يبدو ان قدرة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط على المناورة آخذة في التضاؤل حيث انه كلما اوجد لنفسه مخرجا ليستعيد من خلاله خطابه الذي استجد بعد الرابع عشر من آذار، عمد خصومه الى تطويقه في ساحته التي اعتقد طويلا انها بمنأى عن الاضطرابات بعد ان فرض عليها سيطرته طويلا وكاد ان ينجح في الغاء اخصامه من الدروز، واستطاع تحديد احجامهم.
بعد غزوة بيروت المظفرة لحزب الله وحلفائه، في السابع من ايار الماضي والاحداث المترافقة معها في جبل لبنان، حيث الملاذات الآمنة لوليد جنبلاط، بادر رئيس الاشتراكي الى خطوات التفاف واستيعاب كي ينأى بالجبل عن الاحداث وسفك الدماء. ومن خلال سياق تصريحاته وموافقه، عمل جنبلاط الى مهادنة حزب الله واغفل الشق السوري في خطبه ومؤتمراته الصحفية، كي يكون هذا الباب مدخلا لاستعادة الخطاب التصعيدي بعد ان تستقر الحركة الاستيعابية الداخلية.
في السابع من أيار وما تلاه عمل جنبلاط الى اتخاذ سلسلة من المواقف التراجعية، اذهلت خصومه قبل الحلفاء. ففوّض طلال ارسلان التحدث عن الدروز وباسم جنبلاط وحزبه، مع حزب الله وقوى الثامن من آذار، وقال في ارسلان كلاما ما كان يخيل للسامع ان هذا المتحدث هو وليد جنبلاط، وسعى مع الاخير الى تجاهل وجود قبضاي “الجاهلية”، الوزير السابق وئام وهاب. وتهيأ له انه قدّم لارسلان فرصة سوف يقبض ارسلان ثمنها في الانتخابات النيابية القادمة، بعد ان استطاع جنبلاط ان يحجب عنه المقعد النيابي في الدورة السابقة، وان هذا الامر اكثر من كاف بالنسبة لارسلان، لكي يستمر في تنفيذ إملاءات جنبلاط، والاستجابة لهواجسه. كما ان جنبلاط اعتقد لوهلة ان ارسلان استفاد ايضا من تفويضه لكي يستعيد مكانته في الجبل، وتاليا الحد من نفوذ قبضاي “الجاهلية” المتنامي، مدعوما بقدرات مالية وعسكرية “حزب إلهية”، وهذا ما يزعج جنبلاط وارسلان على حد سواء.
ولكن ما يبدو انه التبس على رئيس الاشتراكي اللبناني، وهو المشهود له بقراءته الاستباقية السياسية للمواقف، اكثر من معيار لم يوفق هذه المرة في الاستفادة منها.
اول الاعتبارات، ان ارسلان لم يكن لوهلة مغشوشا بتفويض جنبلاط، وهو يدرك ان هذا التفويض ليس نابعا عن قوة جنبلاط، بل عن خشيته من نقل احداث السابع من ايار ومفاعيلها، التي لا تزال مستمرة توترا امنيا يوميا في غير منطقة لبنانية، الى الجبل، وان ارسلان هو الوحيد القادر على درء هذه المخاطر بتحالفاته الحزب الهية والسورية. لذلك وجد ارسلان الفرصة مؤاتية لتصفية حسابات قديمة مع جنبلاط منها ما هو تاريخي يتصل بالصراع الجنبلاطي الارسلاني، ومنها ما هو مستجد على الخيارات السياسة لكل من جنبلاط وارسلان. وتاليا فان ما قام ويقوم به ارسلان ليس منة من جنبلاط حسب اعتقاده، وان ارسلان لا يريد ان يقبض من جنبلاط ثمن هذا التفويض، بل انه يستعيد حضوره ودوره في الطائفة الدرزية، وفي اعتقاده ان هذا حق له سلبه اياه جنبلاط، وان الاوان قد حان لاسترداده. وتاليا اذا كان جنبلاط استفاد من خياراته السياسية السابقة التي حققت له هيمنة مطلقة على الجبل، فإن عليه اليوم ان يدفع ثمن خياراته الجديدة، وتاليا فان ارسلان سيستفيد من خياراته السياسية في تأكيد استمرار تحالفه مع حزب الله وسوريا ليحقق هيمنة على الجيل مستفيدا من لحظات التراجع الجنبلاطي.
وفي هذا السياق، كان ارسلان حريصا في عز الازمة على تأكيد تحالفه مع قوى الثامن من آذار بتشكيلاتها المختلفة، ولم يخدع احدا من انه يتجه الى ايجاد صيغة تفاهم مع جنبلاط تنعكس تحالفا انتخابيا في الجبل. فقال في غير مناسبة انه مستمر في تحالفاته الانتخابية وهو سيخوض الانتخابات المقبلة الى جانب قوى الثامن من آذار وفي يقينه ان لحظة التراجع الجنبلاطي سوف تسفر تراجعا انتخابيا، مدعوما بحملات التهديد والوعيد التي تطلقها قوى الثامن من آذار يوميا. وتاليا، لماذا يريد ارسلان ان يحدد حجمه الانتخابي من ضمن لوائح جنبلاط وهو الذي يعتقد انه قادر على ايجاد مكانته واسترداد ما سلبه اياه جنبلاط؟
وكان ارسلان يتحين الفرصة ليؤكد لخصمه الدرزي وليد جنبلاط انه لم يعد حاكم الجبل الاوحد، وان عليه ان يأخذ في الاعتبار وجود ارسلان ليس بصفته مفوضا من قبله، بل خصما ومنافسا نداً. وهذا ما التبس يبدو على جنبلاط، فاندفع مجددا الى تقديم تنازل جديد ولكن هذه المرة لقبضاي الجاهلية وئام وهاب.
وهنا يدخل العمل السوري والحزب الهي على خط الامعان في محاصرة جنبلاط وتهديده في ملاذه الآمن، وفي ظل انكفاء حزب الله عن ساحة السجال السياسي اليومي وايكال الامر الى الحلفاء وكان في مقدمهم التيار الوطني الحر وعماده. وبعد ان استنفدت زيارة العماد عون الى سوريا مفاعيلها الداخلية وردود الافعال التي اعقبتها تشرذما مسيحيا، كان لا بد من الانتقال الى ساحة جديدة. فكان خطاب جنبلاط الذي انتقد فيه النظام السوري مناسبة لتبديل الوجهة، بحيث يلتقط التيار الوطني الحر انفاسه ويعمل على معالجة تداعيات الزيارة السورية، ويصبح السجال في الساحة الدرزية فيحقق الحزب الالهي اكثر من غاية، بعد تأكيد التشرذم المسيحي يتم تأكيد التشرذم الدرزي، وتبتعد الذاكرة عن القتال المذهبي السني الشيعي الذي انتجته غزوة السابع من ايار على بيروت وتيار المستقبل، ويتم إغراق جنبلاط في قرى الجبل ودساكره واجباره من جديد تحت طائلة التهديد على السعي لمصالحة وئام وهاب حفاظا على الجبل.
اما الحساب السوري فيتقاطع عند حزب الله وارسلان ووهاب مجتمعين. فسوريا لم ولن تنس انقلاب جنبلاط عليها، وهي تحمله اوزارا عدة اسهمت في سحب جيشها من لبنان وتريد ان تصفي حساباتها معه في اي لحظة تسنح لها.
وسوريا ايضا تريد التاكيد للمجتمع الدولي والعربي واللبناني ان لبنان ليس كيانا معاديا. فها هو عون يزورها، وهو هو الزعيم الدرزي طلال ارسلان ينبري للدفاع عنها في وجه من تطاول عليها. وعلى ابواب الانتخابات المقبلة والتي يبدو ان نتائجها ليست محسومة لصالح قوى الثامن من آذار، وإزاء محدودية التأثير السوري في الساحة المسيحية وبعد محاصرة القوات اللبنانية المسيحية ورئيسها سمير جعجع بتيار عون وانصاره، لا بد من وجهة نظر سوريا، من ان يدفع جنبلاط اولا ثمن انقلابه، لان جنبلاط وعلى الرغم من الحجم السياسي والمحلي والاقليمي والدولي الذي يتمتع به هو من الحلقات الضعيفة في الحسابات الانتخابية اللبنانية بعد ان تقلص حجم حزبه الى حدود الطائفة الدرزية. وبالقياس الى ان الدروز في عزلة عن اي بعد جيوسياسي، فان استهدافهم اسهل من استهداف زعامة الحريري السنية، خصوصا ان ادوات الاستهداف الجنبلاطي موجودة وهي من داخل الطائفة وليست من خارجها، لتستنفر عصبية درزية لمواجهة الاخطار التي تحدق بالطائفة.
مناسبة الهجوم الجنبلاطي على سوريا، كانت المفتاح الذي فتح الباب لارسلان ليجدد شروط تفويضه، وحادثة كفرحيم سمحت لقبضاي الجاهلية بانتقاد جنبلاط وارغامه على الاقرار به وبوجوده السياسي في ظل استمرار مفاعيل غزوة بيروت.
ما يحصل اليوم على الساحة السياسية اللبنانية هو عزل رموز وقيادات قوى الرابع عشر من آذار، تمهيدا لاستهدافها الواحد تلو الآخر، تمهيدا للاستفراد بالبلاد والعودة بها الى حضن الوصاية السورية وورقة تستخدمها دمشق في مفاوضاتها غير المباشرة مع اسرائيل وفرنسا والمجتمع الدولي.
ولكن من يتحمل مسؤولية هذا الواقع الدرامي الذي تتجه اليه قوى الرابع عشر من آذار؟
من دون ادنى شك ان جميع مكونات قوى الرابع عشر من آذار تتحمل مجتمعة مسؤولية هذا الحال المزري، نتيجة عدم انضاجها مشروعا سياسيا حتى الآن، واقتصار حركتها السياسية على ردود الافعال على مواقف قوى الثامن من آذار وسوريا.
ولكن تبرز ايضا مسؤولية اكبر على رئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط الذي انفرد بعد السابع من ايار باتخاذ سلسة من المواقف بعيدا عن التنسيق مع حلفائه، وفي معزل عنهم حتى وجدوا انفسهم يجهدون في تفسيرها وتبريرها، وايجاد الاعذار لجنبلاط، مؤكدين في الوقت نفسه انهم على تحالفهم معه في حين انه كان يطلق المواقف المتناقضة ويلتزم الصمت.
وإزاء ما حصل مؤخرا، ومن جديد، لا بدّ لقوى الرابع عشر من آذار ان تعيد انتاج خطابها السياسي الجامع وتطل على جمهورها بمشروع سياسي لا يسهل استفراد قياداتها لاستهدافها. وبالمناسبة عنوان المشروع السياسي ليس في حاجة الى ابتكار. انه ببساطة: استعادة سيادة وحرية واستقلال لبنان.
وليس تأكيد حضور هذا الزعيم او ذاك داخل حدود طائفته.
richacamal@hotmail.com