في تلفزيون الكويت بعنوان (ديوانية الأسبوع).
وشفيق الغبرا مفكر يركز على القضايا السياسية بقدر ما يركز على الإصلاح التعليمي و القيادة و التغيير في المنظمات.
وهو مؤلف لخمسة كتب وعشرات الدراسات والبحوث.
كما تلقى شفيق الغبرا أعلى جائزة في الكويت للبحث العلمي في الإنسانيات و العلوم الاجتماعية من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، برئاسة الأمير السابق الشيخ جابر الأحمد الصباح.
كتابه “فلسطينيون في الكويت”: الأسرة وسياسات البقاء تم اختياره بواسطة (شويس choice) الكتاب الأكاديمي المميز لعام 1989.
للغبرا أربعة كتب أخرى منها إسرائيل والعرب: من صراع القضايا إلى سلام المصالح (1997). وكتاب: الكويت دراسة ديناميكيات المجتمع والدولة (بالعربية، 1995) وكتاب الولايات المتحدة والخليج: قراءة للمتغيرات الدولية 2005 (تحرير).
وفيما يلي نص الحديث:
ما بعد: ما هو الحلم العربي في تقديرك؟ و كيف يمكن لقمة الكويت أن تقترب من تحقيق هذا الحلم؟ و في إطار هذا السؤال ما هي أهمية قمة الكويت؟ و ما هي التحديات الحقيقة أمام العالم العربي لكي يحقق العدالة للجميع و لكي يحقق نهضة حقيقية اجتماعية و اقتصادية؟
**شفيق الغبرا: الحلم العربي يعاني من ارتجاج كبير خاصة منذ هزيمة ١٩٦٧ وسقوط القوميةالعربية ذات المنحى العلماني اللاديمقراطي في وحل التناقضات وبروز المشروع الإسلامي الأصولي الذي تحول هو الآخر إلى مشروع معاد للعالمية والحداثة والتقدم والحريات في المجتمعات العربية. دعيني أجتهد في مسألة الحلم العربي في ظل هذه الظروف الصعبة. إن هدف الحلم العربي( ليكون ممكنا) يجب أن يكون السعي للتنمية المستدامة القائمة على الحكم الصالح في ظل دول عربية دستورية مدنية تعبر عن مصالح سكانها وحاجتهم لتحقيق ذاتهم وازدهار بلادهم واحترام حرياتهم وحقوقهم وتنوعهم الفردي والجماعي.
ولتحقيق هذا الحلم علينا أن نجد طريقه تنقل الدور الراهن في قيادة المجتمعات العربية في كافة المجالات الاجتماعية والسياسية من الجيل القائد الراهن إلى الجيل الصاعد ومن الجيل الأول إلى الجيل الثالث والرابع من الشباب. ويجب أن يتم هذا في ظل مشروع عربي للنهضة أساسه إنشاء واقع إصلاحي ديمقراطي انتقالي( وليس شرطا أن نبدأ بانتخابات شعبية تضيف إلى التراجع القائم في دولنا) يستند إلى حقوق الإنسان وحق المعارض في أن يقول رأيه بلا خوف في بلده في ظل الانفتاح الإعلامي والثقافي والسياسي القائم على احترام التنوع والاختلاف وتعدد الآراء.. هذا يعني إلغاء الرقابة بأنواعها وإعادة النظر بكل وسائل تدريسنا في المدارس والجامعات والتركيز على التجديد وإطلاق الإبداع. وبطبيعة الحال لا إبداع بلا حرية، ولا تنمية بلا شفافية وحسن إدارة وتركيز على الكفاءة.
في النهاية إن لم تكن البنية التحتية للتنمية قائمة وإن لم يكن المجتمع المدني يقوم على الحريات وثقافة المساومة والحوار و التعليم النوعي، فلن تأتي الانتخابات الديمقراطية، عندما تقع ، بما يصب في مصلحة الحلم والتنمية فالتنمية سابقة للديمقراطية، كما أن الانفتاح والحريات وحقوق الفرد والمجتمع المدني سابقه للديمقراطية الانتخابية، وإلا تحولت الانتخابات لسلسله من الممارسات اللاديمقراطية التي تساهم في تراجع المجتمع وتحديد الحريات وانقضاض الأغلبية على الأقلية وتراجع التنمية.
إنَّ السير في الطريق التنموي والارتقاء نحو العالمية يتطلب من الحلم لعربي في هذه المرحلة بالذات أن : يمجد العقل لا الحفظ ويمجد النقد لا النقل ويمجد الحوار لا التراشق ويمجد الحريات لا القمع ويمجد الجهد لا الفساد، ويمجد الشباب والمرأة في أدوارهم الجديدة لا التقيد والمنع ويمجد الإبداع لا التكرار.
*ما بعد: ما هو المثقف العربي في دفع التنمية الاقتصادية و الاجتماعية إلى الأمام؟ و ما هي مطالب المثقف العربي و صاحب الفكر من قمة الكويت و الزعماء العرب؟
**شفيق الغبرا: العالم العربي همّش الثقافة والمثقفين لأنه جعل الثقافةتابعة للسياسة، وهذا جعل الثقافة العربية أقل انفتاحا من الثقافات الأخرى في العالم علي ذاتها قبل أن تكون منفتحة على الآخرين. إنّ الثقافة العربية حتى اليوم لازالت أقرب لثقافة المنع في معظم معارض الكتب العربية، وهي ثقافة غير قادرة على التأثير والتغير خارج دائرتها لأنها معزولة عن مشروع للتنمية في الدول العربية. فبغياب مشروع عربي يستمد قوته من حداثته يتحول المثقف المستقل إلى الهامشية أو المعارضة. لكي يلعب المثقف العربي دوره يجب أن يمتلك مساحة كبيرة من الحرية ( هايد بارك) للثقافة العربيةنقول به ما نريد، فكيف نتحدث عن القدس عاصمة للثقافة العربية ونحن نكرر الأخطاء الثقافية التي قادت لاحتلال القدس ألا وهي غياب الحرية الفكرية التي تسمع للحضارة العربية الإسلامية بتجديد نفسها ونقد ذاتها وتصحيح طريقها.
ما هو حاصل الآن هو منع للعقول من أن تبحث، واستمرار لنظرتنا السلبية للمرأة وللحرية في ظل التوتر الدائم بين دور الدين ودور السياسة وموقع الحريات فيهما. لقد تراجعنا عن موضوعات القرن الواحد والعشرين والتطورات التي عمت وتعم العالم بل وتراجعنا عن التغيرات التي وقعت في العالم العربي في عصر الإصلاح الإسلامي الذي انطلق من مصر منذ الطنطاوي مرورا بمحمد عبده والأفغاني وكتاب النهضةالعرب في المشرق العربي. علينا أن نتواصل مع ذلك التاريخ دون أن نكرره، علينا أن نتجاوزه من خلال فكر جديد يفتح الآفاق. إنَّ الهوة تزداد بيننا وبين العوالم الأخرى (من الصين إلى أوروبا ومن روسيا إلى أمريكا اللاتينية والهند) التي أقرت مشاريع تحديث في كافة مجالات الحياة بما فيها طبيعة علاقتها بالسياسة والدين والمرأة والشباب. لهذا فما يطلبه المثقف العربي من القمة هو الشجاعة أولا وثانيًا وثالثًا في تحمل المسـؤولية والشجاعة في تسمية الأشياء بأسمائها وصنع قرار لصالح الحداثة التي بدونها سوف تستمر في طريق مدمر.
*ما بعد: كيف تعود القمة الاقتصادية و الاجتماعية بالفائدة على الإنسان العربي العادي؟ و ما هي العوامل الغائبة لتحقيق هذا الأمل؟
**شفيق الغبرا: الإنسان العربي لايشارك إلا من خلال تعبيرات للغضب التي تبرز أحيانا بين الشباب أو بين فئات من الإرهابيين معبره عن أزمة العرب الحديثة. بمعنى آخر الإنسان العربي متلقي، وهو ليس كالإنسان الأوروبي، أو البرازيلي أو الأرجنتيني أو الهندي. فالرأي العام العربي إمّا محبط أو رافض وإما متلق أو يعيش حالة احتقان دائمة ضد نفسه وضد الغير وضد العالم. ولأننا لا نمتلك في معظم بلادنا العربية مشروع حداثة وتنمية ولا نمتلك مشروع حريات يقوم على الحقوق والمشاركة الديمقراطية ترتفع حالة اللامبالاة العربية. في الصين على سبيل المثال المواطن منهمك في مشروع حداثة كبير يعيد صياغة المجتمع والتراث والعقل والاقتصاد، ويتم هذا بلا مشروع ديمقراطي حتى الآن، ولكننا العرب لا نمتلك مشروعا يتقاطع والمشروع الصيني إلا في مناطق قليله للغاية من العالم العربي مثل الإمارات وقطر وجيوب في أجزاء عربية أخرى. . المشكلة في عالمناهي أنَّ أغلبيتنا تعيش الآن مع مشروع الماضي الأصولي واجتراره ونتصرف وكأن عدونا هو التغير والتحديث والتجديد.
*مابعد: كيف ننطلق بعد هذه القمة الأولى؟
**شفيق الغبرا: لن يكون هذا ممكنا بلا رؤية نتائج هذه القمة، فبلا مشروع تحديثي إصلاحي عربي نشاهد بعضًا من ومضاته في بعض البلدان العربية وفي بعض التحركات الاجتماعية المدنية والثقافية العربية فلن يكون لنا مستقبل.
*ما بعد: إنَّ البداية للعرب يجب أن تكون من خلال مشروع للإصلاح يتحلى بالجرأة والزخم، إنَّ الإصلاح يتطلب مشروعًا متكاملا للحداثة التي ابتعد العالم العربي عنها في العقدين السابقين.
* من خلال رؤيتك ما هو مستقبل المستقبل العربي؟
**شفيق الغبرا: إنَّ استمر العالم العربي والإسلامي على هذا الطريق المنغلق في فهمه للذات والتاريخ والدين والعلم والمجتمعات الأخرى والثقافات الأخرى والمرأة والشباب فلا مستقبل له على المدى المنظور المتوسط. فإن استمر الإطار الراهن سوف تتعمق القبلية والطائفية والكراهيه والعنف والديكتاتورية والفساد في المجتمعات العربية. أليْسَ هذا جزءًا هامًا من الصورةالراهنة المنتشرة. لقد كبلنا أنفسنا على مدى العقدين الماضيين بالأصولية الإسلامية، فمن خلالها أعدنا المرأه إلى الوراء بحجج لا علاقة لها بالعقل والحرية والخيارات بل قائمة على فهم مجتزَأ للدين الإسلامي. قالوا لنا إنّ الإسلام هو الحل وإذا بالممارسات القائمة على هذا الشعار أصبحت بداية مأزق تاريخي لنا نحن العرب والمسلمين. قالوا لنا بتطبيق الشريعة كما هي بلا أقلمة وتعديل وبلا اجتهاد وبلا تغير وفق سنن الحياة وبلا تجميد لأحكام وتطوير أخرى وبلا حريات وخيارات بما يساهم في تنمية المجتمع المسلم الحر والمتنور وبلا حرية تواجد تفسيرات مختلفة، وإذا بهذا السعي لتطبيق الشريعة يأخذنا إلى تجارب الطالبان والعنف في الجزائر والسودان وقطع الرؤوس وجلد الناس وإغلاق محلات الحلاقة ومنع الاختلاط بين النساء والرجال ومنع الفرحة والعداء للثقافةوالمثقفين والحرية والمسرح والأدب والمرأة والتعليم النقدي وكل ما هو إنساني. هكذا نسعى لإنشاء دول إسلامية ذات منحي أصولي ولكنها في الجوهر ليست إسلامية، ثم نخلط الدين بالسياسة فننتهي إلى واقع لا هو ديني ولا هو سياسي.
لهذا علينا القيام بتجديد من نوع مختلف، وبإمكان الدول العربية أو بعضها، بما لديها من إمكانيات ضخمة، أن تطلق حركة للتنوير العربي والإسلامي لا يقف أمامها شيئ ولايمنع عليها أن تناقش أمرًا في السياسة والفكر في التاريخ والإسلام في المرأة والرجل وفي الأدب والمعرفة والمجتمع والدين والتراث إلا وفق أسس العقل والتفكير الحر و إنَّ حالة الخوف السائدة في العالم العربي من التجديد هي التي تمنع من الإبداع والتجديد، وتجعل كل مسؤول سياسي يعتقد أن حكمه ونظامه سوف يقيم بناء على عدد المساجد التي بناها وليس عدد المدارس ونوعية التعليم، وبناءً على الممنوعات التي أقرها وليس بناءً على الحريات واحترام الإنسان. هناك فهم مغلوط لدور الحكومة ولعلاقة التنمية بالحداثة والتنوير والحريات الفردية والعامة والعالمية.
من وجهة نظري الإسلام الذي أتى متقدما عن غيره في بدايات الدعوة، لا يمكن أن يكون ضد الحريات، ولايمكن أن يقوم على تفسير أحادي الجانب للبس المرأة وحركة المرأة وحريات المرأة، ولايمكن أن يكون قائما على رفض للثقافات الأخرى ورفض للثقافات الوطنية في المجتمع الوطني وتركيز كبير على القمع والبوليسية وسعي دائم لإدخال الدولة في فرض سلوكيات محددةعلى المجتمع. هذا بالنسبة لي لايمكن أن يكون هذا هو الإسلام، بل هذا في الجوهر تفسير مجتزئ وخارج المكان والزمان والإطار والتاريخ للإسلام.
في مشروعنا الإنساني والتجديدي لا بديل عن إيجاد تنوير إسلامي حقيقي. وهذا بحد ذاته يجب أن يكون مهمة الثقافة العربية وكل من يهمه مستقبل العالم العربي الإسلامي. إن الدولة المدنية وليس الدينية تعرف جيدا حدود تدخلها في الحياة الخاصة للناس كما وتعرف حدود تدخلها في الاقتصاد وفي المجتمع. آن الأوان لنفكر بمستقبل أساسه الحرية، أساسه الاختيار، أساسه كرامة الإنسان وكرامة الفرد وحقوقه بما فيها حقوق الأقليات والضعفاء في العالم العربي. ولو تساءلنا كيف نحكم على مجتمع متقدم أم متأخر: إنَّ هذا يتم في جانب رئيسي من دراسة حالة الأقليات والضعفاء في ذلك المجتمع. هكذا نستطيع أن نحكم علي تقدم المجتمع الأمريكي من مقدرة أوباما على الفوز بينما أوباما العربي لا يملك جنسية أيٍّ من الدول العربية لأن إلام في مجتمعنا لا تقدم جنسية لابنها أو ابنتها.
*ما بعد: ما هي الدروس المستفادة تاريخيا من مثلاً من حرب أكتوبر 1973 عندما كان العالم العربي على قمة العالم بسبب سلاح النفط؟ هل أخفقنا في ذلك الوقت من تحويل الفائدة الكبرى من ارتفاع أسعار النفط إلى نجاحات اقتصادية في كل العالم العربي؟
**شفيق الغبرا: نعم أخفقنا كثيرا بعد حرب أكتوير. فمشكلتنا الرئيسية هي أن إنجازاتنا ليست تراكمية. هذه مشكله كبيرة في العالم العربي، كما أن المبادرةالعربية للسلام فقدت قوتها وزخمها بسبب ضعف التراكمية. فنحن العرب لا نراكم، وهذا هو حالنا حتى عبر التاريخ الطويل. مثلا أنتجنا في السابق ابن خلدون والفارابي وابن رشد والغزالي وغيرهم، وهؤلاء نشأوا في ظل مناخ الحرية القائم في ذلك الزمن. لكن الفارق بين الحضارة الإسلامية في التاريخ والحضارةالأوروبية هو أن الحضارة الأوروبية بنت مشروعًا للتنوير والحداثة بصورة متراكمة وهذاما لم نفعله. فعوضا عن ابن خلدون واحد انتجوا مئات، وعوضا عن ابن رشد انتجوا ألوفـًـا، هكذا تميزوا عنا في العدد والزخم والمراكمة عقدا وراء عقد وقرنا وراء قرن، كما أن التنوير في مجتمعاتهم كان منتشرا في عشرات المدن والجامعات والمؤسسات منذ بدأ عصر التنوير وبدايات نشوء علم الجغرافيا والاكتشافات الجغرافية في القرن الرابع عشر والخامس والسادس عشر حتى اليوم. وبينما وقفت الكنيسة وفئات رجعيه ضد التنوير ، إلا أنّ أوروبا نجحت بفضل الزخم الكبير الذي أنتجته في الانتصار ثقافيًّا على نفسها وعلى مورثيها وعلى كنيستها( انتجت حركة إصلاح ديني) لصالح عقلها ومصالحها وحاضرها ومستقبلها وإعادة تعريف دينها وتراثها وفق أسس مناسبة للزمان. كما أنَّ أوروبا أنتجت حكاما وملوكا كانوا أكثر جرأة من حكامنا لأنهم قاموا بتبني التنوير والتغير والإصلاح رغم معرفتهم الثمن، كما أن أوروبا انتجت قوى اجتماعية بفضل الانفتاح والتنوير استفادت من مناخ التغير فتحولت لرافعة كبرى في نهضتها. إن العصر الذي نعيشه عالميا منذ القرن السادس عشر ارتبط بالتنوير، بينما الاستثناء الوحيد الذي نجده حتى الآن هو في العالم الإسلامي. هذا بالتحديد يعكس مدى صعوبة التغير لدينا، ومدى صعوبة قبولنا بالثقافات الأخرى حتي لو كان ذلك في مصلحتنا، هذا كله دفعنا لأن نكون خارج التاريخ في هذا الزمن، مما يسهل ضربنا وعزلنا كما نشاهد على الصعيد العالمي.
إن مشكلتنا مع المراكمة نجدها في كل تجربة. مثلا قمنا في أواخر الستينيات وأوائل السبعينات بتحديث الجيش المصري ثم تحقق انتصارٌ كبيرٌ عام ١٩٧٣، وما إن انتهي الانتصار حتى عدنا إلى أسلوبنا التقليدي في المتابعة والمراكمة. لقد بنينا وشيدنا في العالم العربي أفضل الجامعات في العالم الثالث ثم قمنا بهدم هذا مع أول تغير في الإدارة، وقد بنينا أفضل مؤسسات ثم تجدنا نقود تراجعها بسلسلة من القرارات العشوائية. كما وبنينا في حالات حكومات فاعلة، ثم نجدها تتحول لجهاز ضعيف مع أول تعديل سياسي. مشكلتناهي أننا لا نراكم في العلم أو الاقتصاد أو التنمية أو التاريخ أو المجتمع أو البحث أو الحريات أو الثقافة أو الحقوق أو السياسة والحكم أو الإدارة ،تاريخنا الطويل كعرب يقول إننا ضعفاء في هذه المراكمة، وحتى لو حصل لدينا حريات، نجدها تتراجع بعد نصف جيل. قارنوا بين عصر الخمسينيات و اليوم، قارنوا بين زمن طه حسين والنحاس باشا في مصر وبين اليوم. تاريخ الغرب يقول انه تميز، من جهة اخرى، في المراكمه والمتابعه ولهذا تفوق علينا وهمشنا نحن. اعود واقول: انظروا حولكم كم من مؤسسة رائده في العالم العربي تحولت الى الانزواء والضعف خلال عقد من جراء سوء الاداره بعد ان كانت الافضل في سنواتها الاولى؟
* مابعد: ما هي الأمثلة الناجحة التي يمكن أن تكون القدوة للعمل العربي المشترك من أجل تحقيق تنمية متقدمة و ناجحة و عادلة في العالم العربي؟
**شفيق الغبرا: الأمثلة الناجحة في العالم العربي قليلة ولكنها قائمةوبالامكان تحويل بعضها لنماذج. أولا: علينا أن ندرس تاريخ المؤسسات الناجحة في العالم العربي. ويهمني أساسا أن ينجح العرب في التعلم من النماذج الإيجابية فيما بينهم ومن النماذج الإيجابية في العالم. مثلا كان للكويت مكاتب إعلامية في الخارج طوال التسعينيات، بعض هذه المكاتب تحول لنموذج متقدم للعمل العربي المشترك وللتعبير عن الرؤيةالعربية والكويتية والخليجية في عالم متغير. ولكن بأسرع من البرق تحولت هذه المكاتب إلى أجهزة شكلية، ثم تم إغلاقها بالكامل. السـؤال الأساسي هو أن ندرس أسس النجاح للمؤسسات الناجحة، وأن نكتشف تاريخ النجاح في بلادنا ثم نتساءل عن أسباب الإخفاق الذي يمنع التراكم. بالطبع الكثير من الأسباب معروفة: طريقة اختيارنا للقيادات، طريقة تبديلنا للقيادات، مزاجية الاختيار، طريقة تعاملنا مع النجاح وكون النجاح في العالم العربي يتم بالصدفة وباختيار الصدفة، قبل أن ننتبه لضرورة تحجيمه نظرًا لأننا بنينا ثقافة معادية للتميز.
لنأخذ على سبيل المثال الكثير من المؤسسات العربية. أرى أن معظمها (ولا أقصد جميعها) يقوم بأعمال ليست جوهريه، وأرى أنَّ الكثير منها يقوم بأعمال لا تغير كثيرا ولا تقدم، وأن أغلبها يضيع في الأولويات، وأن الكثير من الدعائية والشكلية تنتشر بين الكثير من المؤسسات العربية أكانت تطرح مشاريع تنمية أو مشاريع بحثيه ام مشاريع وجوائز ام مؤتمرات دائمه. فمؤسساتنا تريد أن ترى النتائج من خلال الدّعايةلا من خلال التغير الحقيقي و الجوهري والأثر الكبير الذي يجب أن تتركه في المجتمع، وأثره على الحداثة والتنوير والتجديد والتغير الذي يحتاجه العالم العربي اشد الاحتياج. بل لدينا حتى الآن سعي لان يكون كل ما نعمله سهلا، فنعقد مؤتمرات سهله، ونبحث مواضيع لا تثير احد، ونبحث عن تأثير مخفف لكي لا يعارضنا احد، ونبنى كل الأعمال ثم لا نتبنى شيئ نظرا لتحملنا أكثر من قدرتنا. نادرا ما تقوم المؤسسات العربية بالحفر في الصخور وقطع المسافات الصعبة بهدف التميز والوصول للقمه. لا نحب الجدل ولانحب الإثارة بل نحب الدعاية فننتهي إلى سقوطنا في الامتحان الإنساني.
إن كل ما قلته في هذه المقابله يمثل دعوة لمراجعة الذات للنقد للتقيم، فما أحوجنا لها، فهذا جوهر ما يجب أن يقوم به أي جهد عربي صادق يريد نجاح العرب. أتساءل: كيف نبني أمثلة ناجحة؟ كيف نتعلم من تجارب النجاح أكانت في الإمارات أم في جيوب في بيروت ووسط المجتمع الكويتي المدني، أم في تونس وقطر وعمان و الأردن أم في بعض التحركات المدنية في القاهره. علينا أن نتساءل عن المراكمة، عن الحفر في الصخور الصعبة عن التحول الصعب، عن مشروع الإصلاح و جوهره الحداثة والتنوير والحرية ومركزية الإنسان العربي في كل هذا.
مطلب المثقف العربي من القمة هو الشجاعة والمقالات الخاصة بغزةتحية من القلب والعقل الى هذا المفكر العربي الكبير.لقد تابعت مقالاته كافة لاسيما تلك التي تتعلق بتطورات العدوان على غزة ونتائجه وعبره .ورأيت فيه التحليل العقلاني المعمق والذي يستند الى التفكير العلمي المنهجي في علوم التاريخ والسياسة والتخطيط الإستراتيجي .ولعل الأمة العربية والإسلامية هي بأمس الحاجة لمثل هذا المفكر- والأهم لأسلوبه في التفكير ، للخروج من المأزق التاريخي الكبير الذي نقع فيه جميعا لاسيما القضية الفلسطينية بالذات .ورغم كل العواطف تظل السياسة من حيث الأساس هي فن الممكن ومن لايدرك اللعبة وقواعدها على مسرح الأحداث لايرحمه التاريخ . وأنا أنصح القارئ… قراءة المزيد ..