منذ عهد المعتصم (أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد) سنة 833م بدأت الخلافة تعتمد على التتار (وقد قيل إنهم ترك) بدلا من الفرس، الذين كانت قد ركنت إليهم الخلافة العباسية الأولى، منذ أن بدأت.
بعد المعتصم تولى الخلافة الواثق بالله ابنه، ثم المتوكل على الله ابن الواثق سنة 847م وفى هذا المدى القصير (عشر سنوات)، ارتفع شأن التتار (الترك) واشتد بأسهم وغلب استبدادهم، فسلبوا المتوكل كل سلطة وجعلوه مجرد صورة، لا عمل لها ولا نفع منها، حتى قال المتوكل يصف حاله تلك:
أليس من العجائب أن مثلي
يرى ما قل ممتنعا عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا
وما من ذاك شيء في يديه
فإذا كان الخليفة العباسي قد صار إلى هذه الحال التي يصفها بنفسه، فيقول ما يعني إن التتار (الترك) يأخذون الدنيا كلها بإسمه، ويداه صفر من كل شىء وأي شيء أخذوه بإسمه ذاك، فكيف يقال إن هذا العصر هو ذات العصر العباسي، ولا يوصف بوصفه الحقيق، وهو العصر التتاري (التركي) الأول؟
لقد كانت في نفوس هؤلاء التتار غصص منذ استذلتهم العرب، فما إن سنحت لهم الفرصة، حتى قبضوا عليها بشدة، وركبوا الموجة بحدة، وبدأ بهم عهد أدنى إلى عهود الإرهاب، فلقد أغووا المنتصر – أو أغراهم هو – بقتل أبيه المتوكل فقتلوه، وولوا المنتصر خليفة، ولم يحكم غير بضعة أشهر، وولوا بعده المستعين بالله، ثم المعتز بالله الذي قتلوه شر قتلة، وولوا الخليفة المستكفى ثم سملوا عينيه وحبسوه حتى مات، ومنعوا عن القاهر أي زاد أو مؤونه حتى أنه تكفف الناس يسألهم ما يعينه على المعاش، بعد أن خلعه التتار.
وزاد على ذلك أنه لم يعد الأمر في يد قادة الجيش وجنوده، بل وأصبح للخدم سلطان بالغ، واستكثر الخلفاء من هؤلاء الخدم ليستعينوا بهم حتى أنه كان للمقتدر بالله (908-932م) من الخدم والخصيان 11 ألف شخص وكان يقدم هؤلاء الخدم ويستعين بهم، وولاهم قيادة الجند وغيرها من الرياسات، وأدى ذلك إلى استشراء الفساد والرشوة، وإلى تبادل المصادرات والإغتيالات بين الخلفاء من جانب والوزراء والقواد من جانب أخر، فضعف شأن السلطة المركزية في بغداد، وطمع العمال والولاة في أعمالهم وولاياتهم فبدأ استقلال الإمارات والممالك، وظلت الحال في هذا التردي، تزداد سوءا على سوء، حتى انهار حكم التتار في أيام المستكفى (944-946م) فدخل الديلم الفرس بغداد، وبدأ عصر الفرس الثاني.
في العصر العباسي الثاني، كالعصر السابق له، كان للموالي باع طويل في العلوم والشعر والتاريخ والترجمة.
فمنهم في الشعر، ابن الرومي (أبو الحسن على ابن العباس ابن جريج) وفى الأدب: الجاحظ (أبو عثمان عمرو ابن بحر)، وابن أبى الدنيا (أبو بكر عبيد الله ابن محمد) وكان مؤدب المكتفى بالله، وقدامة ابن جعفر، وابن عبد ربه (أبو عمر أحمد ابن محمد القرطبي)، وأبو بكر الصولى (محمد ابن يحيى).
وفى النحو: أبو العباس ثعلب (أحمد ابن يحيى ابن زيد)، وابن ولاد (المصري)، وأبو جعفر النحاس (أحمد ابن محمد ابن إسماعيل)، وأبو القاسم الزجاجي (عبد الرحمن ابن إسحاق).
وفى التاريخ: ابن عبد الحكم (عبد الرحمن ابن عبد الله)، البلاذرى (أبو جعفر أحمد ابن يحيى)، محمد ابن حبيب (أبو جعفر)، وعمر ابن شبه (أبو زيد عمر)، وابن طيفور (أبو الفضل أحمد ابن أبى طاهر)، واليعقوبى (أحمد ابن أبى يعقوب)، والطبري (أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري)، وأبو زيد البلى (أحمد ابن سهل).
وفى الجغرافيا: ابن خرداذبة (أبو القاسم عبيد الله ابن أحمد)، وابن رسته (أبو على أحمد ابن عمر)، وابن فضلان.
وفى الحديث: البخاري (أبو عبد الله محمد ابن أبى الحسين مسلم ابن الحجاج)، ابن ماجه (محمد ابن يزيد).
وفى الفلسفة: الفارابي (محمد ابن طرخان).
وفى الطب: ابن ماسيويه (أبو زكريا يوحنا)، ابن سهل (سابور ابن سهل)، والرازي (أبو بكر محمد ابن زكريا).
غلبة التتار (الترك) على الحكم والسلطان كان من نتائجها أن ظهر بين العلماء والأدباء، في عصرهم ذلك، تتار منهم، أشهرهم هو البخاري صاحب أهم صحيح في كتب الحديث، إذ هو من بخارى وتقع في جمهورية أوزبكستان وعاصمتها سمرقند، من بلاد التركمستان الغربية، وكذلك مسلم تلميذه فهو من نيسابور التي تقع بالقرب من بخارى.
هذا مع بقاء الموالي، أو المسلمين غير العرب، مهيمنين ومسيرين لحركة الفكر والفكر الديني، ومنهم الطبري، صاحب تاريخ الطبري الشهير وتفسير القرآن، فهو من طبرستان، وكانت منطقة بين بلاد فارس والتتار، وهى الآن في إيران.
وفى هذا العصر (العباسي الثاني التتاري التركي) ترجم سعيد الفيومي (282هـ) وهو إسرائيلي من مصر، كتب موسى الخمسة من التوراة إلى العربية، كما ترجم سفري أشعيا وأيوب.
لما ضعفت سلطة الخلفاء ووهنت قوتهم، استقلت بعض المماليك بالحكم، فقامت في العراق وفارس المملكة البويهية، ملوكها آل بويه من فارس، وهم من الشيعة العلوية، والمملكة السامانية في تركستان، والمملكة الزيادية في طبرستان، والمملكة الغزنوية بأفغانستان والهند، والخلافة المروانية بالأندلس، والخلافة الفاطمية بمصر.
واستطاعت المملكة البويهية أن تسيطر على الخلافة في بغداد في عصر المستكفى (944-946) فبدأ بذلك العصر الفارسي الثاني، وهو عصر شيعى علوى، رفع منار التشيع وأحيا معالم دعواه ونتج عن هذا العصر تقويض نفوذ التتار (الترك) واستمرار ضعف سلطة الخلافة.
وفى بيان وضع وفضل الفرس في هذا العصر، يقول الشاعر (أبو الفضل السكري):
من مثل الفرس ذوى الأبصار
الثوب رهن في يد القصار
وتوالى بروز دور الموالى وتكاثرت أنشطتهم في الشعر والآداب والعلوم، ففي الشعر ظهر كشاجم (أبو الفتح محمود ابن الحسين)، وابن هاني الأندلسي (أبو القاسم محمد)، ومهيار الديلمى (أبو الحسن مهيار).
وفى الأدب والرسائل: ابن العميد (أبو الفضل محمد)، والأصبهانى (أبو بكر محمد ابن العباس)، وبديع الزمان الهمذانى (أبو الفضل أحمد ابن الحسين)، والثعالبي (أبو منصور عبد الملك ابن محمد)، والأجهانى (على ابن الحسين أبو الفرج) والقيرواني (أبو العباس حسن ابن رشيق).
وفى النحو: ابن خالويه (أبو عبد الله الحسين)، والزبيدى (أبو بكر محمد) وابن جنى (أبو الفتح عثمان).
وفى اللغة: المطرز البارودي (أبو عمر محمد ابن عبد الواحد)، وأبو أحمد العسكري، وابن فارس (أبو الحسين أحمد ابن فارس)، والجوهري (أبو نصر إسماعيل ابن حماد)، والقزاز (أبو عبد الله محمد ابن جعفر القيرواني)، وابن سيده (الحافظ أبو الحسن المرسى الأندلسي).
وفى التاريخ: الأصفهاني (حمزة ابن حسن)، ومكسويه (أبو على الخازن)، والعتبى (أبو النصر محمد ابن عبد الجبار)، وهلال الصابى (أبو الحسن ابن المحسن)، وفى الجغرافيا: الأصطرخى (أبو اسحاق الفارسي).
وفى الفلسفة والعلوم: ابن سيناء (أبو على الحسين ابن عبد الله)، والبيروني (أبو الريحان محمد أحمد).
في 1055 سنة 447 بدأ عهد جديد للتتار الترك السلاجقة، فقد وهنت مع الأيام قوة وسلطة البويهيين في بغداد وفارس، كما ضعفت أحوال الفاطميين في مصر، وكلاهما من الشيعة، فالبويهيون شيعة إمامية علوية، والفاطميون شيعة إسماعيلية، وفى ذلك الوقت ظهرت أمة (جماعة) ذات سلطان وبطش في منطقة تركستان الغربية (التتارية) يتزعمها سلجوق ابن بكباك، وهو أمير تتاري تركي، ولكي يحقق مطامعه في السيطرة على الخلافة الإسلامية فقد أسلم (رئاء) هو ورجاله، وقاد جيشا جرارا من التتار، فقطعوا نهر جيجون وهم يقتحمون ويكتسحون حتى امتد سلطانهم من أفغانستان إلى البحر المتوسط (الأبيض) ثم تقطعوا في إمارات، فالسلاجقة العظام حكموا من 429-552هـ، وسلاجقة كرمان من 433-583هـ.وسلاجقة الشام من 487-511هـ، وسلاجقة العراق وكردستان من 511-590هـ، وسلاجقة بلاد الروم من 470-700هـ، أي إن السلاجقة حكموا مناطق متعددة وشاسعة نحو ثلاثة قرون، وبلغ اتساع مملكتهم من حدود الهند إلى آخر حدود الشام، ودخلوا بغداد سنة 447هـ-1055م، فبدأ بذلك عهد التتار (الترك) الثاني، على ما سلف. وكان أهم وزرائهم نظّام الملك وهو الذي كان الدافع الحقيق لما كتبه أبو حامد الغزالي، بما فيه من تناقض وتهاتر ووهن (يراجع في ذلك كتابنا: العقل في الإسلام)
وخلال فترة سيطرة التتار على الخلافة العباسية (التي كانت مجرد دمى ومحض صور) بدأت الحملات الصليبية، فسيطر الصليبيون على بلاد الشام مدة 90 عاماً (492-582هـ).
وفى أواخر عصر السلاجقة ظهر جنكيزخان القائد المغولي فحمل على بلاد العالم الإسلامي – على ما أنف بيانه – فخرب مدنها وأحرق مكاتبها وقتل أهلها بما لم يسبق له مثيل، ثم ظهر بعد منه هولاكو التتاري الذي غزا بغداد وخربها وقتل الخليفة المستعصم (656هـ-1258م). وكان نتيجة هذا الإضطراب السياسي، وما أدى إليه من تخريب وتحريق، أن عمد بعض العلماء إلى حفظ ما بقى من الكتب، واكتنازها بالتلخيص والجمع، مع حذف الأسانيد والمراجع، حتى يمكن جمع كثير من الحقائق في حجم صغير، ويكون الكتاب الواحد زبدة عشرات من الكتب، وهذا ما فعله ياقوت بمعجمه، وابن خليكان بوفياته، وابن أبى صبيعة بطبقاته. وهكذا.
وكانت ثمة نتيجة أخرى مهمة هي انتقال جانب كبير من الشعر وغيره إلى مصر، خاصة في نهاية حكم الفاطميين، وسلطان الأيوبيين (567-650هـ).
فظهر في مصر من الشعراء ابن قلاقس (أبو الفتوح نصر الله الملقب بالقاضي الأغر)، وابن سناء الملك (هبة الله ابن القاضي الرشيد والملقب بالقاضي السعيد)، وابن النبيه (على ابن محمد ابن الحسين كمال الدين)، وابن شمس الخلافة (أبو الفضل جعفر)، وعمر ابن الفارض (أبو حفص عمر ابن أبى الحسن)، وجمال الدين ابن مطروح، وسيف الدين البار وقى، وبهاء الدين زهير (أبو الفضل ابن محمد ابن على المهلبى).
وظهر في الإنشاء: القاضي الفاضل (عبد الرحيم ابن على) وفى النحو: ابن ما يشار، ومن الذين ظهروا في بغداد: الزمخشرى (أبو القاسم محمود) وهو تتاري من خوارزم، وكان إمام عصره في اللغة والنحو والبيان والتفسير والحديث، وناصر المطرزى (أبو الفتح ناصر) وهو تتاري من خوارزم كذلك.
وظهر فيها -كما سلف- أبو حامد الغزالي (محمد ابن محمد ابن أحمد) وهو فارسي ولد في طوس ونشأ فيها ثم انتقل إلى بغداد، والشهرستانى (صاحب كتاب الملل والنحل)، ومحى الدين ابن عربي (وقد ولد بمرسية بالأندلس) ثم نزح إلى بغداد، هذا فضلا عن ابن رشيد (أبو الوليد محمد ابن أحمد) المولود بقرطبة بالأندلس.
سقطت بغداد في قبضة المغول (وجحافلهم من التتار) 656هـ-1258م، وبذلك صارت أكثر بلاد العالم الإسلامي في قبضة المغول والتتار (الذين يسمون خداعا بالترك)، فقد امتدت سلطة المغول (التتار) من حدود الهند شرقا إلى حدود سوريا غربا، تتخللها بلاد في سيادة الفرس فترة قصيرة، وبلاد تحت حكم المماليك، وهم تتار وشراكسة وقوقاز.
فقد كانت مصر والشام في حوزة السلاطين المماليك من 648م-938هـ، وكانت آسيا الصغرى في حوزة السلاجقة ثم أخذها العثمانيون، وكلاهما من التتار (الترك)، وكانت العراق وفارس في سلطة السلطنة الألخانية، وهى مغولية (تتارية)، ثم صارت فارس إلى الحكم التيمورى، وهو مغولي (تتاري)، وتخلل ذلك فترات صارت فيها الأحوال إلى إمارتين في فارس (الجلايرية والمظفرية) وإمارتين في آسيا الصغرى (القراقيونلية والأقاقيونلية)، وكانت تركستان وأفغانستان في يد الشفطائية، ثم صارتا إلى قبضة التيمورية، وكلتاهما مغولية (تتارية).
ونظراً لسيادة المغول (التتار) على بلاد العالم الإسلامي بأجمعها فقد انحصرت سيادة العرب في اليمن والمغرب، ذلك أن اليمن تجزأ في إمارات صغيرة هي زبيد وصنعاء وعدن، وأما المغرب فقد تقطع في ممالك هي تونس والجزائر ومراكش وغرناطة، بعضها يحكمه العرب وبعضها في سيادة البربر، أما الهند فلم يفتح المغول منطقة دلهي، إلا بعد ذهاب هذا العصر.
وفى 897هـ-1492م فر من غرناطة بالأندلس (جنوب أسبانيا) أبو عبد الله محمد آخر ملوك الطوائف.
فاكتساح المغول (التتار) للعالم الإسلامي نحّى العنصر العربي، وهدد اللغة العربية ذاتها، لولا أن القرآن هو الذي أبقاها حية فعالة، خاصة وقد ترتبت عليه علوم عدة كالتفسير والتاريخ والحديث والفقه وغيره.
في 1516 استولى العثمانيون على بلاد الشام، وفى 1517 استولوا على مصر، ونقلوا الخلافة إلى أسرتهم، وإن ظلوا يلقبون بالسلاطين، والعثمانيون – كما سلف – هم في الأصل تتار (من تركستان الغربية) أو شراكسة (من بلاد الشركس)، وهى منطقة تقع في جنوب شرق الروسيا الأوربية، بين البحر الأسود ونهر كوبال من جهة، ومنطقة القوقاز الكبرى من جهة أخرى. وقد ترك الشركس المسيحية واعتنقوا الإسلام في القرن 17، وكانت تركيا تقوم بحكم شركسيا، أي بلاد الشركس، حتى نزلت عنها للروسيا 1829.
وظلت مصر في حكم المماليك، الذين كانوا يدفعون جزية إلى السلطنة العثمانية (وهى جزية ظلت مصر تدفعها وتسمى الصدّة، ربما من قبيل السهو والخطأ، حتى 1955) إلى أن تولى محمد على الكبير حكم مصر 1805، فبدأت مصر الحديثة، وهو ما تداعى إلى باقي البلاد العربية التي شرعت تباعا في الإستقلال وإقامة نظام الدولة الوطنية.
من العرض السالف، على إيجازه، يخلص أن إعادة ترتيب أوارق التاريخ الإسلامي، والنظر إليها من خلال أسلوب علمي نظامي، واضح ومطرد، لابد أن يؤدى إلى تغيير كثير من المفاهيم، وتبديل عديد من المعاني، وتقويض وفير من الدعاوى ؛ وهو أمر مع لزومه وضرورته، قد يصدم مشاعر غير سوية، ويفجر عواطف غير ناضجة، ويرهق عقولا غير متزنة، فضلا عن أنه لابد أن بستثير أصحاب الدعاوى التي تقوم على الجهالات وتتحرك بالشعارات وتستفيد من الضلالات.
فنتيجة للفهم والتقييم (التقويم) العلمى النظامى الواضح المطرد، ينتهى النظر في التاريخ الإسلامي إلى ما يلي:
(أولاً) السلطة السياسية (الخلافة أو السلطنة أو الإمارة أو غيرها) لم تكن إسلامية أبدا، بعد عهد الخلفاء الراشدين، بل وكانت ضد تعاليم الإسلام، ما دام قوامها العنصرية وأساسها الشمولية وصميمها العدوانية.
فالخلافة الأموية المروانية كانت عربية أعرابية، تعصبت للعنصر العربي، وحكمت بكل جلافة البدو وكل صلافة الجهل، حتى أنها قصَرت الإسلام على العرب وحدهم، ولم تفهمه أو تُعمله كشريعة إنسانية عامة، مما تأدى بها إلى أن تفرض الجزية على المسلمين من غير العرب، بإعتبارهم عبيدا لهم وتُبَّعاً، لا يحررهم الإسلام من الجزية التي لا تفرض بنص القرآن إلا على غير المسلم، إن رغب أن يدخل في عهد أو ذمة المسلمين.
والخلافة العباسية قامت بجهود وحروب الفرس الموالى، الذين ثاروا على الخلافة الأموية المروانية، كرد فعل للعنصرية العربية والجهالة البدوية، ورغبة منهم في رفع نير الذل والإستعباد الذي فرضته عليهم، وعلى غيرهم من المسلمين غير العرب، خلافة بدوية جافية ظالمة.
ولما نجح الفرس في إقامة الخلافة العباسية سيطروا عليها تماما، في عهدها الأول، فكانت عباسية اسما وفارسية فعلا، وفى هذا الحكم الفارسي تجلت النعرة العنصرية وتبدت الجفوة الإنتقامية، من العرب ابتداء، ثم من غيرها تباعا.
وسقط الحكم الفارسي فحل محله الحكم التتاري (الذي يقال إنه حكم الترك، دون بيان للحقيقة أو إيضاح للواقع)، لقد بدأ العرب بغزو بلاد التتار (تركستان الغربية) واستولوا عليها وتسيدوا على شعوبها، غير أن هؤلاء التتار أدركوا قوانين اللعبة، واستعدوا للمنازلة والمصارعة، فاعتنقوا الإسلام (ولو ظاهريا) ثم نفذوا إلى سدة الحكم وشدة السلطة، فقبضوا عليهما بقوة، وحولوا الخلفاء إلى دمى في أيديهم وصور أمام الناس.
وتداول السلطة، في الخلافة العباسية، كل من الفرس والتتار، حتى آلت إلى السلاجقة التتار، ثم إلى العثمانيين التتار كذلك.
(ثانياً) أن العنصر الذي حكم البلاد الإسلامية أطول فترة هو العنصر التتاري، سواء قيل إنه المغول (فالتتار من أرومة وأصول مغولية، أي إن المغول تتار، وأن التتار مغول. أو على الأقل فإن المغول قادوا التتار زمنا، حتى انفرد التتار بمسرح التاريخ) أو قيل إنه العنصر التركي، فالتركية لغة أطلق منها اسم التحرك على المتحدثين بها، بعد أن اتخذ لفظ التتار معنى سيئا نتيجة ما كانوا يفعلونه في الحروب من قضاء على الزرع والضرع، بما يشبه عمل الجراد عندما يحط على مناطق مزروعة خضراء فيتركها وقد صارت أعوادا يابسة، غير أنه من المؤكد أن دولة تركيا الحديثة، والتى أصبح الفهم الدارج يتصور أن الترك متصلون بها أو قادمون منها، لم تكن قد نشأت في العصر العباسي الثاني – عصر التتار – وقد قامت كدولة في أسيا الصغرى من قبائل تتارية نازحة 1281م، 680هـ.
فالتتار – الذين قيل إنهم ترك – حكموا عصرين إبان الخلافة العباسية، ثم نزعوا الخلافة من العباسيين ونقلوها إليهم إثر غزو مصر 1517م، هذا فضلا عن أن المماليك الذين حكموا مصر والشام وامتد نفوذهم إلى أرض الحجاز هم تتار في الأغلب، أو شراكسة (وهم أبناء عمومة التتار)، أما العثمانيون فهم تتار نزحوا إلى آسيا الصغرى واستولوا عليها، والسلطنة الغزنوية في أفغانستان وفى سلطنة دلهي هي سلطنة مغولية (أي تتارية) وهكذا دواليك، على نحو ما سلف.
(ثالثاً) أن نسبة التاريخ الإسلامي إلى الإسلام ذاته إهانة للدين وإساءة للشريعة. فهذا التاريخ هو تاريخ صراع القبائل، وتاريخ العنصر التتاري، وهو بهذه المثابة مرحلة من مراحل الترايخ الإسلامي، لا ينبغى أن يفرض على الإسلام ذاته، ويصبح هو النموذج الديني والمثل الشرعى، حتى لا يؤدى بالمسلمين إلى أن يأتموا بأعمال التتار وأن يتطبعوا بسلوكياتهم الوحشية العدوانية الفتاكة.
(رابعاً) أن أهم الأشخاص الذين أثروا في الفكر الإسلامي وصاغوا عقلية المسلمين، ولم يزالوا مؤثرين فعالين هم فرس أو تتار، فمن الفرس أو حامد الغزالى والطبري، ومن التتار (الترك) البخاري ومسلم، هذا فضلا عن أن ابن سينا من أفغانستان وقد نزح إلى بخارى التتارية، وأن كلا من الجوهرى (واضع قاموس الصحاح) والزمخشرى تتاري.
(خامساً) أن إخفاء الحقائق بتغيير لفظ التتار إلى لفظ الترك (وهو في الأصل إسم للغة لا للجنس)، أو بإستعارة أسماء عربية بدلا من الأسماء الفارسية أو التتارية وضع مضلل وحال مبلبل، إذ أدى ويؤدى بالمسلمين إلى فهم المسائل على غير حقيقتها وتقدير الوقائع تقديراً مخالفاً لأصولها – فحين يقال عن التتار خطأ بأنهم ترك فإن ذلك يوحى بأنهم من الترك العثمانيين الذين أقاموا سلطنة في آسيا الصغرى، وصاروا خلفاء المسلمين من 1517 حتى 1924م مما فرض على المسلمين احترامهم، بحسبانهم الخلفاء وحماة الحرمين، ورسب في نفوس عامة تقديراً لهم ينسحب بطبيعة الحال إلى من يوصفون خطأ بأنهم أتراك، وهم في الحقيقة تتار، كما أن العثمانيين أنفسهم تتار.
وحين يقرأ المسلم العادي اسم أبى حامد الغزالي أو إبن جرير الطبري أو أبى عبد الله البخاري أو أبى الحسين مسلم القشيري، وغير ذلك من أسماء يقر في نفسه أنهم مسلمون عرب، فيأخذهم على هذا المحمل، ويقدر أفكارهم في ذلك الإطار، مع أن معرفة مكان الميلاد والنشأة وحقيقة الجنس واللغة الأم أمور وشروط لابد منها – في صحيح العلم وصحيح الفهم – لتقدير أعمال الكاتب أو الباحث أو الفيلسوف، إذ قد يكون قد تشرب أفكارا من بيئته الأولى خلال طفولته أثرت في مفاهيمه ووجهت كل تقديراته، حتى وإن لم يدرك هو ذلك، كأن تترسب في أعماق الفارسي أفكار وممارسات فولكولورية فيها الكثير من الزرادشتية أو المجوسية فينقلها إلى الفكر الإسلامي، بوعي منه أو دون وعي ؛ هذا بالإضافة إلى أن بعض الفرس وبعض التتار كان يحمل بغضا شديدا للعرب، ربما دفعه إلى التأثير السلبى على الفكر الإسلامي ذاته تنفيسا عن ذلك تقاة أو يتصور خلافه عماء.
فهل يمكن أن تكون هذه الدراسة مفتاحاً لمنهج جديداً يبدأ به المسلمون إعادة فهم تاريخهم وتقييم أفكارهم!؟ لعل وعسى.
saidalashmawy@hotmail.com
* القاهرة
إعادة ترتيب التاريخ الإسلامي(2)
تحية وشكر و تقدير على هذا الجهد الكبير.