إعتادَ القاهريون الميسورون على الاصطياف في مدينة الاسكندرية. أما ذوو الروابط الريفية منهم، خاصة القادمين من قرى الدلتا، فكانوا ايضا يصطافون في قراهم المحاذية لها. الآن، تغير الأمر. فالاسكندرية صارت مدينة «البزرَميط» بحسب الروائي ابراهيم عبد المجيد: إكتظّت بسكان العشوائيات وبالهندام والسلوك المتشدّد. وبالقرب منها، بقي القليل من شواطئها العريقة كـ»العجمي»؛ والذي اسّسه الخليط الاجنبي الذي استقر سابقا في الاسكندرية (ايطاليين ويونيانيين وفرنسيين). فقد طوّقته العشوائيات الرثّة والتشدّد الديني. وما تبقى من منازله الجميلة تسوّر معظمه بأعلى الاسوار. ومناخها يشبه مناخ مصيف آخر من العهد الملكي، بور فؤاد. حزن وقلّة حيلة امام طاحونة العهود والازمان. اما القرى النيلية الشمالية، فتقلص نسيمها وتقلصت اراضيها الزراعية وتحول عمارها شبه «الشرعي»، والرثّ بذوقه او فقره، الى ما يشبه أحياء القاهرة العشوائية النامية كالفطر.
ضاقت المصايف النيلية والبحرية الاسكندرانية. وضاقت «المسافة»، أي المكان المحاذي للنيل، فتمّ اللجؤ الى «المساحة» أي الصحراء. وهذا ربما للمرة الاولى منذ التاريخ الروماني وربما الفرعوني. وثنائية «المسافة» و»المساحة» مأخوذة من جملة بليغة للجغرافي المصري الكبير، جمال حمدان: من ان مصر بلاد «المسافة»، اي خط النيل، لا بلاد «المساحة»، اي الصحراء الممتدة في شرق النيل وغربه وشماله.
«المساحة» المختارة للاصطياف الجديد الشاطىء الممتد حوالى 300 كلم، من غربي الاسكندرية حتى مرسى مطروح قرب الحدود الليبية. وبعمق يتراوح بين كيلومترين و15 كيلومتراً. هذه «المساحة» المكان الذي يُبنى منذ 20 سنة، وما زال يبنى على ما تبقى من اراضيه البور المبتعدة غرباً نحو ليبيا.
هناك طبعا «مساحات» اخرى في الصحراء استوطنت. هناك «مدن» جديدة فيها، ومجمّعات سكنية واراض مستصلحة ومنتجعات للسياحة العالمية في شواطىء شبه جزيرة سيناء وطرقات جديدة فتحت لبلوغ «المساحات» الشمالية واناس اعتاشوا منها او من حركتها المستجدة. كلها اماكن جديدة في «المساحة».
فالصيف القاهري يشتدّ قيظا سنة بعد اخرى بفعل الفوضى البيئية والعمرانية وتقلص المساحات الخضراء فيها. فكان ما اتفق على تسميته بـ»الساحل الشمالي» المصيف القاهري البديل. وهو المكان الصيفي بامتياز لطبقة معينة من القاهريين (والاسكندرانيين بنسبة أقل) تبدأ بالوزير وتنتهي بالموظف الكبير واحيانا المتوسط، او ما يعادله في المهن.
على طول «الساحل الشمالي» اذاً نشأ ما اتفق على تسميته بـ»القرى». وهي نوعان: الذي يجمع ابناء مهنة واحدة بعينها، كـ»قرى» المهندسين والديبلوماسيين والقضاة واساتذة الجامعة وافراد القوات المسلحة… والاسماء الاخرى التي تحيل الى عوالم بعيدة ككازابلانكا وكليوبترا ومينا واغادير وقرطاجة… وداخل الواحدة منها يكون التمايز بين ابناء المهنة الواحدة بمعايير واضحة والا فلا معنى للتميز: كالشقة او الفيلا ومدى الحجم والفخامة.
وهذه «القرى» ترفع اسوارا عالية ايضا مع محيطها الصحراوي: منعا لاحتمال زحفه عليها، فيما الاسوار بين كل «قرية» واخرى اقل ارتفاعا واحيانا تكون رخوة، واكبر القرى «مارينا» حيث يسكن الوزير والموظف المتوسط، وسط نشاط وتنافس على الاجتماعيات، حيث قسط وافر من الصحف الصفراء وفضائحها. فـ»مارينا» تمتدّ عشرة كيلومترات وفيها شرطة ومستشفى ومصرف ومحطة بنزين، لا بل موقع للآثار الرومانية و»مسرح روماني» جديد لنجوم العصر. وحتى القانون المرعي، هناك مخالفات له يرتكبها «اصحاب الامتيازات» من هذه المجتمع الصغير، من دون محاسبة ولا إزالة. او تلك الاسوار العالية فوق الاسوار الاصلية التي تشير بدورها الى المكانة الأخص داخل المكانة الخاصة.
فمحصلة حركة الاصطياف هذه تشير عموما الى ميل للهجرة الى الشواطىء الجديدة الاكثر «تجانسا» طبقيا، واحيانا ثقافياً. كلما شعرت شريحة معينة تمتاز بمالها او «ثقافتها» الخاصة باستحالة التعايش مع شريحة اخرى، «هربت» الى «قرية» جديدة، وكرّست تمايزها. واطرف إشارات هذا التمايز قرية جديدة اخرى مبنية على الطراز اللاتيني ولها شوارع «داخلية» باسماء اسبانية. وهي لغة لا يتقنها بالضرورة سكانها التائقون الى الانسجام الثقافي والسلوكي والملتاعون بالحنين الواحد الى شواطىء آفلة.
في المقابل، من هم السكان الاصليون لهذه «المساحة» الشمالية الشاسعة؟ انهم ابناء القبائل البدوية نصف المستقرة، ذوو الامتداد مع القبائل الليبية المجاورة. لم يكونوا من سكان الشواطىء ولا من صياديها. بل مبتعدون عنها، في ما يشبه العمق الصحراوي. لكنهم كانوا يسيطرون عليها. لذلك «باعوها» لمشتري هذه الاراضي قبل ان تبيعها الدولة لنفس المشترين، وتؤسس لبنية تحتية تسمح بإنشاء القرى على امتداده. اغتنى بعض البدو من هذا البيع. لكن التحوّل الاهم حصل معهم بعدما أنشئت هذه القرى وصارت تلبّي ادنى واقصى احتياجات سكانها اليومية من ادوات البناء حتى المأكولات. فنشأت في البلدات البدوية الساحلية هذه حركة تجارية نشيطة يبيع تجارها ذوو اللهجة البدوية بضائع مستوردة من ليبيا والصين. بلدات مثل الحمام او سيدي عبد الرحمن او برج العرب، نمتْ وعمّرت بفضل هذا النشاط الجديد؛ تجارها بدو يبيعون كل ما يحتاجه المصطاف. التجار الكبار والمتوسطون منهم هم ثمرة هذا التحول. وهناك ايضا اصحاب الدكاكين الصغيرة وخدماتها اليومية التي انشأت بدورها نوعا جديدا من الانتاج او الكسب. فتحول المشهد البدوي…
الخلاصة الموقتة: ان هناك دينامية بيئية وعمرانية وطبقية ادت الى فقدان النيل لمستلزمات العيش الهانىء ومتطلباته الاستهلاكية. فتوسعت مصر في «المساحة» نحو الصحراء. طبقات اعلى وادنى هربت قبل ذلك الى الصحراء المعمّرة لتمضي ايام السنة العادية. اما في الصيف فالدينامية اقوى لأنها اضافت الى الطبقات العليا طاقات شرائح او طبقات وسطى… وأمزجة اجتماعية خاصة؛ بعضها يملك في الساحل وبعضها الآخر يؤجر فيه لمدة اسبوع او شهر. فيما نشأت على اطراف هذه «المساحة» طبقات وشرائح جديدة ذات اصول بدوية.
بعض ما ورد في هذا المقال افتراضات مبينة على مشاهدات.
فتوسع «المساحة» نحو الصحراء والابتعاد عن ضفاف النيل، اي «المسافة»، حركة جديدة على مصر. وهي تنبىء بتحولات طبقية ثقافية، تطال الآن ربما 10 في المئة من الثمانين مليون مصري. ولكنها قد تتسلّل فتفاجئنا مفاجأة هائلة: من النوع الذي اعتادت مصر ان تحدثه.
* كاتبة لبنانية- القاهرة
dalal.elbizri@gmail.com
الحياة
من ضفاف النيل إلى الصحراء
مفاجآت مثل ماذا ؟
المفروض في الكاتب أن يرصد ويستنتج ويشير . لكن هذا المقال اكتفى بالرصد السلبي للظاهرة . . فاصبح بمثابة تحصيل الحاصل .