وَصف الانقضاض الجورجي على أوسيتيا بأنه حماقة غير محسوبة النتائج، ومحاولة لتوريط الغرب مع روسيا. فرغم أن الغرب يدعم وحدة أراضي جورجيا ويزودها بالسلاح فذلك لا يعني أنه أيد حلاً للمسألة بالوسائل العسكرية تضعه في مواجهة أخطر أزمة مع روسيا منذ نهاية الحرب الباردة. كما لا شواهد على أن روسيا كانت تريد الحرب، فقد اندفعت إليها ليس فقط للدفاع عن الأوسيتيين الذين تعرضوا لمقتل المئات وتدمير بلدات وفرار عشرات الآلاف، ولكن أيضاً كنتيجة لمستجدات في روسيا بعد انهيار الإتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الملحقة به.
روسيا تجاوزت وضعها ككيان غير مستقر اقتصادياً وبلا سياسة خارجية فعالة، إذ شهد عهد بوتين في سنوات بداية القرن الجديد تزايد الثقة بالنفس وإعادة التماسك للاقتصاد والمجتمع وبعث الروح القومية التي وصلت للحضيض بعد فقدان روسيا لإمبراطوريتها المحصلة منذ العهد القيصري، والتي تابع النظام الشيوعي توسيعها بغطاء أممي أخفى نزعة قومية توسعية, أعيد إحياؤها حالياً لمعارضة توجه دول شرق أوروبا والقوقاز نحو الغرب، حيث وجدت فرصتها للمزيد من الديمقراطية والتقدم والتنمية والأمن، فاستبداد الجار الروسي لم يمح بعد من مخيلة شعوبها.
ولكن إلى أي مدى نهضت روسيا؟ بالتأكيد ليس إلى الحد الذي يعيدها دولة عظمى كما فيما بين الحرب العالمية الثانية ونهاية الحرب الباردة، وقد ساعد على النهوض مجدداً فتح أسواقها للاستثمارات الخارجية، وارتفاع الأسعار العالمية للغاز والنفط، التي أعطت روسيا دخلاً مكنها من تسديد معظم ديونها وتوفير فائض لتحديث صناعاتها وخاصة العسكرية، بإنتاج أجيال جديدة من الطائرات بعيدة المدى التي أرسلت لتجوب المحيطات في مشهد استعراضي عالمي، وصواريخ باليستية متطورة مع تصريحات حول قدرتها على تجاوز الدرع الصاروخي الأميركي.
إحياء الروح العسكرية يحظى بارتياح في روسيا كتعويض عن الشعور بالمهانة لنزولها عن عرشها كدولة عظمى، وتستفيد من ذلك قيادتها الراهنة وخاصة بوتين الآتي من أوساط الأجهزة الأمنية ورجل روسيا القوي رغم انتخاب رئيس جديد, فقد سبق له التصريح بأن انهيار الاتحاد السوفييتي: “أكبر كارثة في تاريخ روسيا”، معبراً عن الحنين لاستدراك العظمة السابقة.
وإذا كانت البيئة الروسية مشبعة بالروح القومية المتوجهة للجوار كمناطق نفوذ لضمان استمرار ارتباطها بروسيا أو استعادة ما خرج عن طوعها، فإن الغرب لم يفعل الشيء الكثير ليساعد على طرد هذه الروح والتوجهات التي تفرضها على السياسة الخارجية الروسية.
الغرب عمل بدأب لتوسيع حلف الناتو شرقاً ليضم معظم دول حلف وارسو المنهار دون مراعاة لمخاوف وهواجس روسيا التي تركت خارج الحلف, شبه معزولة رغم شراكتها مع الحلف كمستوى أدنى من قبولها كعضو. قبلت روسيا توسيع الحلف بتحفظ، لكنها اعترضت بقوة على مشروع ضم أوكرانيا وجورجيا وعلى نشر أميركا لدرع صاروخية بالقرب من حدودها مع قناعة راسخة بأنها مستهدفة.
تعامل الغرب مع روسيا باستهتار على أنها ضعيفة وغير مستعدة للمواجهة، ولم يتنبه كفاية لنهوضها وحدود مقدرتها التي، وإن لم تعد لما كانت عليه، يمكنها خلق أزمات وصراعات الغرب بغنى عنها. كما اعتبر الغرب أن النزعة العسكرية الروسية فطرية لا يمكن التقليل من تأثيرها بسياسات مناسبة تشيع الاطمئنان، فروسيا لها مصالح ويمكن أن تدخل في المنافسة العالمية السلمية وتحل خلافاتها مع الغرب ضمن الأطر السياسية, فالصراع التناحري السابق بين نظام رأسمالي وآخر اشتراكي لم يعد وارداً.
روسيا ليست دولة “مارقة” حسب المفهوم الغربي فهي لا تمارس الإرهاب أو تشجعه بل عانت منه، روسيا والغرب شريكان في مواجهة خطره، ففشل حلف الناتو في أفغانستان وعودة الطالبان تتضرر منه روسيا كالغرب. كما تتوافق مع الغرب في تقدير خطورة امتلاك إيران وكوريا لسلاح نووي. وإذا كانت أوروبا تعتمد على روسيا بتزويدها بقسم من احتياجاتها للغاز والنفط، فإن روسيا تستفيد من الاستثمارات الغربية التي يمكن أن ترحل لأماكن أكثر استقراراً إذا استمر بعث الروح العسكرية. روسيا والغرب بحاجة أحدها للآخر فالطرفان تجمعهما مصالح مشتركة متنوعة.
وإذا كانت روسيا تسبب مشاكل للغرب بمبيعاتها للأسلحة لدول يعتبرها مارقة مثل إيران وفنزويلا وكوبا.. فإن هذه الأسلحة لا تخل بموازين القوى، فقد حرصت روسيا حتى الآن على عدم بيع أجيال جديدة من الأسلحة الهجومية، وهي سياسة التزم بها الاتحاد السوفييتي السابق. ولم تستخدم روسيا الفيتو طوال الفترة السابقة ضد قرارات المجتمع الدولي, فيما عدا حالات قليلة, لأن القرارات تتفق مع مصالحها، فإذا عادت للفيتو لمجرد العرقلة فإنها عملياً تسبب الأضرار لنفسها.
وإذا كانت روسيا تتهم الغرب بازدواج المعايير في مسألة حق تقرير المصير عندما دعم استقلال كوسوفو ورفض استقلال أوسيتيا وأبخازيا، فإن روسيا أيضاً مارست ازدواج المعايير عندما عارضت استقلال كوسوفو والشيشان، بينما اعترفت باستقلال أوسيتيا وأبخازيا. تعمل سياسة ازدواج المعايير في صالح الدول الكبرى ولكن الفارق أن الغرب في كوسوفو استند لقرارات مجلس الأمن، بينما روسيا في جورجيا تصرفت منفردة.
قد تتطور المواجهة بين روسيا والغرب مستقبلاً, وقد سارع البعض لاستخدام تعبير “عودة الحرب الباردة من جديد” رغم عدم انطباقها على الأوضاع الراهنة. إذ لا توجد حالياً مواجهة أيديولوجية بين الطرفين وروسيا دولة حديثة مشاركة في المفاهيم والممارسة الديمقراطية وتعتمد اقتصاد السوق، والدلائل لا تشير إلى إمكانية استعادة النفوذ الروسي كما كان عليه في العهد السوفييتي، فقد سارعت روسيا للانسحاب من معظم الأراضي الجورجية فهناك حدود للقدرة الروسية.
وإذا تميزت مرحلة الحرب الباردة بسباق تسلح واسع بين المعسكرين، فإن ذلك لم يعد ممكناً بالنسبة لروسيا وحدها، والدليل أن ميزانيتها العسكرية رغم ارتفاعها إلى 30 مليار دولار، فأن ميزانية أميركا أضعافها –أكثر من 21 ضعفاً-، وهي وحدها أضخم من الميزانيات العسكرية لدول العالم مجتمعة. ولم ينس العالم بعد مشروع حرب النجوم الأميركي الذي أقنع روسيا بعدم قدرتها على مجاراة الغرب في السباق, فكيف بها حالياً والميزان أكثر اختلالاً.
روسيا لن تدخل مغامرات أخرى مضحية بالتقدم الاقتصادي المحقق، وقد تعلمت أن اندفاعها لسباق القوة العسكرية معروف النتائج، فالتفوق العسكري في الغرب ممكن لكونه مبني على تفوق تكنولوجي واقتصادي، بينما القوة العسكرية المجردة على أرضية مجتمع متخلف – مثل إيران- أو نصف متقدم- مثل روسيا- قوة منقوصة تخسر استراتيجياً حتى لو حققت انتصارات تكتيكية.
هل تعود روسيا لسياسة الأحلاف العسكرية في العالم؟ هذا ما يأمله بعض متضرري انقضاء عهد الحرب الباردة، ولكن مع من ستتحالف؟ فدول من الشرق الأوسط أو أميركا اللاتينية ستكون عبئاً عليها. كما لا إمكانية للتحالف مع الصين أو الهند, فالدولتين ليست في وارد المشاركة في صراعات عالمية، فما يحظى باهتمامها هو توجيه كل جهودها وإمكانياتها لتنمية مجتمعاتها. روسيا نفسها ليست في هذا الوارد أيضاً، فقد صرح بوتين أن “الحرب الباردة انتهت منذ زمن بعيد”، ولا نظن أن روسيا ستنزلق إلى مواجهات خارج إطارها الإقليمي.
هل هناك عالم متعدد الأقطاب يتشكل من جديد بناء على المواجهة الجورجية المحدودة؟ هذا ما تتوهمه نخب محلية قومية ويسارية من أيتام المرحلة المنقضية لازدهار الحرب الباردة وسياسة الأحلاف والانحياز للمعسكرات المتصارعة أو اللعب على الحبلين.. أبهجتهم الحرب الجورجية وغذت أوهامهم عن “سقوط القطبية الأحادية” وإعادة جلب روسيا لمحاور الشرق الأوسط, حتى أن البعض “تمادى” وحلم بروسيا عائدة “لرؤيتها الاجتماعية التقدمية”، لتكتمل اللوحة السريالية الخيالية باستخدام لون أحمر “اشتراكي”!
إن أوهام القضاء على التفرد الأميركي بالعالم، كما تأمل نخب محلية، بتنصيب دولة “عظمى” والتحلق حولها لشن الحروب الباردة والساخنة مباشرة وبالوكالة سيظهر تهافتها، فالعالم يتجه للمزيد من الترابط ولن يبقى خارج العولمة سوى مقاومي الحداثة العالمية أنصار العودة للماضي “الزاهر!”, الأصولي أو القومي أو الماركسي. أما التفرد الأميركي فيحل بطريق طويل يؤدي لصعود مجتمعات العالم إلى مستوى أقرب ما يكون لما وصلت إليه الحضارة الغربية.
لا بد من أخذ الأمور بواقعية لا تهويلية تفسر ما حدث نزاعاً بين دول على مصالحها ونفوذها، والقوقاز مزيج من جماعات قومية يجب العمل على وقف حل مشكلاتها بالوسائل العسكرية, بل باعتماد تعاون قائم على الثقة المتبادلة بين روسيا والغرب يحقق تسويات للنزاعات تحت إشراف الأمم المتحدة, فالحروب تضر بالجميع.
دمج روسيا في أوروبا ودعم ديمقراطيتها الحديثة وتوسيع الاستثمارات الغربية في مشاريعها التنموية أفضل بكثير من السياسات الحالية لتوسيع الحلف حتى الحدود الروسية. ويمكن حسب اقتراحات من الجانبين الجمع بين منظومات الدفاع الصاروخي لروسيا والغرب كمقدمة للبحث جدياً في مسألة ضم روسيا للحلف. الدمج يضعف أنصار تصعيد النزعة العسكرية الروسية، إذ يصبح ادعاء حاجة روسيا لدول حاجزة بينها وبين أوروبا الغربية من التاريخ الماضي وليس مطلباً يمكن الدفاع عنه. أما سياسة عزل روسيا فستؤدي للمزيد من المواجهات المدمرة, وكمثال على حماقتها مطالبة المرشح الجمهوري ماكين بطرد روسيا من مجموعة الدول الثمان الكبار!
هذا لا يعني أن يتفق الكبار على حساب مصالح الصغار، فإن حق تقرير المصير للأقليات القومية مصون وتؤكده العهود الدولية وهو حق للأوسيتيين والأبخاز والشيشان والكوسوفيين والأكراد وغيرهم.. ولن يضيع بين أرجل الكبار.
روسيا ليست بحاجة لحرب باردة لتعود دولة عظمى، فمثل هذه الحرب تعيدها للوراء وتقوض ما حققته بنهجها الجديد المناقض للنهج القديم السوفييتي, روسيا يمكن أن تعود دولة عظمى بصناعاتها واقتصادها وعلومها وديمقراطيتها ومواطنيها الأحرار ومنافستها السلمية للأمم في إطار العولمة وعلاقاتها الإنسانية على امتداد العالم… وإذا كان من نموذج لذلك فهو الألماني والياباني بعد الحرب العالمية الثانية وربما الصيني حالياً.
هل سيتعظ القادة الروس المعبئين بالحماس القومي العسكري بدروس التاريخ والوقائع العنيدة, أم سيأخذون روسيا لصراعات كارثية من أجل روح قومية إمبراطورية متوهمة؟
ahmarw6@gmail.com
* كاتب من سوريا
روسيا والغرب والحرب الباردة وأيتامهاالغرب والشرق , اعني الغرب أمريكا ذات القدرة العسكرية “الجبارة ” الوحيدة في الوقت الحاضر في العالم , وارويا ذات الاقتصاد الذي لا يقل عن أمريكا , و ربما بتفوقها بتقاليده السياسية والدبلوماسية على كلا من أمريكا وروسيا يميزها أكثر , وأكثر , لقد تم جر روسيا في الأحداث الأخيرة بكل ذكاء وتنسيق مسبق ,مثلما تم جرها إلى دخول أفغانستان في ديسمبر 1979 , ومن ثمة إثارة زوبعة عالمية ضدها , وهي انجرت في كلا المرتين بدون إدراك ما هي العواقب التي سوف تلحق بها , فادا المرة الأولى من اجل- الجيوباليتكا- الحفاظ على الإمبراطورية الكبيرة… قراءة المزيد ..