What goes around comes around
ما يصدر عنك يعود إليك
(أ) فى كتابه فجر الضمير (down of consciousness) قال عالم المصريات الأمريكى جيمس هنرى برستيد إن سقوط نظام ماعت (الحق والعدل والإستقامة والنظام)، كان أكبر كارثة حلت بالبشرية. لكنه لم يحدد سبب سقوط هذا النظام، ومن ثم فقد قمنا من جانبنا ببيان السبب الرئيس لذلك فى دراسات لنا متعددة، منذ نيّف وعشر سنوات.لقد كانت مصر صفحة السماء، وكنانة الأرض، وجنان الإنسان ؛ فتوافد عليها البدو البُدائيين، من الشرق ومن الغرب، وكان أكثرهم من الشرق، فدفّوا على مصر زرافات زرافات حتى قويت عصبتهم، واشتد أزرهم، وحميت شوكتهم، فبدأوا يخاشنون المصريين ويزاحمونهم ويشاكسونهم.
وكان المصريون – فى هذا الوقت – يحيون وفقا لنظام ماعت، فكانوا ودعاء وكرماء ومتسامحين، لم يمنعوا البدو البُدائيين من دخول مصر، ولم يعزلوهم أو ينعزلوا عنهم، وإنما تخالطوا بهم وتعاملوا معهم، فنتج عن ذلك ما يحدث عادة، وما يُعبّر عنه فى علم الإقتصاد السياسى بأن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق، كذلك، ففى التعامل الإجتماعى المستمر والمستديم، دون إتخاذ حياطة أو صيانة أو رعاية، فإن الأخلاق الرديئة تطرد الأخلاق الجيدة من التعامل. فلما تعامل المصريون مع البدو البدائيين بأخلاقهم وأسلوبهم وطبائعهم سقط منهم وغرب عنهم نظام ماعت، الذى يتمحض فى الحق والعدل والإستقامة والنظام.
(ب) كان لهذا السقوط أثر بعيد المدى طويل الأمد غائر العمق على المصريين وعلى البشرية جمعاء، من أسبابه ونتائجه: (1) فى كتاب بلوتارك (إيزيس وأوزير de isis et osid)، وفى كتاب (مكتبة نجع حمادى nag hammadi library) وهو مجموعة من الأناجيل والأوراق المعرفية (Gnostic)، وفى غيرها من الكتب، أن المصريين القدماء كانوا يعتقدون أنه فى البداية حكمهم الأرباب (الأسياد أو السادة) ثم بعد ذلك حكمهم أنصاف الأرباب (الأسياد أو السادة) ثم ارتفعوا جميعا عن مصر وتركوها لحالها دون أن يوجَدوا فيها.ولعل ذلك كان سببا، والأرجح أنه كان نتيجة، لتخلى المصريين عن نظام ماعت (الحق والعدل والإستقامة والنظام) فغربت عنهم الحكمة وبعدت منهم الأخلاق وسادت فيهم الفوضى، على ما سلف البيان.
وقد أدى ذلك إلى أن يغلب عليهم الطيش والحمق والنزق والهوى والرعونة. وتدليلا على هذا، فإن ما حدث منهم (أو من الغوغاء فيهم) بعد هزيمة الجيش المصرى فى معركة أكتيوم البحرية (31ق.م) هو بذاته ما حدث بعد هزيمة الجيش المصرى فى معركة 5 يونيو 1967، إذ صورت السلطة للغوغاء أن الهزيمة كانت نصرا أوكانت نكسة (set back). ودون تحقق، ورغم أن ظاهر الأمر كان يشى بغير ذلك، فإن المصريين تصرفوا ذات التصرف، رغم مرور ألفى عام بينهما، فخرجوا يدقون طبول الأناشيد ويرددوا هتافات النصر، فيما بيّنه شوقى الشاعر فى مسرحيته الشعرية (مصرع كليوباترا)، وهو ما يظهر من الأبيات التالية، والتى يتحدث فيها صديق إلى صديقه، وهما يعرفان الحقيقة:
أنظر الشعب صديقى.. كيف يُوحون إليه
ملأ الجو هتافا.. بحياة قاتليه
أثر البهتان فيه.. وانطلى الزور عليه
ياله من ببغاء.. عقله فى أذنيه
كذلك فإن ما قاله المتنبى الشاعر عن مصر ردده الشاعر حافظ إبراهيم – بعد ألف سنة – فقال: وكم ذا بمصر من المضحكات.. كما قال فيها أبو الطيب
(2) اتجه المصريون القدماء، نتيجة لتلبسهم أخلاق البدو البدائيين وتطبعهم بطباعهم، إلى التعلق بالظواهر والمظاهر والنجاح الدنيوى والكسب السريع الذى لابدّ له من سلوك سلوكياته، من كذب وغش وظلم وخداع وابتزاز وتزوير للحقائق وتزييف للوقائع، فدمروا نفوسهم، لأن من يعبد الظاهر يحطم نفسه، ويبعد عن المنبع الحقيقى للخلق، وهو القلب النقى والضمير السوىّ الذى يرتبط وينضبط بالضمير الكونى، وبه يترافق الإنسان مع نفسه، ويتعانق مع الأسرة، ويتعاشق مع المجتمع، ويتوافق مع الألوهية السامية، فيعرف السبب من وجوده والغاية منه، حتى لا يسقط فى وهدة من الضياع، فلا يدرى لم جاء وكيف يسير ومتى يمضى!
(3) كانت اللغة المصرية القديمة تُكتب بما كان يعتبر كتابة مقدسة، ولفظ هيروغليفية (hieroglyphic) هو ترجمة يونانية حرفية لتعبير الكتابة المقدسة التى لا تصدر الا عن لغة مقدسة.وتعنى اللغة المقدسة، اللغة التى يكون المعنى فيها على قدّ اللفظ، واللفظ واضح التعبير عن المعنى. وفى هذه اللغة يكون للمجاز والتورية والتشبيه وما ماثل، قصد” هو توجيه الخطاب إلى أكثر من مستوى، فيفهم كل منه على قدر ثقافته (كما هو الشأن فى الأعمال الفنية العظمى، والتى لا تفضّ معناها مرة واحدة) لكنه لا يقصد شيئا مغايرا أومخادعا أو ملاوعا. أما الذى حدث فقد فقدت هذه اللغة مبرراتها ولوازمها وبالتالى فقد تحولت، وتحولت اللغات جميعا، إلى أن تصبح مجالا للثرثرة والرّغى والتبرير والتأويل والطلاء الزائف و البناء المزور والحديث المنمق والرواسم (الاكليشهات) وإن كان خاليا من أى معنى والمزوق بغير أى دلالة صحيحة. وحين تتحول اللغة إلى هذا المجال فإنها تكون لغوا يكثر فيها الكذب ويقل فيها الصدق، وتصبح من ثم ضدا للنور وعونا للظلام، فتتكاثر بها ظلمات الوعى والفهم والتعبير إلى أن يطْبق الظلام ويتعتم النّور.
(4) تراكمت التراثات الموهومة، وتزايدت التقليديات المزعومة ؛ وهى تخليط واضطراب، أقله من الصحيح الذى يتداخل ويتمازج مع الكثير الذى يتمحض – عند التحليل – إلى أوهام لم تحدث، وأحلام على التمنى، ورغبات لا يمكن أن تتحقق، وخرافات اتخذت من فرط التكرار صورة الواقعات الثابتة.
ويبدأ الفرد فى التعلق بهذه التراثات والتقليدات والتخليطات والموهومات لأنها لُقنت إليه منذ طفولته وهو صفحة بيضاء لم يزل، فى البيت وفى المدرسة وفى المجتمع ؛ فلا يستطيع التخلص منها مدى حياته، إذ يستنفد العمل قواه، وتدفعه الأمور إلى تكوين أسرة ينوء بأحمالها، ويظل كذلك حتى تنتهى حياته، وقد عاشها وهو معزول عن صميم معناها وحقيق مغزاها، ممنوع من التعرف على كنه وجوده ولب الغاية الكونية منه ؛ فيضرب فى الحياة دون هدى، لا يستطيع تحقيق ذاته أو فضّ وجوده أو ترقية نفسه أو تصفية روحه ؛ فيعيش ما يعيش وهو كَلّ على الحياة، كأنه ما جاء ولم يحيا ولم يكن شيئاً حقيقياً.
عاشت البشرية جميعا، سواء داخل مصر أم خارجها، فى هذا المناخ الوخيم، منذ سقوط نظام ماعت (الحق والعدل والإستقامة والنظام) أواخر الأسرة الخامسة، وحتى الآن. كل ما يحدث أو يقال أو يُكتب هو ضد وعكس نظام ماعت، إذ إنه بطلان وظلم وإنحراف وفوضى ؛ حروب وقتالات ومعارك وصدامات ومظالم واغتيالات، وهى كلها – أينما كانت ووقتما حدثت – ظلمات فوق ظلمات ؛ يشتد بها الظلام ويبهت منها النور، وكما قال السيد المسيح، فقد أحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة، والظلمة تسهل الشر والنور يمنعه، كما أن التعتيم يسهل الفساد والشفافية تقضى عليه. لقد كان الأسهل على الناس أجمعين، فى كل زمان وأى مكان، أن يقدموا ذبيحة أو يسألوا شفاعة أو يتلوا تميمة أو يقرأوا نصَّاَ أو يهبوا تضحية أو يمنحوا تقدمة من أن ينقّوا القلوب أو يرقّوا الضمائر، وكلما صدر عن الله نور ليهدى البشرية إلى الصواب والنور، غلبته وأطفأته الكهانة وتجار الدين الذين تكونت بهم ديانات منظمة (Organized Religion) فغلّبت ما هو ضد الدين وما هو ضد النور، من شرور وآثام ومظالم ومفاسد، ساعدهم على ذلك أن قوانين الظلام والشر تؤتى ثمارها بسرعة، لكنها تُعطبها بسرعة كذلك، أما قوانين النور والخير فإنها تُؤتى نتاجها بصورة متئدة لكنها مؤكدة، بإستمرار ودوام.
بهذا كله ران الإحباط واليأس والفشل والخسران على البشرية كلها، فى كل مكان وأى زمان، وحبطت أعمالها وهبطت أقوالها، ما دامت تحدث فى الظلام وبالشر ولا تتبع الحق والعدل والإستقامة والنظام، بل إنها تلتزم – ولو دون وعى منها – الباطل والظلم والإنحراف والفوضى ؛ وانتظر الناس إصلاحا جادا أو نظاما صحيحا أو حقا واضحا أو عدلا بالفعل، لا بمجرد اللفظ الذى لا يتحقق، والكلام الذى لا يقصد فعلاً، والحديث الذى لا ينتهى إلى أى عمل ؛ ولكن طال الإنتظار دون نتيجة. إلا أن العارفين والعالمين يتطلعون إلى العصر الجديد، الذى تعتدل فيه قبة السماء، ودورة القدر، فتوجد مجالا طَلقا تتقدم منه البشرية إلى نظام ماعت وتتنكب ما هو ضد لها وعلى العكس منها.
(ب) ظهر تعبير “العصر الجديد” لدى الإغريق، وهو – كأشياء أخرى كثيرة ومعارف غيره وفيرة – قد نُقل عن رهبان مصر القديمة، الذين كانوا قد ورثوا من أسلافهم – منذ عهد أوزير – معارف ومعلومات فلكية محققة.
وقد صيغت أسطورتان حول معنى العصر الجديد، الذى يُرمز إليه بعصر الدلو، وعلامته رجل يمسك بوعاء ويلقى منه المياه، وهى مياه روحية لا ريب.
(1) أولى هاتين الأسطورتين تشير إلى أن رب الأرباب (الذى ظنوا أنه الله بينما هو فى الحقيقة جوبيتر Jupiter عند الرومان، وزيوس عند الأغريق، وهو كوكب المشترى أكبر الكواكب الذى كان يُطلق عليه رب الأرباب) قد خطف طفلا (اسمه جياناميد) لبهائه وجماله. وقد استُعملت الأسطورة فى وقت أفلاطون لتبرير المثلية الجنسية (homosexuality)، وهى تستعمل فى الوقت الحاضر لهذا الغرض، لكنا فى دراسة سابقة لنا عن “الأسطورة والخلاص” دلّلنا على أن الأسطورة ترمز إلى إستيلاء كوكب المشترى على العصر الجديد، الذى صوره المصورون (الرسامون) فى هيئة طفل بهى الطلعة جميل الصورة، من قبيل الولع الروحى والعشق الصوفى، قصد حمايته ورعايته حتى يحين أوانه ويحل زمانه.
(2) وقد ظهرت فى الولايات المتحدة أغنية مشهورة عن عصر الدلو (Aquarius) شاعت وذاعت اسمها أكويرياس (Aquarius). ولولا التزام الدراسة الخط الرئيس للموضوع لأثبتت الأغنية باللغة الإنجليزية وترجمتها إلى العربية.
(د) أما الأسطورة الثانية فهى تسمى أسطورة بريموثيوس. وبريموثيوس هذا بطل أسطورى، ليس من البشر، لكنه رأى شقاءهم وعناءهم، وأدرك أنه يصيبهم جرّاء الجهل (أو الجهالة التى هى فى المعرفة المقدسة من الظلام)، ومن ثم فقد استطاع بقدراته أن يصل إلى الملأ الأعلى، ويأتى للبشر بقبس من نار، هو نور المعرفة المقدسة حتى يخلّصهم من عذاباتهم وشقاءاتهم ومعاناتهم، غير أن الأرباب (وهى أرباب الأرض أو الأجرام الخمسة السيارة التى تتكون منها دائرة القدر وتترتب عليها حركة المقادير)، خشيت أن تُقدم المعرفة المقدسة إلى من لم يتأهلوا لها بعد ويتحضروا لادراك معانيها، فيفسدوها بالفعل ويدمروها بالثرثرة، ومن ثم فقد ربطت بريموثيوس إلى جبل، حيث تنهش الجوارح كبده طوال النهار، وعندما يحل الظلام وتأوى الكواسر إلى أعشاشها، تنبت له كبد جديدة، تنهشها الجوارح والكواسر فى النهار، وهكذا دواليك، حتى خلّص بريموثيوس من هذا العذاب أخوه هرقل. ففك قيوده وأطلق سراحه.
وقد غُمّ فهم معانى الأسطورة، فصُورت على أحوال كثيرة، غير أن معناها الحقيقى – فى تقديرنا – أنها ترمز إلى خوف الأرباب (الأسياد أو السادة) من أن تصل المعرفة المقدسة إلى عوام الناس فيزيّفوا معناها ويحرفوا مبناها، نتيجة لتطور اللغة – على ما سلف – وصيرورتها ثرثرة ورغياَ وأداة لتبرير المظالم وتسويغ الجرْم والإنحراف، وإشاعة الفوضى والإضطراب.
كما أن الأسطورة – من جانب آخر – تشير إلى مدى ما تفعله القوى المادية بأى مصلح أو داعية أو مُعلّم ؛ إذ تبتليه بعذابات كثيرة وخصومات شديدة، حتى تعرقل نشاطه ثم تقفه (توقفه)، عبر أن ما يحدث فى الواقع هو أن العقبات والعذابات والخصومات تشحذ قوى المصلح أو الداعية أو المعلم الحقيقى، فلا يحس وهنا ولا رهقاً، ولا تخور له عزيمة أو تضعف إرادة.
saidalashmawy@hotmail.com
* القاهرة