الهوس طرف من الجنون وخفة العقل، من أعراضه تضخم الأفكار وإنتقالها السريع من موضوع إلى آخر. والجمهرة هى الجمع من أى شيء، وهى فى الناس تعنى الجمع الذى يحتشد بترتيب أو مصادفة.
وهوس الجمهرة من ثم، هو الجنون الذى يحدث لجمع من الناس، وترجمته فى الإنجليزية mobs mania)) والكلمة بذلك جمع للفظى (mania, mobs) ولفظ (mob) يعنى (a disorderly crowd) أى حشد أو مجموعة غير منظمة أو غير منضبطة، كما يعنى rabble) (a أى الغوغاء والرعاع. أما لفظ (mania) فيعنى ضربا خاصا من الحصر أو الاضطراب العقلى (oxford Dictionary). مؤدى ذلك أن هوس الجمهرة، هو نوع من الجنون يلحق جمعا أو حشدا أو يصدر عن الغوغاء الرعاع.
وقد نشر عالم الاجتماع الفرنسى جوستاف لوبون كتابا مهما عن (روح الجماعات)، وفيه يعنى بالجماعة المجموعة (بالإنجليزية Group) وهى عدد من الناس يجمع أو يوضع أو يصنف معا، ومع أهمية الكتاب، فإنه خلط فى بعض الأحيان بين المجموعة وبين الجمهرة، وفى هذه الدراسة يتحدد الموضوع تماما بالجمهرة، على الوصف السابق بيانه، وهى كما سلف، تختلف عن المجموعة، فهذه تعنى جماعة متجانسة، فى حين أن الجمهرة جمع غير متجانس. الجمهرة حين تلتئم، عمدا أو عفوا، تظهر لها خصائص وتصدر عنها سلوكيات تستولي وتستحوذ على كل فرد يوجد فيها أو يكون بينها، مهما كان حظه من العلم أو الخلق، ومهما كان قدره أو كان وضعه. ذلك بأنها تحدث موجات عنيفة متتابعة من المجالات المغناطيسية، ذات القوة العارمة والجاذبية الشديدة، التى تضعف وتخفت إزاءها أية إرادة أو فكرة أو مقاومة، فتذيب الكل فيها، وتصبغ كل فرد بخصائصها، وتدفعه دفعا إلى سلوكياتها، وكأنما قد خدّرته، أو نوّمته، أو سحرته، فصار شخصا أخر سليب العقل عديم الإرادة، كأنما هو ريشة فى مهب إعصار عنيف، أو نفاية فى شلالات من الماء المتدفق بعنف وشدة. فانعدام العقل والفكر يحدث لأن العقل والفكر يقوم على السببية (Causality) التى تربط الأسباب بالنتائج، كما تربط الأشياء ببعضها، وتكون حالة من الرشد (Reasoning) والوعي (Consciousness) التى لا غناء عنها ولا مفر منها لفهم عناصر أى موقف واتخاذ القرار الصحيح بشأنه، ثم تنفيذ هذا القرار فى حال من اليقظة (Waking state) وإدراك العواقب (Consequences Attainment).
ويعنى انعدام الشعور والعواطف فقدان الحساسية العامة (Anesthesia) بما يؤدى إلى اختلال الإنيّة (أى الذات) (Depersonalization) وملئها بشحنة انفعالية (Cantharis) تجعلها سهلة الهياج (Delirium)، مضادة للروح الاجتماعية (Asocial)، وميالة إلى العدوانية (Aggressiveness)، والإثارة (Aggravation)، وجانحة بشدة نحو الكراهية (A version) والعنف (Violence) والقسوة (Rigor). ما ينتج من تضافر انعدام العقل والفكر مع انعدام الشعور والعواطف، كأهم خصيصة للجمهرة، هو الهوس الذى يتبدى فيما يلى:
أ ) ميوعة (A morph) فى الشخصية وفى الإرادة، فلا تكون أى منهما فردية ولا تكون جماعية، لكنها تصير إمّعية (Credulity)وهى النسبة إلى إمّعة، التى تنبو عن الفردية وتخرج عن الجماعية، وتقبل أى تأثير ولو كان ضارا بها، وتعيد الفرد إلى حالة الرضيع الذى يعتمد على أمه (Anaclasis)، فهو مفعول به غير فاعل، وهو كـَلُّ الحواس، كـَلُّ الإرادة، يجرى به الهوس أنـّى جرى.
ب ) فقدان القدرة على تثبيت الانتباه (Aproserxia)، بمعنى أن هوس الجمهرة، يشتت انتباه كل فرد فيها فلا يستطيع التحقق من أى شيء، ولا يمكنه إن تنبه أن يديم هذا التنبه فى ذاته أو يثبـّته على شخص معين أو قول محدد أو معنى واضح.
ج ) اختلال الوظائف اللغوية (Aphasia) بما يؤدى إلى ألا يفهم فرد الجمهرة، وبالتالى كل أفرادها، المدلول الحقيقى لأى لفظ، والمعنى المحدد لأية جملة، ولا الفصل الدقيق بين فكرة وأخرى، أو التحديد الواضح بين تعبير وتعبير، إنما يتخالط لديه، ولديهم، كل لفظ بغيره، وكل معنى بسواه، بحيث يجوز فى هذا الاختلاط الشديد، والاضطراب البالغ، أن يستعمل أى لفظ فى التعبير عن أى معنى، بلا تحديد، ولا وضوح، ولا بيان، ولا قطع.
د ) فقدان القدرة على فهم الجمل واستعمالها (Aphasia)، ذلك أن الجمهرة، وأى فرد فيها، حتى ولو كان متعلما، يفقد القدرة على فهم أية جملة مفيدة، كما يفقد القدرة على استعمال أية جملة استعمالا صحيحا، فيهتز بذلك الفهم ويعتل التعبير ويختل التقدير.
هـ ) فقدان القدرة على فهم الرموز واستخدامها (Asymbolia)، ذلك بأن الجمهرة، وكل فرد فيها تفقد القدرة على فهم الرمز، وجمعها رموز، بمعنى العلامة التى تدل على معنى له وجود قائم بذاته وتحل محله. مثل العلم الذى يرمز إلى وطن أو جماعة أو طائفة، أو الإشارة التى تدل على مهنة أو على حرفة أو على عمل، كما يكون الرمز هو الإيماء إلى شىء تلويحا بغير تصريح، وإشارة دون بيان مفصل.
ففى الجمهرة، ولدى كل فرد فيها، تتخالط وتتداخل الرموز، ويغمّ فهمها، ويصعب استخدامها استخداما صحيحا، فلا يصير معنى الحكم على مدلوله الأصلى، ولا يكون معنى الإشارة هو المقصود الحق منها، ولا يصبح التلويح بغير تصريح أمرا سائغا مفهوما لدى الجميع فهما واحدا موحدا.
و ) اختلال الوظائف التعبيرية الحركية (Apraxia)، بيان ذلك أن الجمهرة، كما هو حال كل فرد فيها، لا تستطيع التعبير بالحركة عما تقصد بالكلام أو بالإرادة، فلأن الكلام يفقد معناه، ويضطرب فهمه وينعدم هضمه، فإن الواصل العصبى بين العقل والفعل يعتل ويختل، إن لم يمح وينته، فلا تصل الإرادة إلى أعضاء الجسم الحركية، وإذا وصلت فانها تصل مهوشة مشوشة، قد تؤدى إلى غير المطلوب أو تنتهى إلى ما لم يكن مقصودا، هذا فضلا عن أن الاختلال والاضطراب فى الوصلات ما بين العقل والأعضاء الحركية، لابد أن يؤدى إلى فصل كامل بين القول والفعل، بين الحديث والعمل، بين الكلام والأداء.
ز ) اختلال تآزر الحركات الإرادية (Ataxia) فنتيجة لاختلال الوظائف التعبيرية الحركية، لا يحدث توافق بين القول والفعل، وإن حدث عرضا (باللاتينية en passant) فإن الفعل الناتج عن القول لا يكون متآزرا أو متوافقا معه، وإنما يكون منبت الصلة مقطوع العلاقة، بحيث يكون القول فى جانب والفعل فى جانب أخر، لهذا اتجاه ولذلك اتجاه أخر، هذا فضلا عن أن الأفعال الناشئة عن الأقوال لا تكون متوافقة فيما بينها متآزرة على معنى واحد، لأنها ليست على صلة حقيقية بالأقوال، وليست فيما بينها على تجانس فى العمل أو تقارب فى الأداء.
هذه الأعراض والعوارض تجعل من الجمهرة، ومن كل فرد فيها، خطرا شديدا، على المجتمع، إذ يصبح مضادا له (Antisocial)، وعلى الجماعة، وعلى نفسه.
فالجمهرة لا تتأثر ولا تـُقاد بالعقل (Reason) ولا بالمنطق (Logic) ولا بالحجج (Arguments) ولا بالأدلة (Evidences)، وإنما تـُستثار وتقاد من غير قيد أو حد (باللاتينية AD Lib) بالرطانة أى بكل كلام عديم المعنى (Jargon)، يقصد إلى إثارة الأهواء، وهى جمع الهوى، (Adhom ineh) حتى ولو كان ما يقال مجرد هلوسة (Hallucination) تخطيء اللفظ (Mispronounce) أو تقلب المعنى.
وعلى من يريد التأثير فى الجمهرة أن يعمد إلى التكرار وإلى التهييج (Irritation) وإلى الاستهواء (enchantment) فى علاقات لفظية (Relations (Verbal لا تتجه إلى التدليل، بمعنى تقديم الأدلة (Provings)، ولا تعمل على الإقناع (Persuasion) وإنما تلجأ إلى التدليل، بمعنى زغزغة الأهواء (Coddling) وإلى التأكيد (Emphasis)، ولو كان ذلك بإفساد الحقائق وتشويه المعانى.
الجمهرة تتأثر وتنقاد بالإشاعات والتوكيدات والإثارات، فيخيل إليها أن الإشاعة هى الصدق، وأن التأكيد هو الفعل، وان الإثارة هى الأداء، وكلما تكررت لديها الإشاعة هُيىء لها أن الصدق يتكامل، وكلما ازداد التأكيد قر لديها أن الأمر يتأكد، وكلما تضخمت الإثارة تصورت أن العمل قد اكتمل.
والجمهرة تتقلب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بإشاعة مضادة أو تأكيد مخالف أو إثارة مغايرة، إذ هى على ما سلف مائعة القوام، لا تستقر على شيء، فلا تعرف الاعتدال، ولا تفهم الطريق الوسط (باللاتينية Via Medid) ولا تدرك معنى ضبط النفس، وإنما تندفع من اتجاه إلى نقيضه، وتندلق من حال إلى حال وفقا لهفوات اللسان (Lapsus Linguae) أو شدة الإيقاعات والقفلات والعفقات.
وحتى لا يكون الأمر مجرد عرض للحقائق العلمية، فإن الدراسة تركن إلى أمثلة واقعية.
ففى مسرحية يوليوس قيصر للشاعر وليم شكسبير مشهد يدلل على هوس الجمهرة تدليلا واقعيا، فبعد أن قتل يوليوس قيصر أصدقاؤه، ومنهم بروتس الذى يوجد قول بأنه ابن طبيعى (Natural son) لقيصر، خرج هذا إلى الجمهرة المحتشدة خارج مبنى الكابيتول وخطب فيهم يقول:
Romans , country men ,and lovers , hear me for my cause.
وهو ما ترجمته أيها الرومان، المواطنون والأحباب، استمعوا منى إلى وجهة نظرى (أو أسبابى لقتل يوليوس قيصر)، ثم استمر يبدى هذه الأسباب التى جاء فيها.
صدقونى بشرفى، واحترموا شرفى، وسوف تصدقونى، زنوا أقوالى بحكمتكم، وأيقظوا مشاعركم حتى تكونوا قضاة عدولا. إننى أحببت قيصر، لكنى أحببت روما أكثر، هل تفضلون أن يكون قيصر حيا وأن يموت الكل عبيدا، أو أن يموت قيصر لكى يحيا كل الرجال أحرارا.. إن لقيصر دموعا من أجل حبه، وفرحا بشأن حظه، واحتراما بسبب بطولته، وموتا من أجل طموحه (لكى يكون الملك المؤله).. هل هناك من يعترض على ذلك ؟.
فردت جموع الجمهرة تقول: Nan, Brutus, nan)) أى لا يا بروتس لا !!! . يحيا بروتس يحيا يحيا!! انصراف بروتس من أمام الجمهرة، وخرج مارك انطونيو وهل يحمل جثة قيصر فوضعها أمام الجماهير وهو يقول ما جاء فيه:
أيها الرومان، المواطنون والأحباب. أعيرونى آذانكم، لقد جئت لأدفن قيصر، لا لأمدحه. لقد قال لكم النبيل بروتس إن قيصر كان طموحا (لكى يصبح الملك المؤله). لقد كان قيصر صديقى، وكان مخلصا وعادلا معى.عندما كان الفقراء يبكون كانت دموع قيصر تنهمر.. إنكم رأيتم أنى قدمت التاج لقيصر لكنه رفضه ثلاث مرات فهل هذا طموح ؟. إنكم جميعا أحببتم قيصر ولكن ليس بغير سبب، فما هو السبب الذى يجعلكم تنوحون عليه الآن ؟. لقد فقد الناس عقولهم. ولكن كونوا معى. يرتفع صوت من الجمهرة فيقول: قيصر لم يكن طموحا. ويستمر مارك انطونى فيقول: لقد وقف (قيصر) هذا ضد العالم، لكنه الآن ملقى بلا حراك. فلو أردتم أيها السادة فلتثر من أجله عقولكم وقلوبكم، ولتسع إلى الانتقام. فعندما سقط قيصر سقطت أنا وسقطتم أنتم. هذا هو قيصر فمتى يجيء شخص مثله؟.
اهتاجت الجمهرة من حديث مارك انطونيو، الذى زعم أنه يخاطب فيها العقول، والضمائر، لكنه كان فى الواقع يهيج جمهرة بالاستهواء. وبالفعل تحقق له ما أراد، وانقلبت الجمهرة على بروتس الذى كانت لحظات من قبل، قد هتفت بحياته، ثم أشعلت الجمهرة النيران وأتلفت المقاعد واندفعت تسعى للانتقام من قتلة قيصر، وأولهم بروتس.
The Complete Works of SHAESPEARE, Chand , p985- 988.
وحكى لى يوسف وهبى عميد المسرح العربى واقعة حضرها تؤكد هوس الجمهرة، ففى أوائل الثلا ثينيات كان إسماعيل صدقى رئيسا لوزراء مصر، وكان قد وقف العمل بدستور 1923، ونهج فى عمله على نحو مضاد لرغبة أغلبية الشعب الذى كان يمثله الوفد بزعامة مصطفى النحاس. وفى سفر ليوسف وهبى بالقطار من القاهرة إلى الإسكندرية صادف إسماعيل صدقى فجلسا معا فى ديوان واحد، وعندما وقف القطار فى محط طنطا كانت هناك جمهرة كبيرة تهتف بسقوط إسماعيل صدقى وبحياة مصطفى النحاس. وقف إسماعيل صدقى وفتح بنفسه زجاج النافذة فصار فى مواجهة الجمهرة التى اشتدت حماستها وهى تهتف بقوة، يسقط إسماعيل صدقى، يحيا النحاس باشا. حيا إسماعيل صدقى الجمهرة وابتسم لها وهى تهتف بسقوطه، واقترب أحد أفراد الجمهرة من إسماعيل صدقى وأمسك بذراعه وهو يهتف من باب التحدى، يحيا النحاس باشا، يحيا النحاس باشا. فردد إسماعيل صدقى من بعده يحيا النحاس باشا، يحيا النحاس باشا. رضيت الجمهرة بما حدث، بل رضيت عن عدوها إسماعيل صدقى فعلا صوت منها يهتف: يحيا إسماعيل صدقى، وردت الجمهرة تهتف: يحيا إسماعيل صدقى، يحيا إسماعيل صدقى. بدأ القطار فى مغادرة المحطة، والجمهرة تهتف بحياة عدوها الذى كانت تهتف بسقوطه لحظات من قبل. حيا إسماعيل صدقى الجمهرة، وأغلق نافذة الشباك وجلس فى مقعده ثم التفت إلى يوسف وهبى وقال له بهدوء خسرناش حاجة؟.. (هل خسرنا شيئا)؟. مساوىء ومخاطر الجمهرة، على جسامتها وكثرتها، يمكن بوعى وسعى حصرها فى نطاق جمهرة عابرة، ومنعها من أن تمتد أو تشتد، إنما الخطر كل الخطر أن تتحول أمة بأكملها أو شعب بأسره إلى أن يكون جماهر (والجماهر هو جمع الجمهره، المعجم العربى الأساسى، مادة: جمهر).
الأمة لفظ عربى أصله اللفظ العبرى، والذى يعنى القبيلة، وفى القرآن عن هذا المعنى (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً) الأعراف 7: 160 أى إن بنى إسرائيل تقطعت وتوزعت على إثنتى عشرة قبيلة، هى الأسباط. وفى الاستعمال العربى صار اللفظ يعنى الجماعة، ويشير إلى أمة المسلمين، أى جماعة المسلمين، التى تضم المسلمين الذين كانوا، عند التنزيل وفى حياة النبى، من قبائل شتى من قبائل العرب. أما لفظ الشعب، فهو فى قديم اللغة العربية يعنى القبيلة العظيمة، أو الحى الكبير، وقيل هو القبيلة ذاتها، ولفظ الشعب يجمع على شعوب (لسان العرب، مادة : شعب).
مفاد ذلك أن كلا من لفظى الأمة والشعب يعنى فى الأصل القبيلة، وأن المعنى تطور مع الوقت فصار لفظ الأمة يطلق على جماعة عظيمة أو قليلة تقيم فى دولة، كبرت أو صغرت، فيقال الأمة المصرية أو الأمة الفرنسية، و الأمة الأمريكية، كما يطلق على المنتسبين إلى الإسلام كذلك، فيقال عنهم إنهم أمة المسلمين. أما لفظ الشعب فقد تطور كذلك ليعنى مجموع المواطنين الذين يعيشون فى بلد معين، رغم اختلاف المعتقد والجنس واللون واللغة وغيرها، فيقال الشعب المصرى، أو الشعب السورى، وهكذا.
فى القبيلة (التى يطلق عليها الأمة أو الشعب) تكون الثقافة شمولية ضاغطة فهى تحدد لكل فرد من أفرادها القالب الذى ينبغى أن يتقولب فيه، والمعيار الذى لابد أن يتعيّر به فى حركاته وسكناته، وعندما يلتزم الفرد القالب وينتهج المعيار تتحجر شخصيته وتتجمد إرادته وتتبلد عقليته، فيجرى فى كل ما يقول ويفعل على التقاليد السائدة، والأفكار البائدة، والأفعال الدارجة، أى إنه يصبح آلىّ القول والفعل والتصرف، يصدر عن أشياء مُليء بها منذ صغره ورُسم عليها فى طفولته، فلا يستطيع منها فكاكا، ولا يكون بوسعه اتخاذ أية مبادرة أو إتباع قول مخالف أو انتهاج فعل مغاير. لعدم القدرة من جانب، ولأنه من جانب آخر، حتى لو قدر، أو خطر له خاطر القدرة، فإن فعله يُشل وقوله يُغل بسبب الرهبة الشديدة من الضغوط الاجتماعية (Social pressures) التى يرى بعض علماء الاجتماع، (وأولهم إميل دور كايم) أنها أقوى من أى اعتبار، فى تشكيل أفعال الفرد وتحديد أفكاره وأقواله، بل فى صياغة آلامه وأحلامه.
هذه الشخصية الآلية (الميكانيكية)، الجامدة الخامدة الهامدة، لا يمكن أن تكون عضوا نافعا واعيا فى الأمة أو الشعب بالمعنى الحديث الذى تطور إليه كل من اللفظين، على النحو الذى سلف بيانه، وإنما تتشكل بها جماهر (والجماهر هو جمع جمهرة) ومن ثم لا يكون لديها صواب الأمة أو اتزان الشعب، وإنما يكون فيها هوس الجمهرة، بكل ما أنف بيانه من أعراض (أى مظاهر) وعوارض (أى موانع أو حوائل).
لأسباب كثيرة، لم يتطور الشعب العربى أو الأمة العربية كما تطور كل من لفظى الأمة والشعب، بحيث يواكب تطور الفرد والجماعة تطور اللفظين فى المعنى. ونتج عن ذلك أن ظلت الطبيعة والطبائع القبلية فى كل فرد، وفى المجتمع، على الرغم من قيام نظام الدولة الحديث، والذى أصبح هو الصيغة السائدة فى كل العالم العربى. ويظهر هذا التخلف عن الحركية التاريخية والتطورية منذ وقت مبكر فى تاريخ الإسلام. ففى الأندلس، التى بدأ غزوها المسلمون البربر الذى يسمون أنفسهم حالا بالأمازيج، نسبة إلى لغتهم، عام 710، بقيادة طارق ابن زياد الأمازيجى البربرى، ثم استقر بها بعد ذلك العرب، فى الأندلس التى تبعد آلاف الأميال عن بلاد العرب، كان كل عربى يحمل تراث أسلافه القبلى، فحدث صراع بين القحطانين اليمنيين، من أهل المدينة وبين العدنانيين العرب المستعربة من أهل مكة، فكان القحطانيون يقولون عن العدنانيين إنهم هم الجلابيب، كناية عن لبس أهل مكة الجلابيب، وكان العدنانيون يقولون عن أنفسهم إنهم هم الناسة (نسبة إلى مكة التى كان اسم الناسة أحد أسمائها، وينسب إليها أبناؤها فيقال عنهم الناس) كناية على الرفعة، وإشارة إلى غيرهم من القحطانيين بأنهم على الحطـّة، لأنهم أكاريون أى زراع وصناع، أى يعملون بأيديهم ولا يكسبون أرزاقهم بالخطف والنهب والسلب، باعتباره ريعا يأتى بغير عمل دؤوب متواصل. ونتيجة للصراع بين العرب لقيام واستمرار النزاع القبلى بينهم فقد تحللت الخلافة الإسلامية فى الأندلس إلى ما يسمى بملوك الطوائف، حيث استقل كل شخص من العرب أو من البربر بطائفة من الناس أو بمدينة سكنت فيها هذه الطائفة فنصّب نفسه ملكا عليهم فكان بنو عباد فى اشبيلية وبنو جهور بقرطبة ثم ضمت قرطبة إلى اشبيلية وبنو حمود بالجزيرة، وبنو زيرى بغرناطة وبنو برذال بقرمونة، وبنو مزين بشلب، وبنو مجاهد بدانية. إلى آخر ذلك، مما أضعفهم وألزمهم دفع الجزية إلى الفرنج، وهو ما ورد نصا فى قصيدة المعتمد ابن عباد (1040- 1095) التى سميناها فى دراسة سابقة مرثية العرب، أى أن العرب بعد ثلاثة قرون من فتح الأندلس أضعفتهم القبلية وضيعتهم التخلفية، فالزمهم وضعهم دفع الجزية إلى الفرنج خمسة قرون تالية.
الثقافة الشمولية ثقافة قابضة حابسة ساجنة، تشل العقل وتغل الفعل، إذ يكون المحكوم بها مقولبا بقوالبها ممغنطا بعوارضها، سليب الفكر عديم الإرادة، ومتى كان الفرد كذلك كان قابلا للاستهواء السريع والتقلب الخطر.
وإذا كانت العرب قد تعلقت قبل عصر الإسلام بثقافتها الشمولية الراكدة، وقال حكيمهم الشاعر زهير أبن أبى سلمى (ما أرانا نقول إلا معارا.. أو معادا من قولنا مكرورا) فقد انحبسوا فى هذه الثقافة وانحصروا فى تراثها الشمولى بعد أن رأوا أنها قد اكتملت،
وأن كل ما يقال بعدها هو عارية منها أو تكرار لها.
وكانت هذه الثقافة الشمولية قوية إلى الدرجة التى جعلتها تتجاوز قيم الإسلام وتتعدى حركيته، فتعيد انغلاق الشخصية العربية، بما يشل فاعليتها ويغل من يديها. حيث صار الكثير من الناس عديم العقل الصحيح الفعال، سليب المشاعر الواضحة النيرة، فعوّق ذلك تطورهم وحولهم إلى جماهر يمكن أن تصاب بهوس الجمهرة فى أى موقف وأى حادث وأى صراع فتظهر عليها الأمراض والعوارض التى سلف بيانها. ولن تكون الشخصية العربية على المستوى الذى ترجوه وتصبو إليه إلا إذا أدركت الحقائق بوعى وقدرة ثم عملت على تفكيك تراثها الشمولى وإعادة تركيبه بوعى وقدرة، فترفع منه العناصر السلبية التى تحول بينها وبين الإدراك الصحيح للزمان والمكان وتضعها على التصرف الدقيق، بمقتضى الواقعية والتاريخية والإنسانية، التى تحترم فى كل فرد رأيه وتترك لكل شخص حريته وإرادته.
ودون ذلك وبغيره، يكون كل قول سُبّة، ويصير كل فعل هَبّة، ويعود كل سعى خيبة!
saidalashmawy@hotmail.com
القاهرة
هـَوَس الجمهرة
المقال رائع وبه معلومات وإصطلاحات كثيرة لكنه فوق مستوى بعض القـُراء . أُرّشح هذا المقال للتدريس بأقسام علم النفس وعلم الإجتماع بالجامعات المصرية والعربية .
هـَوَس الجمهرة
يا سيادة المستشار ما هذا الكلام غير المفهوم وغير المرتب؟
هل تكتب للتواجد. الخوف أن مقالك لابد من نشره فتكتب في أي شيء. أين مقالاتك الرائعة عن العقيدة الكونية أو الإقطاع الصحفي في مصر؟
وما أخر أخبار موضوع اقتحام منزلكم؟