يعرف المثقفون النظرية Theory على أنها أعلى مستويات المعرفة، فهي بناء عقلي مؤلف من مفاهيم، أو تصورات منسجمة، تؤدي إلى ربط المقدمات بالنتائج. وبهذا تتميز عن الممارسة العملية، أو قل أنها بذلك تتعالى على مجرد المعرفة الساذجة المهوشة.
وقد يضاف إلى هذا التعريف قولٌ آخر يجعلها – أي النظرية- مجموعة متسقة من المفاهيم والأفكار المجردة، تنتظمها قابلية البرهنة، وإمكانية الفحص تجريبياً، وهذه بدورها تستهدف تأسيس نظام علمي لفهم الظواهر المختلفة.
وما من شك في أن هناك عديداً من التعريفات الأخرى التي تزيد أو تقل دقة، كلها مدح خالص لذلك الجهد العقلي الذي يريد أن يرى العالم يعمل بطريقة منتظمة. وهو جهد ينتمي إلى عصر الحداثة الأوروبية التي راحت تمجد العقل، وتستحثه على حل ألغاز الكون جميعاً، مؤمنة بقدراته، موقنة بنجاح مسعاه !
بيد أن مياهاً كثيرة جرت تحت جسور تلك الحداثة، والحق أنها لم تكن مجرد مياه تجري، بل كانت سيولاً، طوفاناً إثر طوفان، جرفت أمامها الجسور جميعاً: حروب عالمية مدمرة، صراعات طبقية مسلحة، تراجع لليبرالية أمام المد الفاشي، تآكل الحلم اليساري بعالم حر تذبل فيه الدولة مثل شمعة حسب تعبير فريدريك إنجلز الشهير…الخ، والأكثر من هذا أن الماركسية باعتبارها فلسفة تحرر أخذت في التحول إلى أداة قمع على يد ستالين وبيريا وجدانوف. وعلى الجانب الآخر تجمدت الفلسفة في الغرب على يد البنيوية – وريثة الوضعية والوضعية المنطقية- بتأكيدها على مفعولية البشر ونبذ ما أسمته بوهم الفاعلية، أضف إلى ذلك تأثير نيتشه المدمر لتاريخ أوروبا الروحي (المسيحية) فضلاً عن النخر الذي أحدثه فرويد في عظام العقل ذاته بكشفه عن ظلمات اللاوعي، وأثر اللامعقول Absurd في السلوك الإنساني.
كل هذا، وغيره كان قمينا ً بأن يُصَدِّع البناء الشامخ للنظرية، وأن يفتح الباب أمام الرغبة في التحرر من هيمنتها (بول فيرآبند، إعجاز أحمد، إدوارد سعيد، جاك دريدا … الخ) وإن كانت هذه الرغبة لا تخلو، بدورها، من منهجة وتنظير. ولاشك أن التفكيك Deconstruction ليعد أقوى الآليات المناهضة للنظرية، فهو بحكم طبيعته هادم لها، ومفكك لأوصالها كسلطة متعالية على الواقع وعلى المفكر في آن، بينما يرى التفكيك أنه ممثل للوعي الضدي الذي لا يلجأ إلى الاستبدالية اللبقة Euphemism يغطرش بها على قبح الواقع، واستعصائه على الفهم ، وتأبيه على التوازن والانسجام.
وفي مجال الثقافات التي تنهض على “النص” الثابت بأكثر مما تنهض على أسس مادية إنتاجية، فإن هذا النص – بألف لام الجنس وليس العهد- ليغري بالمراجعة (كان الشيوعيون الأرثودوكس يوجهون أبشع الإهانات للمبدعين الأحرار أمثال فوزنسكي وباسترناك وسلجنستين ، بتسميتهم المراجعين:) حيث المراجعة هرطقة تستوجب العقاب ! بينما هي في الحقيقة تكشف عن مناطق يناقض “النص” فيها القوانين التي استنها لذاته. ومن هنا يبدأ التفكيك الذي تفر منه كل سلطة فرارها من الأسد .
وثقافتنا العربية نص كبير، هو الشعر والنثر وقواعد السلوك، التقاليد والأعراف، الثوابت (وليس المتغيرات) وهذا النص هو البناء الأيديولوجي بطوابقه وأبنيته، إنه بكلمة محددة: البيت الذي ظنه الناس صامداً أبدياً (بينما كانت عوامل التعرية تفعل فيه فعلها) إلى أن هاجمته رياح العولمة، فإذا به يترنح منذراً بالتهاوي والسقوط. ولا نحسب أننا في حاجة إلى التدليل على ذلك بعد أن عاين الكل موافقة العرب جميعاً على دوام إقامة الدخيل (إسرائيل) بهذا البيت وحتى دون أن يسلم ببعض حقوق الأهل في الإقامة بجواره، كذلك بعد أن سمح الجميع للثور الأمريكي الهائج أن يرتب لهم أطباق الخزف وأكواب الزجاج في الحانوت الذي يملكون، يحيي هذا الشقيق ويميت تلك الشقيقة، يعيد هيكلة البيت، ويغير خرائطه، ويحذف من أثاثاته ما يشاء ويضيف إليها ما يرى.
كيف انكشفت الثقافة العربية عن كل هذه الهشاشة؟! فأين النظرية التي قامت عليها ثقافتهم؟! وماذا قدم مفكروها من تشخيص للداء، ووصف للدواء؟
.. .. …
الحق أن مثقفين عرباً كباراً سعوا للإجابة عن هذا السؤال، بيد أن أغلب الإجابات كانت ُتجرى في سياق البناء الفوقي – تاريخ الأفكار- بأكثر من سعيها إلى الحفر عند الجذور المادية لتلك الثقافة، نستثني منهم – على سبيل المثال لا الحصر- مفكرين من طراز محمد عابد الجابري ، سمير أمين، حسين مروة، محمود أمين العالم .. و بعض المؤرخين الجدد أمثال : عبد الهادي عبد الرحمن، جورج طرابيشي ، محمود إسماعيل. ، صلاح عيسى ومع أن جهود هؤلاء المؤرخين الجدد قلما ُتتابع ، إلا أن الحركة التي بدءوها بتمردهم على الجمود النظري يظل علامة مائزة في تاريخنا المعاصر ، تشي بإمكانية السعي لتفكيك النص الثقافي الذي بات وجوده بهيئته الحالية مكبلاً لعقل الإنسان العربي المعاصر مثل عقال البعير .
فيما يتعلق بالمفكرين فالأمر لا يستقيم عندهم بالاعتماد على مبدأ “الحركة بركة” دون الارتفاع أحياناً إلى المستوى النظري. وهم محقون في ذلك ، فالنظرية ضرورية حتى في محاولة الانفلات من قبضتها، فهي القطب الآخر – حتى ولو كان سالبا ً- يحقق مع الممارسة Praxis التوتر الخلاق للعقل، الذي يؤدي غيابه إلى الاستكانة والتبعية والمفعولية.
وعلى هذا فنحن بالطبع لا نطالبهم بالعمل خبط عشواء، بل ندعوهم فحسب إلى نبذ النظريات الجاهزة، والمناهج الصارمة، بقناعة منا أن اشتقاق النظرية من النظرية إنما يبعدها عن الواقع الذي أرادت أن تعبر عنه، لكن تحليل الواقع ،المتغير دوماً كنهر هرقليطس، قد يقود (أو لا يقود) إلى نسق نظري قابل للتغير والتبديل، والمراجعة وربما المحو..حيث ركوب النظرية هو المطلوب، وليس العكس.
في هذا الفضاء الفسيح، نرى مثلاً المفكر المغربي محمد عابد الجابري يعلن في كتابه “الخطاب العربي المعاصر” : ونحن لم نتخذ لا كانط ولا فرويد ولا باشلار ولا فوكو ولا ماركس ولا دريدا، ولا غيرهم مثلاً يحتذى دون غيره ، بل تركنا المادة التي تعاملنا معها تشاركنا الاختيار، لقد فضلنا أن يمارس موضوعنا بعض الهيمنة على جميع السلطات المرجعية التي تشد إليها المفاهيم التي نوظفها”إ .هـ
وهذا كلام عظيم ، ويحقق مطلب التحرر من الجمود النظري ، بيد أننا –غير مستكثرين على الجابري شعوره بالتفرد – نسأله: أليس في استبدال هيمنة بهيمنة تأكيد لنفس البنية؟! ومن ناحية أخرى نرى الجابري يؤكد أنه حدد لنفسه “نموذجاً” (والأهلّة الصغيرة من وضعه هو) خاصا ً به وحده ! وفي هذا مبالغة واضحة ، لم يقل بمثلها هردر نفسه .
محاولة التحرر من سجن النظرية ليست إذن بالأمر السهل في مظانه ، وعليه فلقد بدا الأستاذ محمود أمين العالم أكثر تواضعا ً و ترددا ً وهو يواجه تلك الإشكالية :الإقرار بالنظرية وفي نفس الوقت الاعتراف بأنها غير كافية ، فنراه في كتابه “الفكر العربي بين الخصوصية والقومية” يعلن رفضه القاطع للنزعة البوبرية (نسبة إلى كارل بوبر) لأنها ترفض التسليم بقوانين تاريخية كلية، بل وتستبعد التاريخ بأسره من مجال العلم، لاستحالة وضع نظرياته موضع الاختبار والتكذيب. والأستاذ العالم يعارض ذلك طبعا ً لحساب نظرية المادية التاريخية ، وفي نفس الوقت ينتقد الكتابات الماركسية التي سجنت المادية التاريخية في أنساق كلية داخل أطر وقوالب مفروضة على التاريخ من خارجه. فهل كان الأستاذ العالم يقاوم ذاته ، حتى لا يعترف اعترافاً كاملاً وصريحاً بأن التاريخ الإنساني يتأبى على التنظير الجامع المانع؟!
في الحقيقة وتبعاً لرؤية “العالم” نفسه (في فلسفة المصادفة) فإن علاقة جدلية تربط ما بين الحرية والضرورة. فالسببية –في نظره- موجودة، ولكن ليس في كل الأحوال يمكن للعين أن تراها وهي تعمل. وقوله هذا يدفع المرء إلى التساؤل عما إذا كانت العين هي التي لا ترى أم أن اختفاء السببية (كمبدأ شامل) ناتج عن غيابها فعلاً ، وما ظهورها –في بعض الأحوال- إلا مراوغة ذاتية تؤديها العين لأسباب سيكولوجية؟! وذلك كله إنما يعني أن النظرية في التحليل الأخير ليست بأكثر من أداة مصنوعة لأغراض تاريخا نية Historicism وعملية يقتضيها مذهب المؤرخ. ولا بأس بهذا في حدود “براجماتية ” معينة، أما الخضوع لهيمنتها فتأكيد للاستلاب Alienation بالمعنى الهيجلى لهذه الكلمة، ولعلنا نذكر جميعاً المثل الذي ضربه هيجل باليهود الذين صنعوا “يهوا” تعبيرا ً عن احتياج “قومي” ومع الوقت نسوا ذلك، فباتوا يحسبون أن “يهوا” هو الذي صنعهم، وذلك هو معنى الاغتراب .
تلك كانت تمثيلات مختصرة لبعض المشاكل الفكرية التي تواجه المفكرين العرب ، في تعاملهم مع ” النظرية ” علي أرضية التاريخ، فماذا عمن أسميناهم المؤرخين الجدد،وحددنا أمثلة لهم : عبد الهادي عبد الرحمن ، جورج طرابيشي ، محمود إسماعيل ، صلاح عيسي ؟هذا ما سوف نخصص له مبحثا ً مستقلا ً في مقال قادم .
tahadyat_thakafya@yahoo.com
* الإسكندرية
تفكيك الثقافة العربية بين المفكرين والمؤرخين الجدد(1)لما كانت النظرية وليدة إعمال العقل في الممارسا العملية والفكرية السابقة الحدوث ؛ بهدف ضبط الممارسات النوعية الحالية والمستقلية علي وجه سواء تقيدا بالحدود التي انبنت عليها أركان تلك النظرية؛ ولما كانت الممارسات وليدة واقع متغير دوما ؛ بمايخرج بالضرورة عن إطار النظرية التي هي دون شك مقياسا إطاريا لممارسات نوعية ماضية/حاضرة أو مستحضرة في آن ؛ وإن كان حضورها حضورا جزئيا عند من لم تسكنه النظرية!!؛ فإن ترك العنان بيد النظرية التي رفعت المشعل لتضيء الطريق أمام ممارسات آنية في مجال ما ؛ متناظرة مع الممارسات التي وضعت تلك النظرية ضمانا لتطابق نتائج… قراءة المزيد ..
تفكيك الثقافة العربية بين المفكرين والمؤرخين الجدد(1)
Dear Dr.Adel
I used to take over this idea Since years ..
: You can run along my book
The dismantling of Arab culture
Which has been published by the supreme
Culture Council 2003 .moreover many many articles about
تفكيك الثقافة العربية بين المفكرين والمؤرخين الجدد(1)With all due respect to Mr Mahdi Bondoq’s research, efforts and analysis, the intellectual foundation of the argument itself is baseless and has no place in the solid ground.There is an assumption that the so called ‘ Arabic culture’ and ‘ Arabic thought’ are some hegemonies entity or just one harmonically tissue of ideas, thoughts, literature etc, etc. this is false and doesn’t exist.Quoting a Moroccan writer for example makes little sense since he might be Berber not Arab.Same like Arabs trying to label naguib Mahfouz or Yousef Edriss as ‘ Arab’ novelists or… قراءة المزيد ..
تفكيك الثقافة العربية بين المفكرين والمؤرخين الجدد(1)
المقال دسم ولكن مضغوط بشدة ، كنا نود لو فصل أكثر ، فالنظرية في التاريخ جزء لا يءتجزأ من فهم الأحداث ، والقول بأنها غير ضرورية يحتاج إلى دلائل وبراهين أكثر , وبالطبع لن يغضب كاتبنا د. مهدى من هكذا نقد، وهو من يمارس النقد الذاتي في كل ما يكتب. تحية له من القلب والعقل .
تفكيك الثقافة العربية بين المفكرين والمؤرخين الجدد(1)
أستاذ مهدي:
أظن أن النص سيكون مغريا للمهتمين بدراسة تاريخ الفكر، ونظريات المعرفة، لكنه بالتأكيد سيكون شاقا وعسيرا على قراء الصحافة والأخبار اليومية ( شخصيا إخترت العيش مابين الجنة والنار؟ وهذا يزعج المرحوم نزار قباني بالتأكيد) شكرا على تعليقك الثمين على موضوع كاليش ، فملاحظتك حول الرقم 68 ذكية وفي مكانها.
تفكيك الثقافة العربية بين المفكرين والمؤرخين الجدد(1)
Yes , theory is a big tackle particularly , with whom you handle as humankind . Let us take over History such it is