العقيدة الكونية: الإنسان الكوني (17-ب)

0

What goes around comes around
ما يصدر عنك يعود إليك
(أ‌) سدى الكون التوافق ولحمته الحب ؛ وبهما يتشكل النسيج الإلهى للكون ؛ لكن صفات وطبائع وخصائص وقدرات الكوكب الأرضى (وهو جرم سماوى لاريب) سلبية بغيضة خاطئة شريرة، ومن ثم فقد أحدثت اضطرابا فى مجاله، ومع كل ما يتصل به إتصالا مباشرا، عاق التوافق وشاب الحب.

والله الذى يحيط علمه كل شىء، وهو خارج المكان وخارج الزمان، مع أنه داخل هذا وذاك، فى كل آن وفى أى مكان، يعرف ذلك من قبل الخلق ومن بعده، وهو ما تأكد من المسابير الفضائية التى أطلقها العلماء أخيراً، إذ تبين أن كل أجرام المجموعة الشمسية، خاصة النجم الشمسى والكواكب الأخرى، وما يدور حولها من أقمار، هى كلها قاحلة ماحلة (عدا الشمس فهى نار موقدة وخلا بعض الأجرام التى يترجح وجود مياه بها) ليس فيها واحد يصلح لحياة الإنسان، دون إعداد قد يكون مستحيلا، ومن ثم لا يمكن الحياة على أى منها، حياة مشابهة للحياة الإنسانية. فالأرض وحدها من بينهم ذات جمال وزينة وبهاء ورواء، لكنها بطبائعها وخصائصها وصفاتها وقدراتها أقرب ما تكون إلى الغوانى اللاتى يصفهن الشاعر (المتنبى) أفضل وصف، فيقول:

ومن خَبر الغوانى، فالغوانى.. ضياء فى بواطنه ظلام

وشبه الشىء منجذب إليه.. وأشبهنا بدنيانا الطغام

والطغام لغة، هم الأراذل واللئام والغوغاء والسفلة.

فالطغام واللئام والغوغاء والسفلة، هم أبناء الدنيا وسادة الحياة فيها. يتكالبون عليها بنهم بالغ وولع شديد، وتعطيهم هى بل وتغدق عليهم كل ما ظاهره حسن وباطنه خبيث، من المواد والأموال والمناصب والزخارف. فيدخلون بكل ذلك فى ظلمات إثر ظلمات، ولا يطيقون النور أو يأبهون له، وبذلك يضيفون إلى ظلام روحانية الأرض وطباعها السلبية ما يضاعف منها، ويتشخصون هم بصفاتها البغيضة التى أنفت الاشارة إليها. وبهذا تنشأ دائرة مفرغة، إذ يُحيل الطغام واللئام والغوغاء والسفلة إلى روحانية الأرض ما يضاعف ظلامها، ثم يُحيل هذا الظلام إلى المذكورين من صفات الأرض السلبية ما يشدّ من آزارهم. ونتيجة لذلك فان أبناء الدنيا وسادة الحياة فيها يكونون فى جوع دائم لأن عطاء الأرض لا يُشبع قط وفى عطش مستمر لأن ماء الأرض مالح لا يُروى أبداً.

(ب‌) وقد لحظ العقلاء ذلك على مر الأيام وكر السنين، فعبر عنه الشعراء والأدباء، تعبيرا يتشابه وقد يتماثل فى كل اللغات، ولأن الدراسة باللغة العربية فإنها تنتخب من الشعر العربى ما يشير إلى أهم الصفات السلبية للكوكب الأرضى:

(1) فهى ترفع الوضيع والسافل وتحارب الشريف وذا الخلق.

• دنيا علا قدْر الوضيع بها.. وترى الشريف يحطّه شرفه

كالبحر يرسب فيه لؤلؤه.. سفلا وتعلو فوقه جيفه

• يا عيش ما أقساك يا عيش.. لم يحظ فيك بطائل حر

أما اللئام فأنت صاحبهم.. ولهم لديك العطف والنصر

يبقى اللئيم مدى الحياة فلا.. يرتاع منه لحادث صدر

(2) وهى قُلّب لا تديم حالا ولا تبقى سلاما:\

• لكل شى إذا ما تم نقصان.. فلا يُغر بطيب العيش إنسان

هى الأمور كما شاهدتها دول.. من سره زمن ساءته أزمان

• وما الأرض أهل أن تؤمل عندها.. حياة وأن يُشتاق فيها إلى نسل

(3) وهى لا تبقى على مودّة ولا تحفظ عهدا ولا تديم صاحبا:

• إذا قلتُ هذا صاحب قد رضيته.. وقرّت به العينان بُدّلت آخرا

كذلك حظى ما أُصاحب واحدا.. من الناس إلا خاننى وتغيرا

• تكون الموالى والعبيد لعاجز.. ويخدم نفسه البطل الفرد

وكل قريب لى بعيدُ مودة.. ولكل صديق بين أضلعه حقد

(4) وهى تمنح من لا يريد، وتمنع عمّن يطلب ويريد:

• أريد فلا أُعطى، وأعطى ولم أرد.. وقصّر علمى أن أنال المغيّبا

• أرى ما أشتهيه يفرّ منى.. وما لا أشتهيه إلىّ يأتى

ومن أهواه يبغضنى عنادا.. ومن أشناه يشبث فى لهاتى

(5) وهى تملأ ذات الكريم بالمرارة والغربة:

• وهكذا كنت فى أهلى وفى وطنى.. إن النفيس غريب حيثما كان

• كأن الأرض تطلبنى بثأر.. فليس يسرها إلا وفاتى

• وحيد ولى صُحب.. غريب ولى أهل

(6) ولا يهنأ فيها إلا الغبى ويبقى العاقل دائما فى ألم ومرار:

• وحلاوة الدنيا لجاهل.. ومرارة الدنيا لمن عقلا

• ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله.. وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعم

(7) وتصعب فيها الدعوى إلى أى اصلاح أو أى تجديد أو تحديث لأن الناس تألف التقاليد ؛ وترسخ فيها ؛ مهما كانت باطلة أو زائفة أو معيبة:

• لقد أسمعت إن ناديت حيا.. ولكن لا حياة لمن تنادى

فنارك إن نفخت بها أضاءت.. ولكن أنت تنفخ فى رماد

• وينشأ ناشى الفتيان منا.. على ما كان عوّده أبوه

وما دان الفتى بحجى ولكن.. يعلمه التدين أقربوه

(8) وهى دائمة التحول والتغوّل بحيث لا يمكن الأمان فيها أو الركون إليها:

• الم يخبرك أن الأرض غول.. خئون العهد تلتهم الرجالا

• ولو جاز الخلود خُلدت فردا.. ولكن ليس للدنيا خليل

(9) وهى تفرض على الناس البدء بالعدوان والبقاء دائما متأهبين للحرب والضرب:

• ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه.. تهدم ومن لا يظلم الناس يُظلم

• والناس أُسد تحامى عن فرائسها.. إما عقرت وإما كُنت معقورا

• والظُلم من شيم النفوس فإن تجد.. ذا عفة فلعلّة لا يظلم

ملحوظة:حدث تصرف فى بعض الأبيات السالفة لملاءمة مقتضى الحال.

(ج) هكذا الحياة الدنيا والكوكب الأرضى:

بريق فى الظاهر وحريق من الباطن.. فرح قليل وحزن كثير..تمنح من لا يستحق، وتمنع عمن يستحق.. بهاء من الخارج وخواء من الداخل.. نور فى المظهر وظُلمة فى الجوهر.. صداقة لفترة وعداوة لفترات.. آمال قصيرة وإخفاقات كثيرة.. ضياء للناظر وظلام للخبير.. نعيم على التمنى وجحيم فى الحقيقة.

(د) وقد عجب لذلك بعض الكتّاب الغنوصيين (Gnostics) الذين كانوا يتصورون أن الغنوصية (المعرفية المقدسة) اتجاه فلسفى عقائدى ظهر فى القرن الثانى أو الرابع قبل الميلاد، مع أن الغنوصية هى إسم يونانى يعنى المعرفة المقدسة، وأصل المفهوم مأخوذ من مصر القديمة. فقد كان العارف بالله، أى الباحث أو العالم فى المعرفة المقدسة، يُعد رجلا مهذبا (gentleman) ويطلق عليه إسم سيفو (قاموس فوكنر، صفحة 224).

ولما وصل اللفظ إلى أرض الأغريق وقيل لسقراط:أنت سيفو، قال لست كذلك، ولكنى أحب أن أكون رجلا مهذبا ؛ ومن ثم فقد أضيف لفظ (philo) الذى يعنى فى اليونانية المحب إلى لفظ سيفو، فأصبح فيلو سيفو أى محب للتهذيب أو محب للحكمة التى تُورث التهذيب (والتى كانت فى الحقيقة تعنى العارف بالله)، وهو ما صُحّف إلى فيلسوف ومنه جاء لفظ الفلسفة.

(هـ) وقد أدرك الباحثون والعلماء فى المعرفة المقدسة، قبل ظهور السيد المسيح، أن روحانية الأرض قوة عمياء، فقالوا إن فى الكون غير الله رب أعمى (أطلقوا عليه لفظ laldabaoth لالدابوث) وهو لفظ بلا معنى معروف، وأطلق آخرون على هذا الرب إسم صموئيل بمعنى الرب الأعمى ؛ وأضافوا أن هذا الرب (الإله تجاوزاً) من عمائه وغروره لم ير إلا نفسه فقال:لا إله غيرى ؛ وأنه بذلك يضل الكثيرين من البشر. وقال بعض علماء الدين المقارن (comparative religion) إن هذا الإله (الرب) هو يهوا المذكور فى التوراة (ى هـ و ا)، ولعلهم استنتجوا ذلك من أن الإله الرب وهو يسير فى جنة عدن لم ير آدم أى إن به عماء، فصاح ينادى:آدم آدم أين أنت ؟ ويرى بعض هؤلاء العلماء أن روحانية الأرض هى المقصودة بما قاله السيد المسيح:إن سيد (رب) هذا العالم (الأرض) قد دين (أدين).

(و) يعرف الله ذلك كله، لأنه المعرفة ذاتها والعلم بما كان وما يكون وما سوف يكون ؛ ومن المعرفة والعلم أن الجمال يفضى إلى الدلال والضلال، وأن البريق يؤدى إلى النعيق والحريق، لذا خلق الإنسان على النحو السابق بيانه، وضبط حركة الشمس والقمر والكواكب الخمسة السيارة على نحو تحكم به مقادير البشر، وتسيطر عليها سيدة الأقدار (والتشخيص هنا يشير إلى التجريد فى الحقيقة) حتى لا ينفلت البشر، ويأخذوا من عماء الأرض عماء، ومن ظلامها ظلاما ؛ فيقع المنقذ فى براثن من كان من اللازم أن يُنقذه، ويصبح الفادى أسيرا عند من يرغب فى فدائه (وهذا ما شاع فى فلسفة ظهرت فى القرنين التاسع عشر والعشرين تدّعى أن الروح التى أرادت أن تعالج عوج الأرض قد وقعت فى أسرها، وفهم البعض من ذلك أن المقصود بالروح هو الله أو روحه وكلمته ؛ لكن هذا غير صحيح لأن الله وروحه لا نهائية لا يستنفدُها واقع ولا وجه ولا جرم ولا إنسان ولا شكل، وقد تأكد هذا من الرياضيات إذ من المقرر فيها أن اللانهائى مهما أُخذ منه لا ينقص، ولا يزيد مهما أضيف إليه).

ولما كانت المعرفة المقدسة اللازمة لخلاص العالم الدنيوى من الظلمة التى ترين عليه وتحط فيه، يلزم لها ملايين السنين لتطور البشرية حتى يمكن أن تستوعبها، وأنه لابد لهذه المعرفة من عامل أو عنصر خارجى ليساعد فى وضع نبتة تصير مع الرىّ والعناية نبتات ثم مزارع وحدائق وغابات ؛ فقد جاء من كوكبة الجبار (Orion) إدريس (أوزير بالنطق المصرى وأوذريس باليونانية وهو أول تجسد لروح الله وكلمته، وكان السيد المسيح آخر تجسد له ويكون المخلّص الآتى هو التجسد النهائى) بعد أن تهيأت له هضبة الأهرام لتجعل منها سرّة الأرض التى تربطها بالسماء، وهوائى الأفكار الكونية إلى الأفكار الإنسانية، وبهذا صارت مصر صفحة السماء، تعكس على الأرض كل ما يجرى فى السماء.

(ز) علّم إدريس الناس عبادة الله الواحد الأحد، واحدية كلية وأحدية جمْعية، يكون فيها أدق عنصر فى المادة، وهو الجزىء (Particle) ؛ وأرق جوهر فى الروح، وهو الموناد (Monade) فى الله وبالله وإلى الله. بهذا كان المصرى القديم يقول وهو يتعبد بقلبه وعقله:إن روحى هى الإله.. هى الأبدية. وعرفهم أن قانون الله فى الكون كله، فى السماء والأرض هو الحق والعدل والإستقامة والنظام (وهو ما عبر عنه المصريون بلفظ واحد هو ماعت). وكان هذا المصرى القديم يقول:لقد وضعته أى الحق والعدل والإستقامة والنظام (وهو قانون الكون وسنّة السماء)، فى قلبى. وعلمهم أن معبد الله هو قلب الإنسان وليس أى بناء خارجى، وبهذا كان المصرى القديم يقول:إن قلب الإنسان إلهه، وقلبى كان راضيا عن أعمالى.

هذا بالإضافة إلى ما علّمه إدريس (أوزير، أوذريس) للناس من علم الفلك (Astronomy) والتنجيم (Astrology)، وهى علوم يستحيل أن تعرفها البشرية من تلقاء نفسها دون أن يرشدها إليه عامل أو عنصر أو إنسان له قوى تفوق قدرات البشرية وقواهم، كذلك فقد علمهم الزراعة والصناعة والموسيقى والختان، وغير ذلك مما أنفت الإشارة إليه تفصيلا.

بهذا نشأ مجتمع الله، حيث كان يلتزم أصوله وقانونه وسنّته، كل من الحكام والمحكومين، الرهبان والناس ؛ وظل هذا المجتمع الإنسانى الربانى هادئا هانئا وادعاً محباً للجميع، كأنما هو الجنة على الأرض، حتى سقط فى نهاية الأسرة الخامسة للأسباب التى أنف بيانها، فكان يقال فى ذلك:إن ماعت (الإستقامة والحق والعدل والنظام) موجودة فى البلاد بإسمها فقط، وما يلقاه الناس حين يبحثون عنها هو العُسف. أو يقال:إن المتحلى بالفضائل يسير وهو محزون لما حدث فى البلاد.. وفى الحق إن السرور قد مات ولم نعد نتذوقه بعد، ولا يوجد فى الأرض إلا الأنين الممزوج بالحسرات.

بسقوط نظام ماعت لم يعد ثمت حق وعدل وإستقامة ونظام، بل انعكست الأحوال إلى ضدها فصار القائم، من وقت سقوط نظام ماعت وحتى الآن، هو الباطل والظلم والإنحراف والفوضى، وزاد ذلك من ظلمة الأرض وغاب عنها نور الله. فصار الكل فى ظلام شامل وعماء مستديم وفوضى ضاربة، وتطلع البعض إلى عهد جديد يعود به الحق بدلا من الباطل والعدل عوضا عن الظلم والإستقامة مكان الإنحراف والنظام محل الفوضى!

فكيف يكون ذلك!؟

saidalashmawy@hotmail.com

• القاهرة

العقيدة الكونية: الإنسان الكوني (17-أ)

Comments are closed.

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading