ما من شك في أن جماعة الإخوان المسلمين إنما تعبر عن ثقافة ذات طابع تقليدي ينزع نحو الشمولية، ويعتبر التعدد خطأ مأسويا ً يؤدي إلى هلاك الأمة ، التي هي بالطبع أمة الإسلام ، دون التفات إلى ذلك المصطلح ” الحداثي ” المستورد : المواطنة ، بما يعنيه من مساواة المسلم بغير المسلم أمام الدولة والقانون .
ومن نافلة القول أن هذه الثقافة تتغذى على مخايلات تاريخية تمجد عصر الفتوحات الكبرى من ناحية، ومن أخرى تتألم لما أصاب العالم العربي الإسلامي من تفكك وانقسام أتاحا للعدو الخارجي أن يقتحم الحدود، وان يحل بعساكره داخل الديار بدء من الحروب الصليبية فالغزو المغولي التتاري، ثم الاستعمار الأوروبي وصولا ً إلى الهيمنة الأمريكية اقتصاديا ً وسياسيا ً وعسكريا ً في وقتنا الحاضر.
ولما كانت الثقافة (= مجمل المفاهيم ووتائر السلوك) هي التي تبقى للإنسان بعد أن يفقد كل شيء كما يقول سارتر، فإن إعادة إنتاج هذه الثقافة العربية – بمكوانتها المؤسسـِة الأولى– لا يمكن أن يغدو طوق نجاة لها، بل على العكس لابد وأن يأتي بها إلى ذات الأوضاع المشكو منها الآن . وبالمقابل فإن النقد الذاتي لهذه الثقافة ربما كان السبيل الأوحد لتجاوز سلبياتها إبداعا ً للجديد القابل للحياة في هذا العصر.
في هذا السياق ثمة حاجة إلى المراهنة على أن التاريخ لا يمضي خبط عشواء في مسيرة البشر، بل هو في معظمه ينطلق تبعاً لقوانين يمكن رصدها، وهذا الرصد إنما يمثل أداة تحليل علمي لفهم أسباب صعود وسقوط القوى العظمى، بحد تعبير المؤرخ الأمريكي بول كينيدي، أو صعود وانحسار الدول (قل العصبيات الحاكمة كما يدعوها مؤرخنا عبد الرحمن بن خلدون) أو الصراع بين الطبقات الذي كشف عنه علم الاجتماع الماركسي.
ودون دخول – ليس هذا مجاله – في صميم فلسفة التاريخ، فإن أحدا ً لا ينكر أن لكل كائن حي دورته التي تبدأ بالميلاد، وتثنى بالنشأة فالاكتمال، لتنتهي بالشيخوخة فالموت. ينطبق هذا على الأفراد والطبقات والدول والحضارات. إنما يعنينا في هذا المقام الإشارة الموجزة إلى دورة الحضارة العربية التي قامت أساساً على ثقافة فتح الأبواب المغلقة أمام سكان شبه الجزيرة، أولئك الذين توحدوا بفضل الدعوة الإسلامية، فأدركوا كم هم أقوياء بها ( وبالتالي كم هم على حق ) ولقد تأكد لديهم هذا المعنى جرّاء الانتصارات الحربية الباهرة بالضد على الإمبراطوريتين العظميين (وقتها) الفارسية، والرومانية، وكذلك نتيجة إقبال سكان البلدان المفتوحة دخولا ً في دين الإسلام أفواجا لأسباب مختلفة ً. وهكذا أصبح للعرب إمبراطورية تمتد من جنوب أوروبا إلى جنوب غربي آسيا.
بيد أن القانون البيولوجي القائل إن كل امتداد في المكان يقابله حتما ً انفصال لبعض عناصره، أدى في تطبيقه التاريخي إلى انقسام الإمبراطورية في عصرها الوسيط إلى ثلاثة مراكز: خلافة عباسية في بغداد، وخلافة أموية في الأندلس، وبينهما خلافة فاطمية في مصر والشام، ثم كان أن انقسمت هذه “الخلافات” إلى دول ودويلات متصارعة على “الخراج” و”الفيء”، مقابل حركات اجتماعية وسياسية متمردة من جانب الفلاحين والصناع أرباب الحِـرف في كافة الأنحاء. وكان طبيعياً أن يؤدي هذا كله إلى الانقسام والضعف اللذين يشكو منهما أصحاب النزعات المثالية، والقائلين بضرورة التمسك “بالثوابت”، وبين هؤلاء تقف “الثقافة الإخوانية” في الصف الأول.
***
نشأت جماعة الإخوان “المسلمين” في عشرينات القرن الماضي، لا لتكون حزبا ً Part بين أحزاب سياسية ، يؤمن كل منها بأنه يعبر عن مصالح طبقة معينة ، أو حتى عن طبقات متجانسة ومتحالفة ؛ وإنما أرادت الجماعة ُ أن تحل – مع الوقت- محل هذه الأحزاب جميعاً. فالتعددية الحزبية، كما تؤكد أدبيات الجماعة، منذ توجيهات حسن البنا إلى وثيقة خيرت الشاطر، ليست إلا تكريساً للانقسام وللفرقة، فالخير للأمة أن تتوحد تحت راية الإسلام، وأن تمضي إلى غايتها التي ارتضاها السلف الصالح، ألا وهي نشر الدعوة الإسلامية في العالم بأسره بكل الطرق الممكنة، بما فيها القوة العسكرية إذا هي توفرت (راجع معالم على الطريق لسيد قطب) فإذا لم تتوفر فكفى بدار السلام شاهدا ً. وهنا فلا مندوحة من تطبيق الشريعة الإسلامية حين يحين الوقت الملائم. وحتى يجئ ذلك الوقت فلا بأس من تجربة الوسائل المختلفة: الانقلاب العسكري كما حدث في السودان، أو باجتذاب أصوات الناخبين، في الجزائر أولا ً وفي مصر آخرا ً، أو بالجمع بين هذين العنصرين كما في تجربة حماس . وفي هذا المسار أو ذاك فلا يوجد مانع من إجراء التحالفات واستخدام العنف حينا ً والتهدئة أحيانا ً، المهم أن تؤدي هذه التكتيكات بأصحابها إلى انجاز الإستراتيجية غير المعلنة، ولكن المعروفة للجميع.
لقد أفاض كثير من المثقفين في تقييم مبدئية وجدارة تكتيكات جماعة الإخوان الرامية إلى تحقيق إستراتيجيتهم هذه، ويقف في المقدمة من هؤلاء الصديق د. محمد السيد السعيد فيما يكتبه بجريدتي الأهرام والبديل ، ومن قبله الصديق الأستاذ صلاح عيسى خاصة مقدمته لكتاب الدكتور ريتشارد ميتشيل “الإخوان المسلمون- دراسة أكاديمية” ربما لأن الرجلين يربطان – عضويا ً- بين الوسائل والغايات، بأمل منهما أن يُضَمَّـا هذا الفصيل “الشارد” إلى الجبهة الوطنية الديمقراطية، الساعية إلى الإصلاح السياسي الراديكالي، وإلى تثبيت دعائم الدولة المدنية، بما يجعل من مصر واحدة من الدول العصرية المتقدمة إنتاجيا ً وثقافيا ً.
ذلك بالطبع نابع ٌ عن تقدير سياسي لا غش فيه، بل ولا يستطيع أحد أن يماري في نبل هدفه، وإن كاتب هذه السطور ليثمن صلاح عيسى حين كتب في الأهرام ويكلي بتاريخ 7/12/2005 يقول: “ينبغي على الإخوان المسلمين أن ينجزوا الفصل بين النظرية والتطبيق، بين الدين والسياسة، وأن يعلنوا ذلك للعامة، وإن لم يفعلوا وإن لم نساعدهم نحن على التحرك في هذا الاتجاه، حتى وإن اضطررنا إلى مكافحتهم في الطريق؛ فإن الأمة جميعا ً، بما فيها الإخوان المسلمين، ستجد نفسها في نفق مظلم”.
بيد أن تلك التثمين من جانبنا لا غرو أن يحيط به بعض التحفظات، أولها أننا تعلمنا من دروس التاريخ أن الفكر لا يتغير بالفكر وحده، وأن الأفكار لا تحدد وضع المرء على خارطة تقسيم العمل الاجتماعي، ولا تـُـمَوْضِعُ مكانته الإنتاجية، بل العكس هو الصحيح.. خذ مثلا أفرادا ً ينتج كل منهم سلعته على حِدة، فلسوف ترى كلا ً منهم ذا فكر فرديّ مكتف ِ بذات صاحبه وبمشاكله، فإذا حدث وأن أفلس هؤلاء، واضطروا للعمل في مصنع لرأيتهم يتحدثون عن ضرورة العمل النقابي، والتأمين المشترك، والأجور الموحدة، ورويدا ً ينشأ عندهم ما يعرف بالوعي الجمعي.
فهل يمكن أن نراهن بما نملك على الأمل في أن يغير الحوارُ من إيديولوجية الأخوان، ومن آلياتهم الفكرية في الدعوة والممارسة التنظيمية (القائمة على مبدأ الطاعة المطلقة) بل وتمثيلهم البرلماني الحالي المعبر عن مصالح طبقات غير إنتاجية ، ليس من بينها بحال ٍ طبقتا العمال والفلاحين؟؟ وهل لنا أن ننسى موقف الإخوان من قضية قانون الإصلاح الزراعي في البرلمان السابق؟!.
***
أما ثاني هذه التحفظات، فيتجاوز فرضية علاقة الغايات بالوسائل، إلى رصد العلاقة الجدلية بين المعرفة والسلطة؛ فمن المُسلم به أن أية جماعة لا يمكنها امتلاك السلطة ما لم تكن نخبتها واعية بإمكانيات هذه الجماعة، وبقدرات منافسيها، فضلا ً عن معرفتها بطبائع المحكومين، ومعرفتها أيضاً بالمجال الحيوي (= الدول الأخرى ومتطلباتها). ففي العصر الفرعوني اختص الكهنة، مثقفو ذلك الزمان، بهذه الوظيفة المعرفية، أما العصر الإسلامي فقد أوكل هذه المهمة إلى الفقهاء وعلماء الكلام وأضرابهم من نخبته المثقفة، ومن ثم فإن الانقسام السياسي بين الإسلام السُني والإسلام الشيعي، إنما كان مرتكزاً على المعرفة المقدمة من هؤلاء الفقهاء وعلماء الحديث وأئمة المذاهب، وازداد الخرق اتساعاً حينما استعان الخليفة المأمون بالمعتزلة، قاصداً إحداث ما يمكن تسميته بلغة عصرنا “إصلاحاً سياسياً محدوداً” فكان أن واجهته القوى المحافظة بفكر الأشعرية الاستبدادي المُغلق. ولقد كانت هذه المعارك الثقافية تجليات للحراك السياسي الذي جاء بالعباسيين وحلفائهم الفرس ليحلوا محل العنصر العربي (الأموي) ثم ما لبث هذا الحراك حتى انتهى إلى جمود تام سواء في هياكل الدولة أو في أبنيتها المعرفية ، حيث رحبت الدولة ُ بفكر الأشاعرة في العصر العباسي الثاني، تحت وطأة الهزائم المتلاحقة منذ أن انتزع النورمان السيادة على البحر المتوسط من العرب في بداية القرن الثالث الهجري، ثم مالطة وصقلية في القرن الخامس، فضلاً عن سيطرة الصينيين والهنود على البحار الشرقية، الأمر الذي عجل بقدوم الصليبيين الفاتحين في نهاية هذا القرن.
والذي يهمنا من هذه العجالة التاريخية، هو التذكير بأن تكلس الوسائط المعرفية لدى النخب الحاكمة في العصر العباسي الثاني، إنما كان سببا إضافيا ً (بقدر ما كان نتيجة) للجمود السياسي، وللتخلخل الاقتصادي المتمثل في الثراء الفاحش لدى الطبقات الحاكمة مقابل الفقر الرهيب في جانب الطبقات المحكومة. فأما الطبقة الوسطى– التجار وأصحاب الصناعات الناشئة وموظغو الدواوين- فما كان لها إلا أن تنحاز إلى الحكام، بدلاً من أن تقود الكادحين إلى الثورة (هكذا فعل البرجوازيون الأوربيون فيما بعد) وذلك بعد أن اضطرت هذه الطبقة الوسطى إلى الانكفاء للداخل نتيجة الحصار الذي ضربته حولها القوى الخارجية.
فما أشبه الليلة بالبارحة ! فها هي ذي دعوة الإخوان السلفية تواجه نفس المأزق. وهاهو ذا برنامجهم يخلو تماما ً من إقرار بحقوق العمال والفلاحين والفقراء، اكتفاء بدعاوي الإحسان إليهم والبر بهم ! ليقف برنامجهم بذلك إلى يمين برنامج الحزب الوطني انحيازا ً إلى الرأسماليين وكبار الملاك الزراعيين، والتجار ورجال المال المضاربين في البورصات العالمية، فكيف إذن يواجه هذا البرنامج هيمنة الشركات عابرة القارات؟! بالاستسلام طبعا ً.
ربما يقول قائل: ولكنهم يعلنون الحرب على الفساد. وهذا صحيح ولكن أية معرفة علمية بأسباب الفساد، لا شك سترده إلى تغوّل الرأسمال الاستهلاكي ( وليس الإنتاجي ) وإلى تخلي الدولة عن دورها في المجالات الإنتاجية الكبرى – عملا ً بروشتة نادي باريس وصندوق النقد الدولي- ولا شك أن الرصد الواقعي لتلك الأسباب ليشير إلى أن الفساد ليس إلا عرضاً لمرض كامن في البنية التحتية Infra-structure لأي مجتمع من المجتمعات، وبالطبع فإن العلاج لا يكون للأعراض بل للمرض ذاته، ومن ثم فإن الهجوم على الخلاعة والمجون والرشوة والمحسوبية ليس مما ينهيها، وإنما سيدفعها فحسب إلى التخفي والاستتار.
مشكلة الإخوان “المسلمين” إذن لا تكمن في نواياهم بل في حدود معارفهم، تلك المعارف المنبثقة عن أبنية اجتماعية محاصرة من خارج، ومن داخل. فأما الحصار الخارجي فواضح لا يحتاج إلى تنويه.. فقط نقول أنه يعبر عن مصالح قوى عظمى ( وليس كما يتصور الإخوان نتيجة كراهية صليبية للإسلام ! ) وأما الحصار الداخلي، فيتمثل في ثقافة الدولة الشمولية، التي أعيد إنتاجها على أيدي ضباط يوليو، حيث احتكرت الدولة ُ العمل السياسي لحساب مشروعها في التنمية. ولأن الثقافة تبقى حتى بعد زوال دوافع تأسيسها، فإن تخلي الدولة المصرية عن المشروع الناصري منذ عهد السادات، لم يلغ بالتوازي الأبنية السياسية والتنظيمية، التي قامت لتحقق هذا المشروع، فظل الاتحاد الاشتراكي ردحاً من الزمن مهيمنا ً وحيدا ً، إلى أن ورثه حزب الرئيس السادات بنفس مواصفات حزب الدولة الأوحد تاركا ً لباقي الأحزاب اللعب في الهامش الضيق.
والحاصل أن الحزب الحاكم قد أصبح الآن، بحكم المتغيرات في الداخل والخارج، أمام آلية تداول السلطة، الأمر الذي تشي به نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، بيد أن مأزق البلاد الحقيقي يكمن في أن البديل ” الممكن ” الذي ظهر على الساحة (=الإخوان) هو نفسه صاحب ثقافة شمولية. فهو إذن محاصـَـر (بفتح الصاد) من قبل غريمه الحالي، وهو محاصـِـر (بكسر الصاد) لغيره من الأحزاب بسبب أيديولوجيته السلفية، ومخايلاته الماضوية المشبعة بمعرفة مغلوطة ( غير علمية ) عن قوانين التطور التاريخي ، وعلى رأسها الاعتراف بالتعددية ، والقبول بالأخر المختلف .
في هذا السياق، فإن صلاح عيسى تراه يكرر للإخوان دعوته التي سبق وأبداها في مقدمته الهامة لكتاب “ميتشيل” أن يتخلصوا من خللين رئيسيين حكما برنامجهم السياسي الذي أعلنوه تأييدا ً لحركة يوليو 1952، أولهما غموض الأسلوب المطروح لحل المشكلة الوطنية (وقتها كان جلاء الانجليز عن مصر) وثانيهما غموض موقفهم من قضية الديمقراطية.
فأما المسألة الوطنية فقد تحولت إلى مشكلة قومية هي قضية فلسطين، وهي قضية محورية يترتب عليها اتخاذ موقف واضح ليس من إسرائيل فحسب، بل ومن الولايات المتحدة التي يعلن الإخوان أنهم لا يناصبونها العداء ومن ثم فلا تفكير في إلغاء اتفاقيتي كامب ديفيد، إنما إبداء الاشمئزاز منهما فحسب. فأي فارق في التوجهات الإستراتيجية الدولية بينهم وبين الحزب الوطني؟!
المشكلة الثانية هي قضية الديمقراطية، إذ لا يزال الإخوان يراوحون في مكانهم بين القبول بوسائلها: الحريات العامة، الانتخابات… الخ وبين رفض أساسها ” الفكري ” الذي هو حكم الشعب لنفسه بتشريعات إنسانية يمكن تغييرها، وليس بتشريعات إلهية لا يملك حق تفسيرها إلا النخبة الحاكمة، الأمر الذي يعيدنا إلى سلطة الخلفاء المطلقة في التاريخ الوسيط، ومن ثم يقودنا حتماً إلى الدولة الثيوقراطية ، تلك التي تتبرأ منها الجماعة ُ قولا ً ، وتعمل على إعادتها فعلا ً .
أليس مدهشا إذن أن تحجم جماعة ذات قدرة وذكاء عن معالجة مثل هذين الخللين( وهما بالمناسبة قاتلان لأية حركة سياسية) لما يقرب من ثمانية عقود؟؟
ذلك سؤال ربما يجد إجابته في الأمثولة التالية.. فمنذ فترة تلقيت دعوة كريمة من الأستاذ أبو العز الحريري – وكان وقتها نائبا ً لرئيس حزب التجمع – للقاء ضم لفيفا ً من المثقفين والمنشغلين بالشأن العام. كان اللقاء بمقر الحزب بالإسكندرية، وراح كل يدلي بدلوه تعليقاً على ما حدث. وحين جاء دوري قلت إن الإخوان حققوا فوزهم النسبي الكبير، لأنهم كانوا الأقرب إلى تمثيل الثقافة العربية الموروثة، ثقافة الكل في واحد، حيث يعمل أعضاؤهم وأنصارهم بمبدأ “إذا كنتم ثلاثة فأمّروا أحدكم” فهذا الواحد له الأمر، وعلى الباقين الطاعة والإذعان، وهو مبدأ تعمل به الجيوش، وعملت به أنظمة الخلافة في عصور الإمبراطورية الإسلامية .. ويسمي علم الاجتماع ذلك بالتراتبية التي تنتعش في العصر الإقطاعي (اللورد كلمة تعني الرب) وثمة يكون الاقتصاد ُ تابعا ً للسياسة، بعكس المجتمعات الرأسمالية الحديثة التي تتبع فيها السياسة ُ مقتضياتِ الاقتصاد. قلت لهم: ولما كنا نعيش ولا نزال في عصر مجتمعات ما قبل الرأسمالية الحقة، فلا غرو أن تحكمنا نفس الثقافة المؤمنة بالتراتبية، والدليل على ذلك أن الأحزاب الليبرالية واليسارية لم تحاول قط أن تجدد خطابها السياسي بما يوائم المتغيرات، فبدا وكأن الزعامات التاريخية ما زالت حاكمة لها دون أدنى تغيير. وأما الرؤساء الحاليون الذين حلوا محل الزعامات التاريخية، فقد ورثوا سطوة وسيطرة الأسلاف، محجمين عن نقد هؤلاء الأسلاف مقابل ألا يتعرضوا هم لمن ينتقدهم من الأجيال الجديدة !
وباختفاء النقد الذاتي داخل هذه الأحزاب انتعشت ثقافة اليقين الدوجمائي، واعتقد كل فريق أنه مالك ٌ للحقيقة المطلقة. ولما جاء الوقت للمطالبة الجادة بالديمقراطية لم يجدوا أنصارا ً من الشعب تصدقهم وتناضل في صفوفهم، وكيف لا والناس تبصرهم يقمعون كل صوت معارض داخل أحزابهم؟!
قلت هذا للسادة الحاضرين، فلم يرضهم كلامي، بل وحاول بعضهم مقاطعتي محتدا ً أكثر من مرة. عندئذ أدركت أن الخلل ليس مقتصرا ًً على أذكياء الإخوان، وإنما هو موجود أيضا ً لدى الأذكياء اليساريين والليبراليين والقوميين.
إنها ثقافة واحدة، محاصـَرة ومحاصـِـرة في آن. إذا ً فلا عجب ولا دهش.
Tahadyat_thakafya@yahoo.com
الإسكندرية
الإخوان “المسلمون” وغيرُهم: ثقافة ٌ مُحاصَرة ومحاصِرة في الحقيقة ليست مهيأ معرفيا لنقد الحركات السيلسية في مصر لكني أعترف بريادتها وتأثيرها على السياق العربي العام وأتفق مع العرض التحليلي للأستاذ مهدي فالإخوان هم نتاج لأرثودوكسية المدينة الإسلامية التجارية( والإقطاعيات ذات الإرث العثماني وإقتصاد الكفاف))، وهي برأيي المتواضع الحركة السياسية الأقوى وهذا ينبع من هيمنتها على الموروث اللغوي وإحتكارها إدارة المقدس وبالتالي صياغة الهوية والخطاب الجمعي أما السبب الثاني لسطوتها فمرده الفشل الذريع لحركة الحداثة العربية . وسط صراع دولي حاد ومأزوم. وهذا دفع قوى الحداثة للأستسلام لهيمنتها ،حتى أصبحت نخب العسكريتاريا الحاكمة تنافسها في إستخدام وترويج الخطاب الغيبي ، الذي… قراءة المزيد ..
الإخوان “المسلمون” وغيرُهم: ثقافة ٌ مُحاصَرة ومحاصِرة
مقال فذ على أعلي مستويات التحليل أتمني أن يطالعه كل مصري … طارق حجي