خاص بـ”الشفّاف
انتخاب باراك اوباما مرشح الحزب الديمقراطي رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، من المفترض، به ان يدفع الادارة الإيرانية الى اعادة قراءة للمعطيات التي افرزتها هذه الانتخابات والتصريحات الاولى التي ادلى بها الرئيس الجديد، باسلوب مختلف.
وعلى الرغم من رفض القيادة الإيرانية لتعدد القراءات الدينية، الا ان الذرائعية السياسية وحتى الدينية التي تميز السياسيين الايرانيين، خاصة التيار المحافظ التقليدي، عندما تلامس التحديات الخطوط الحمراء واستمرارية السلطة، فانها تبدأ بالبحث عن مخارج في العناوين الثانوية للموقف المبدئي او الاصولي الذي تتبناه.
ولا شك ان التيار المحافظ في الجمهورية الاسلامية الإيرانية، باستثناء الرئيس محمود احمدي نجاد والدائرة المقربة منه، قد ارتبكت عند اعلان فوز اوباما بالبيت الابيض، لانها في قرارة نفسها وبرغبة غير معلنة كانت تفضل استمرار الجمهوريين في ادارة الولايات المتحدة الأمريكية. فالتعايش غير المعلن ايضا بين طموحات ايران الداخلية والاقليمية وكل الادارات الجمهورية في البيت الابيض كان اكثر سهولة مما كان عليه في ظل الادارات الديمقراطية.
ولا يغيب عن ذهن القيادة الإيرانية، ان الديمقراطيين هم من قام بمحاولة الانزال العسكري في صحراء “طبس” عام 1980 بهدف تحرير رهائن السفارة الأمريكية في طهران، وان الرئيس بيل كلينتون هو من وضع شروطا قاسية على فتح الحوار مع الجانب الايراني على الرغم من وجود رئيس يحمل مشروعا إصلاحيا وحواريا يقوم على إطفاء نقاط التوتر والتشنج بين إيران والمجتمع الدولي هو الرئيس محمد خاتمي.
والتجربة الإيرانية مع الإدارات الجمهورية للبيت الأبيض كانت دائما تصل إلى نتائج إيجابية في ظل صفقات سرية في الكثير من الملفات التي يتقاطعان فيها، والجمهوريون لا ينسون ابدا الدور الايراني في استعادة الرئاسة عندما قررت إيران ان تكون الناخب الاول في وصول رونالد ريغان على حساب جيمي كارتر برفضها كل الوساطات الدولية لحل الازمة واحتفظت بهذه الورقة لتقدمها للجمهوريين.
ولا يختلف الموقف الإيراني من قطبي الحياة السياسية الأمريكية، الجمهوريين والديمقراطيين، ان كان في مرحلة العهد الملكي الشاهنشاهي او مرحلة الثورة الاسلامية وجمهوريتها. اذ كانت العلاقات الإيرانية الأمريكية تشهد اشد لحظاتها توترا، في عهد محمد رضا بهلوي، عندما كان سيد البيت الابيض من الديمقراطيين. وقد كان عهد الرئيس الامريكي جون كندي الاكثر إيلاما للشاه الايراني واكثر قسوة عليه. والديمقراطيون هم الذين تخلوا عنه في اشد المراحل التي كان بحاجة فيها الى دعمهم وسمحوا بانتصار الثورة الشعبية الإيرانية التي راهنوا فيها على امكان ان يصل الى السلطة قوى ليبرالية يمكن التفاهم معها في المستقبل، كشاهبور بختيار من الحركة الوطنية ومهدي بازركان زعيم حركة تحرير ايران. فاضطر الى الخروج باكيا تحت انظار البيت الابيض وسيده حينها جيمي كارتر عام 1979.
واذا ما اردنا التوقف عند منحى العلاقات الإيرانية الأمريكية منذ العام 79 وحتى الان، فيمكن التوقف كثيرا عن الانسجام بين الطرفين عندما يكون الجمهوريون في موقع القرار، في حين ان الطموحات الإيرانية الداخلية والاقليمية تصاب بكثير من الارباك والتأزم في ظل وجود ديمقراطي على رأس القرار الامريكي. وبناء على هذا المعطى، يمكن التوقف عند نقاط كثيرة تكشف مدى الانسجام (الاسلامي – الجمهوري) خلال العقود الثلاثة الماضية. فمن الخدمة الكبيرة التي قدمتها طهران بوصول ريغان الى الرئاسة على حساب كارتر، مستغلة ورقة رهائن السفارة، فان التعاون الابرز جاء لاحقا على الرغم من كل الازمات التي كانت تبرز بين الطرفين، عبرت عنه صفقة ايران – كونترا او ايران غيت والتي انجزها مساعد وزير الخارجية ماكفرلين الذي زار طهران وتسلم في فندق استقلال مفتاح طهران ودفع ثمنها الجنرال اوليفر نورث.والتي تبعها زيارة لوفد ايراني رفيع المستوى الى البيت الابيض ولقاء الادارة الامريكية. ثم إنهاء الحرب العراقية الإيرانية وقبول ايران بقرار الامم المتحدة رقم 598 العام 1988.
وقد وصل التفاهم الايراني – الجمهوري اوجه عندما وافقت طهران على حرب تحرير الكويت او ما يعرف بحرب الخليج الثانية، في اطار معادلة اضعاف النظام العراقي من دون اسقاطه، ثم التدخل لاحقا في اطار سياسة ملء الفراغ والانتفاضة “الشعبانية” عبر حلفائها العراقيين لفرض امر واقع في الجنوب العراقي يمهد لتأسيس منطقة نفوذ شيعية سقفها ايران في محافظات وسط وجنوب العراق على غرار ما يوجد في شمال العراق واقليم كردستان، الا ان هذه الطموحات اصطدمت بالاستراتيجية الأمريكية للعراق، ما دفع ادارة الرئيس جورج بوش الاب لغض النظر عن تحرك السلطة في بغداد وعمليات القمع الشديد الذي مارسته بحق هذه الانتفاضة بعد ان استطاعت السيطرة على 16 محافظة من محافظات العراق.
في مرحلة التسعينيات
ومع وصول الرئيس الديموقراطي بيل كلينتون الى البيت الابيض، واجه النظام الايراني الكثير من التحديات والضغوط المباشرة وغير المباشرة على الرغم من وجود محمد خاتمي الاصلاحي في رئاسة الجمهورية، كان الابرز فيه التهديد الذي شكله تصاعد نفوذ حركة طالبان في افغانستان على حدودها الشرقية والتي كانت في تلك المرحلة ما تزال تحظى برعاية امريكية، لتطال في احدى مراحلها اغتيال سبعة من دبلوماسييها في مدينة مزار شريف الافغانية على يد هذه الحركة، ووصلت الامور الى اشد مراحلها خطورة عندما اعلنت ايران الاستنفار العام لقواتها المسلحة وحشدت عددا من الفرق العسكرية التابعة للقوات البرية في الجيش والحرس الثوري على الحدود مع افغانستان استعدادا لمواجهة عسكرية صعبة غير معروفة النتائج. اضافة للضربات المتكررة التي تحملها حليفها الاستراتيجي حزب الله في لبنان من دون ان تكون قادرة على تقديم الكثير من العون السياسي واللوجيستي والعسكري.
من هنا كان لا بد لطهران ان تتلقف الهدية التي ارسلها له زعيم القاعدة اسامة بن لادن في الحادي عشر من سبتمبر/ايلول 2001، عندما قام بما يسميه “غزوة نيويورك” مع بداية عهد عودة الجمهوريين الى السلطة برئاسة جورج دبليو بوش، واستغلال الارباك الذي اصاب العقل الامريكي المدبر الذي كان يرى في الحركات الاصولية الاسلامية حليفا طبيعيا يخدم مصالحه.
وعندما حشدت الادارة الأمريكية المجتمع الدولي وراءها في الحرب ضد الارهاب مستغلة لحظة العاطفة والتعاطف الدولي، والقيام بهجوم على افغانستان للقضاء على عدويها اللدودين (حركة طالبان وتنظيم القاعدة)، انتظرت طهران لحظة الهجوم لتتأكد من انها باتت على قاب قوسين او ادنى من التخلص من احد اكبر وابرز التحديات التي تواجهها في محيطها، خصوصا بعد ان استطاعت هذه القوى ضرب حلفائها من احمد شاه مسعود الى حزب الوحدة وصولا الى تحالف الشمال. فبدأت سلسلة من اللقاءات السرية مع الادارة الأمريكية، خصوصا في سويسرا استبعد منها التيار الاصلاحي الذي كان في السلطة وحصر تمثيل إيران بمندوبين عن التيار المحافظ الذي يمتلك مفاتيح القرارات الاستراتيجية الإيرانية. فكان ان تمت الصفقة بتمرير احتلال افغانستان مقابل ان يحصل حلفاء ايران من تحالف الشمال على حصة اساسية في تركيبة الحكومة الافغانية القادمة وان لا تقل حصة الشيعة الافغان عن خمسة وزراء، خصوصا بعد اجتماع طوكيو لدعم اعادة اعمار افغانستان والمساعدة الكبيرة التي قدمتها ايران من دون المرور بمجلس النواب والتي بلغت 560 مليون دولار ومشاريع في مجال المواصلات وبناء الطرق.
والخدمات السرية بين التيار المحافظ في ايران والطامح للتخلص من التجربة الاصلاحية واستعادة زمام المبادرة وبين الادارة الجمهورية لم تقتصر على البعد الاقليمي، بل طالت ايضا المستوى الداخلي الايراني، اذ ان الدعم العلني الاعلامي الذي قدمه الجمهوريون وادارة الرئيس بوش للتيار والقوى الاصلاحية في ايران سمح للتيار المحافظ بتصعيد المواجهة والتشدد في عملية قطع الطريق امام عودتهم الى أي من مواقع القرار في السلطتين التنفيذية والتشريعية. وقد ساهم الخطاب الشهير لبوش بوضع ايران في محور الشر احد اهم المنطلقات التي اعتمد عليها المحافظون في تشديد قبضتهم على السلطة والسيطرة على الساحة الداخلية ومنع أي صوت معارض او متمايز من الارتفاع. لتنتج هذه المرحلة لاحقا وصول احمدي نجاد الى سدة رئاسة الجمهورية خلفا لخاتمي.
وشكلت حرب اسقاط النظام العراقي 2003، والتي اتخذت منها طهران موقف “الحياد الايجابي”، فرصة سانحة للانتقام من عدوها على الخاصرة الجنوبية والذي شكل لها تحدياً مستمراً منذ انتصار الثورة.
وقد اعتبرت طهران حينها ان مساعدة الادارة الأمريكية وتسهيل حربها ضد العراق، سيبعد عنها حربا محتملة في حال قررت استكمال السيطرة وضرب بقية اركان محور الشر، وان الغرق الامريكي في المستنقع العراقي بعد مساهمتها في زيادة لزوجته سيسمح لها في استغلال الفراغ وملء الساحة بالاطراف الموالية لها والمتحالفة معها.
الارباك الامريكي في العراق، انسحب على بقية الملفات الاقليمية الاخرى، خصوصا على الملفين اللبناني والفلسطني، اذ تمكنت ايران ان تتحول الى لاعب اساس على الساحة الفلسطينية بعد ان قدمت اسرائيل الخدمة الاكبر في ازالة عائق وجود الزعيم التاريخي والرمز ياسر عرفات في فلسطين، فأطلق ذلك يد إيران وسوريا في هذا الملف، اضافة الى الانحياز الواضح الذي اعتمدته ادارة بوش بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري في التعاطي مع الملف اللبناني ما سهل جعل لبنان ملعبا للسياسة الإيرانية، كانت ترجمته العملية والفعلية في حرب تموز 2006 وما تلاها من تداعيات على الساحة السياسية وصولا الى احداث 7 ايار 2008 واتفاق الدوحة.
والارباك الامريكي في حربين على الحدود الشرقية والجنوبية لإيران سمح لهذه الاخيرة في تسريب برنامجها النووي عبر اللعب على التناقضات الأمريكية الاوروبية باعتماد سياسة النفس الطويل والتفاوض المتشعب وانصاف الحلول، مستعينة تارة بالحاجة الروسية لمواجهة استلابها من قبل واشنطن وتارة اخرى بحاجة الصين الى مصادر آمنة للطاقة تضمن لها الاستمرار في عملية التنمية التي تعتمدها.
وفي الوقت الضائع بين مساعي واشنطن لترتيب اوضاعها المتعثرة في العراق وافغانستان مدت طهران يدها طويلة الى لبنان وفلسطين والعراق في محاولة لفرض معادلة سياسية اقليمية جديدة تقوم على شراكة واضحة في هذه الملفات، اضافة لترسيخ نفسها قوة عسكرية جديدة وناهضة في المنطقة.
اما على الصعيد الداخلي الايراني، فإن سياسة الجمهوريين المتشددة ضد ايران وان اقتصرت على الإعلام والعقوبات الدولية، فانها ساعدت التيار المحافظ والمتشدد على ابقاء نار العداء والتوتر بين الطرفين، بحيث يسمح لهذا التيار الاستمرار باستقطاب العالم الاسلامي كمحور للمواجهة مع واشنطن او الشيطان الاكبر.
اضافة الى ان استمرار التوتر بأعلى مستوياته بين الطرفين دون الوصول الى المواجهة العسكرية سيسمح لقيادة التيار المحافظ في الداخل الايراني بابقاء سيطرتها المحكمة على مراكز القرار في السلطة، وبالتالي قمع أي طموحات اصلاحية منافسة في التحرك خصوصا وان ايران تقف على ابواب انتخابات رئاسية في مايو/حزيران 2009، وبعد ان كانت مضمونة النتائج لهذا التيار الا ان سياسات الرئيس الحالي احمدي نجاد الداخلية والخارجية ساهمت في تعقيد نتائجها.
ان وصول باراك اوباما الى البيت الابيض ومعه الديمقراطيون يعني ان اوباما سيكون مجبرا على التشدد في سياسة عزل ايران ومحاصرتها بهدف تخفيف ضغط اللوبي الصهيوني عليه وابعاد تهمة انتماءاته الاسلامية لدى الشارع الامريكي، الامر الذي ترى فيه الاوساط الإيرانية المحافظة تعقيدا لامكان الحوار والتفاوض مع الادارة الأمريكية. خصوصا وان هذا التيار يشعر بجدية النوايا التي يعلنها اوباما بالتفاوض المباشر مع ايران من دون شروط مسبقة، وان هذه الخطوة لن تكون في صالح طهران التي ستواجه تحدّي تقديم كل اوراقها على الطاولة والتوصل الى نتائج ايجابية قد تفرض عليها تنازلات كبيرة، سياسية وايديولوجية، لا تقف عند حدود الملف النووي، بل قد تتعداها الى مستقبل الموقف الايراني من وجود اسرائيل. وهنا قد لا يشكل كلام نائب الرئيس الايراني رحيم اسفنديار مشائي حول الصداقة بين الشعبين الايراني والاسرائيلي موقفا كافيا لاحداث خرق في الموقف الديموقراطي الداعم لاسرائيل.
وعلى الرغم من حجم الاختلافات الظاهرة بين ايران والتيار المحافظ من جهة، وبين الجمهوريين في البيت الابيض من جهة اخرى، الا ان نقاط الالتقاء والتفاهم تبدو كثيرة على العكس مما توحي به الاجواء السياسية المعلنة من الطرفين.
ان عودة الديموقراطيين لإدارة سياسات البيت الابيض ستشكل انتكاسة لمشاريع ومخططات التيار المحافظ في السلطة في ايران، لكنها في المقابل ستشكل فرصة للتيار الاصلاحي المنافس لالتقاط الانفاس لاعتقاده بان وصول اوباما الى الرئاسة سيفرض على التيار المحافظ في ايران اعادة النظر في سياساته الداخلية والخارجية، الامر الذي يعزز الآمال لدى الاصلاحيين بالتفكير الجدي بالعودة الى دائرة المنافسة على الانتخابات الرئاسية.
وسياسة التغيير والترميم التي رفعها اوباما شعارا لحملته الانتخابية ستكون ممكنة التطبيق تجاه ايران في حال تمكن التيار الاصلاحي من العودة الى السلطة، لأنها عندئذ ستقلل من احتمالات التصعيد والتوتر والعدائية بين الطرفين، شرط ان يتخلى كل من الجانبين عن حذره والتردد في اتخاذ الخطوة الاولى في المباردة، خصوصا وان المجتمع الدولي لن يكون عندها على استعداد للاستماع الى المبررات الأمريكية التي ستركز على مزيد من عزل ايران في ظل وجود الاصلاحيين على رأسها على غرار ما حصل مع الرئيس السابق محمد خاتمي قبل ان ينتقل الى سياسة العزل التي تبناها مع حكومة الرئيس الحالي محمود احمدي نجاد المتشددة.
ووصول اوباما الى البيت الابيض سيساعد في قطع الطريق داخل ايران امام صعود تيار التشدد الذي تنتعش فرصته بابعاد الاخرين من الاصلاحيين في ظل وجود جمهوري في البيت الابيض، ولن يكون قادرا مع اوباما على قمع الاصوات والتوجهات الاصلاحية المنادية بالحوار والتفاهم مع المجتمع الدولي واعادة ايران الى الساحة الدولية من دون التخلي عن ثوابت النظام الاسلامي. ما يعني عودة الحوار الهادئ بين الادارتين الأمريكية والإيرانية حول موقع ايران الاقليمي والدولي بعيدا عن التلويح بالاوراق الامنية والعسكرية ان كان في مواجهة مباشرة او عبر ملفات اقليمية مختلفة.
hassanfahs@hotmail.com