فى يوم 29 نوفمبر 1947 صدر عن الأمم المتحدة القرار رقم 118 بتقسيم أرض فلسطين إلى دولتين، دولة عربية ودولة عبرية، على أن تخضع مدينة القدس لإشراف دولى . وبصدور هذا القرار وقع زلزال عنيف فى منطقة الشرق الأوسط، كانت له تداعيات كثيرة وتوابع خطيرة، منها إنفجار بركان الإسلام السياسى، الذى ألهب بحممه بلاد الشرق الأوسط، ثم إنتشر اللهب وتدفقت الحمم حتى وصلت إلى كل أركان المعمورة.
كانت السلطنة العثمانية تدعو اليهود دائما إلى الإقامة فى بلادها، تركيا والبلاد العربية، حتى تستفيد من ملاءتهم المالية، وقدراتهم الإقتصادية، وإتصالاتهم السياسية. وعندما رفض السلطان عبد الحميد أن يمنحهم حق إنشاء دولة على أرض فلسطين، فقد كان ذلك لأسباب عدة، منها تخوفه من أن تقطع هذه الدولة طريق السلطنة إلى البلاد العربية الخليجية، وبخاصة أرض الحجاز التى كانت السلطنة قد بدأت تـُعنى بها للتأثير على المسلمين، بإعتبارها حامية للحرمين. ومنها عدم رغبته فى إستقلال اليهود بدولة، قد تنافسه عند تحيق أهدافها، ولا تساعده فى تنفيذ أغراضه، هذا بالإضافة إلى عزوف السلطنة العثمانية عن الموافقة على إستقلال أى قوم أو بلد عنها، حتى فى منطقة البلقان، حتى لا تطالب شتى القوميات وباقى البلاد بالإستقلال، وفقا لنظرية الدومينو، التى تؤدى إلى وقوع القطع تباعاً متى وقعت واحدة منـْها.
هذه الرغبة العارمة من السلطة العثمانية، خاصة بعد ضعفها فى إستجلاب اليهود إلى أرض السلطنة، كانت من أهم العوامل التى شجّعت اليهود على إختيار إقامة دولتهم على أرض فلسطين، حيث تكون أورشليم عاصة لهم، وهى البلد والإسم الذى ظلوا يحلمون به، منذ حدث الشتات الثانى، إثر تدمير الرومان للمدينة سنة 70م.
عادة ما يقال فى ذلك إن الذى كان يشجع اليهود على الهجرة إلى السلطنة العثمانية، ودافعهم إلى التطلع والعمل على إنشاء دولتهم فى فلسطين، هم الدونمه (Donmeh أى المرتدون) وهم يهود كانوا قد دخلوا فى الإسلام تقية أو إيهاما، وظلوا فى داخلهم على يهوديتهم، ومن ثم سُمّوا بالمرتدين عن اليهودية. ونتيجة لأدعائهم الإسلام فقد وصلوا إلى مراكز رفيعة فى الجهاز السياسى والإدارى والتشريعى للسلطنة.
هذا القول فى الحقيقة أدنى إلى الإشاعة المزمنة (Fixed Rumor) منه إلى الحقيقة المؤكدة. ذلك أن نظام السلطنة العثمانية هو الذى كان يعمد، باضطهاد أو إهمال أو تهميش غير المسلمين، إلى دفعهم دفعا إلى إدعاء الإسلام، تقية أو إيهاما، وهم يحملون داخلهم عقائدهم القديمة، فيعملون فى تحايل وإنتقام على هدم الإسلام من الداخل.
وتقويض النظام من أساسه، وهو أمر حدث منذ بداية الإسلام، على يد بعض اليهود مثل عبد الله أبن سلام، وكعب الأحبار، وعبد الله أبن سبأ. فالخطأ هنا هو خطأ النظام، وليس خطأ من اضطر إلى الدخول فيه مكرها، فدخل على دخَلْ، لينتقم ويحطم ويدمر، بهدوء وفى تؤدة. يضاف إلى ذلك أن جماعة الدونمة كانت معروفة للسلطة العثمانّية بالإسم، فلماذا لم تراقبها وتقَلّم أظافرها، بدلا من أن تترك لها العنان وتضعها فى الصدارة من السلطة وفى أماكن حساسة بها، حتى تمكنت من أن تحقق أهدافها، فتقوض السلطنة وتستولى على أرض فلسطين ؟ هذا فضلا عن أنه لم يثبت حتى الآن وجود سببية، وثيقة ووحيدة، بين الدونمة وبين كل ما يتـّصل بإنشاء إسرائيل، خاصة وأنه من المعروف عن العرب والمسلمين إلقاء الخطأ على أى سبب أو شخص أو سلطة أخرى، وعدم الإعتراف بالخطأ أو الإقرار بالجزم.
خلال الحرب العالمية الأولى إكتشف حاييم وإيزمان (أول رئيس لدولة إسرائيل فيما بعد) مادة الأسيتون الصّناعى التى كانت تفيد فى صناعة البارود فائدة كبيرة، فقدم إختراعه إلى بريطانيا التى إستفادت منه فائدة عظمى. وإلى جانب ذلك فإن اليهود وقفوا مع بريطانيا وتخلوا عن ألمانيا، فدمروها إقتصاديا، ومن ثم إنهارت بينما كانت متفوقة عسكريا على كل الجبهات (وهذا هو أساس العداوة بين النازى واليهود). ولكى تكافىء بريطانيا حاييم وإيزمان على مساعدته لها، وتفتح شهية اليهود لدعمها، بتقويض الإقتصاد الألمانى سنة 1918، فقد أصدرت وعد بالفور فى 2 نوفمبر 1917 الذى أبدى عطفها على إنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين.
مع أن اليهود ليسوا جنـْسا واحد بل أجناسا متعددة، وليسوا ذوى ثقافة بل ثقافات متنوعة، ولا يتحدثون لغة واحدة بل لغات متفرقة، ولا يقيمون فى إقليم واحد بل فى أقاليم متشتتة، وهم على اليقين ليسو بنى إسرائيل الوارد ذكرهم فى التوراة ؛ مع كل ذلك، فقد تحدد لهم الهدف بأن يقيموا دولة إسرائيل فى أرض فلسطين، وتكون أورشليم هى عاصمتها. وقد برروا ذلك إبتداء بالرغبة فى منع إضطهاد الشعوب الأخرى لهم.
ومنذ أوائل القرن الحالى (كما بينّا فى دراسة لنا عنوانها : المسألة الفلسطينية) عمل المهاجرين اليهود بشتى الوسائل على إنشاء دولة لهم، كان عَلَمها موجودا، وحدّها مخطوطا، وهدفها مرسوما.
هذا فى حين أن عرب فلسطين (مسلمون ومسيحيون) كانوا لاهين بغير هدف، ودون عزم، وبغير دوام. أما باقى البلاد العربية فكانت تناضل فى سبيل إستقلالها. فالقومية العربية ظهرت وتوطدت وتوكدت فى بلاد الشام والحجاز لتناوىء القومية التركية (الطورانّية) وتصل إلى الإستقلال عنها. ومصر كانت فى شغل شاغل بمكافحة الإحتلال البريطانى لتحصل على الإستقلال التام (أو الموت الزؤام)!
فى 24 مارس 1945 وقعت سبع بلاد عربية ميثاق إنشاء جامعة الدول العربية، وكانت مصر أولها. وسعد العرب جميعاً بإنضمام مصر إليهم بما يعطى العروبة دفعة قوية، خاصة وأن مصر كانت منارة العالم العربى والعالم الإسلامى ؛ وكان دخلها القومى ثلاثة أمثال الدخل القومى لكل البلاد العربية مجتمعة. وبدلا من أن تعمل الجامعة العربية على مضاعفة الجهد العربى ووضعه فى أطر علمية وقنوات عملية، فقد شتتت جهودهم وبددت طاقاتهم وضاعفت خلافاتهم. وحين صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم أرض فلسطين، لم يكن لدى الجامعة العربية أى دراسات علمية ولا أى إحصاءات رسمية ولا أى بيانات دولية، فسارع العرب جميعا برفض قرار التقسيم دون دراسة لعواقبه ونواتجه، ولا لمعنى رفض القرار وتداعياته، فكانوا بذلك أول دول ترفض الشرعية الدولية وتخرج عليها، مع أنها عاطلة من أى قوة فعالة عارية من تأثير دولى.
وكان هدف قادة إسرائيل أن يدفعوا العرب إلى محاربتهم، حتى يسقط قرار التقسيم بفعل العرب، وأن يدفعوا العرب إلى طرد اليهود المقيمين فى بلادهم حتى يهاجروا إلى إسرائيل فتقوى بهم وتتكاثر.
وسعت إسرائيل إلى تحقيق أهدافها، بالحيل والدهاء، من خلال إختراق الجبهة العربية، والمصرية بالذات.
لم تكن الحكومة المصرية راغبة فى دخول أى حرب رسمية فى فلسطين، إلى ما قبل 15 مايو 1984 بقليل. لكن حدث إختراق للحكومة من خلال الملك فاروق من جانب والضغوط الشعبية من جانب آخر. فلقد صورت بعض أجهزة المخابرات الأجنبية للملك فاروق أن الحرب فى فلسطين سوف تكون نزهة تمنحه نصرا ومجداً، يوطد مركزه فى مصر، ويهيؤه لخلافة المسلمين، كما كان يتمنى ويرغب هو، ووالده الملك فؤاد من قبله. ولأن الحكومة آنذاك كانت حكومة أقلية لا تستند فى قيامها وإستمرارها إلا على إرادة الملك، فقد صدعت لرغبته. وفى الوقت ذاته، إخترقت أجهزة المخابرات الأجنبية قيادة الإخوان المسلمين التى سيّرت المظاهرات تهتف بالجهاد وتعبىء الشعور العام للضغط على الحكومة، كما أنها زرعت القنابل فى المؤسسات التجارية والصحفية المملوكة ليهود، مما دفع اليهود المصريين إلى الهجرة إلى إسرائيل، عبر بلاد غير عربية.
فور إعلان قيام دولة إسرائيل صباح 15 مايو 1948، وعلى الرغم من إعتراف كل من الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتى بها كدولة، فإن العرب دخلوا الحرب ضدّها، بقالة إن هذه الحرب لتأديب العصابات الصهيونية، ودون أى دراسة جدية، ولكن بإسلوب المظاهرات العشوائية، مع أن إسرائيل كانت تملك جيشاً أكثر عدداً وأوفر عتاداً من كل الدول العربية. يضاف إلى ذلك أن بعض الدول العربية لم تكن ترغب فى محاربة إسرائيل، بل كانت على إتفاق سرى معها، وقد دخلت الحرب مرغمة ومتظاهرة تحت تأثير الضغوط الشعبية، فأساءت بذلك إلى العمل العربى، الذى كان يفتقد التخطيط والتنظيم، وساعدت على وقوع الكارثة العظمى. فقد أدت الحرب إلى هزيمة العرب، وإلى تصدع النظم السياسية، وإلى إبتداء عهد الإنقلابات العسكرية، وإلى مدّ موجة الإسلام السياسي.
كانت بريطانيا شديدة الإهتمام بقناة السويس، بإعتبار أنها كانت حتى فترة قريبة، الشريان الرئيسى الذى يربط الغرب الأدنى ومنه بريطانيا، بالشرق الأقصى، وفيه الهند جوهرة التاج البريطانى. وكانت تدير قناة السويس شركة مصرية إسماً وفرنسية بالفعل. وعندما قامت ثورة 1919 خشيت كل من بريطانيا وفرنسا من شدة الشعور الوطنى المصرى وتخوفت من أن يؤدى وصول القوى الوطنية إلى الحكم وإستمرارها فيه إلى ضرب مصالحها فى مصر، وتأميم قناة السويس. وهو تخوف كان فى محله، فقد طالبت بعض القوى الوطنية سنة 1950 بتأميم قناة السويس، وتم التأميم بالفعل فى 26/7/1956 (ويلاحظ أن هذا التأميم كان مجرد إستيلاء مادى على الخط الملاحى ومبانى الشركة، وبقيت أسهم الشركة فى أيدى المساهمين وفى تعامل البورصات؛ بحيث كان يمكن – لو لم تشتر الحكومة المصرية هذه الأسهم – أن يستطيع حملة الأسهم توقيع حجوزات دولية على البواخر والطائرات المصرية فى أى مكان من العالم).
فى الإسماعيلية، حيث يوجد المقر الرئيسى لشركة قناة السويس كانت المخابرات البريطانية والفرنسية تتركز وتنتشر، فالتقطت شابا حديث السن، محدود الثقافة، قليل الخبرة، شديد الطموح، هو حسن البنا (1906-1949)- فلقد كان هذا الشاب (22 سنة) مدرس الخط واللغة العربية، يجتمع فى مقهى بالحى العربى ببعض العمال ليحدثهم عن أمجاد الإسلام وضرورة تطبيق الشريعة، بنفس اللغة، بل والألفاظ التى بدأت بها السلطنة العثمانية، فى عهد عبد الحميد الثانى (1842-1918) ثم نقلها عنها محمد رشيد رضا (1865-1935) وأخذها عنه رواد مدرسة المنار، ومنهم حسن البنا.
بدراسة واعية، أدركتْ أجهزة المخابرات أن التّدين السياسى هو أفضل وسيلة لتبديد الشعور الوطنى، وصارت هذه القاعدة هى أساس عمل المخابرات الغربية والإسرائيلية، حتى اليوم. هذا التدين يقوم على تسييس الدين وتحزيب الشريعة وتلفيق الشعارات.
فعندما يقال إن “القرآن دستورنا” فإن هذا الشعار يقوض الإتجاه لوضع دستور وطنى (مع أن القرآن لا يتضمن أى قواعد قانونية تحل محل الدستور وتغنى عنه، وعلى الرغم من أن أغلب الدول الإسلامية، ومنها إيران الإسلامية تتخذ لنفسها دستوراً). وحينما يقال إن “الرسول زعيمنا” فإن ذلك يعنى نفى أى زعامة مدنية لآى زعيم، مع أن الرسول ليس حيا ليتزعم الناس، ومع أنه ليس زعيم أمة بل نبى العالمين. وحينما يقال لابد من تطبيق الشريعة، فإن ذلك يعنى فى الحقيقة تقويض النظام القانونى، لأن الشريعة ليست مجرد أحكام قانونية (توجد فى 80 آية من مجموع 6000 آية فى القرآن) لكنها إسلوب حياة. وعندما يتم التركيز على الإخوة الدينية، فإن هذا ينفى مبدأ المواطنة الذى يقيم المساواة بين جميع المواطنين، مهما إختلفت عقائدهم. فشعارات الإسلام السياسى فى واقع الحال، كانت تقويضاً للدولة المدنية وتعويقا للمجتمع المدنى، ينتهى إلى وضع القدرة الإلهية فى يد المرشد أو الأمير أو الإمام. لذلك فقد إنتهى المرشد الأول للإخوان إلى أن يقول، “من أطاعنى فقد أطاع الرسول، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله”، وبهذا صارت طاعته هى طاعة الله، وإرادته هى إرادة المولى سبحانه، وفعله هو قدرته عز وجلا.
وجدت جماعة الإخوان المسلمين تأييداً شديداً من سلطة الإحتلال البريطانية، ومن القصر الملكى، ومن أحزاب الأقليات، حيث رأوا جميعاً بقصر نظر بالغ، أن هذه الجماعة هى أفضل تهديد لحزب الوفد الذى كان يمثل الإتجاه الوطنى والشعبى آنذاك، ولم يْحسبوا نتائج تسييس الدين وتديين السياسة بعد ضرب الشعور الوطنى. وعمدت جماعة الإخوان إلى كثرة التمحك بالقصر الملكى، وإلى عدم إتخاذ أى إجراء فعلى لمقاومة الإحتلال البريطانى، بل على العكس فقد سعت إلى خدمة القوى التى تقول إنها إمبريالية أى إستعمارية.
فلقد ثبت من الوثائق الأمريكية التى نُشرت أن مرشد الأخوان المسلمين عرض سنة 1947 على المستشار السياسى بالسفارة الأمريكية تكوين مكتب لمكافحة الشيوعية، يكون تمويله المالى من الولايات المتحدة ونشاطه الفعلى لأعضاء جماعة الأخوان المسلمين. ورفضت الولايات المتحدة هذا العرض لكنه نبّهها فيما بعد إلى إستغلال المشاعر الدينية، والإسلام السياسى، فى ضرب الماركسية وتفكيك الإتحاد السوفيتى، وهو ما حدث بالفعل، فى أوروبا وفى أمريكا الوسطى والجنوبية، وفى الشرق الأوسط.
استشعر مرشد الإخوان الأول قوة وهمية، حين ساعده إسماعيل صدقى رئيس الحكومة بشتى الوسائل عامى 46، 1947، وبعدما جمع أسلحة كثيرة بدعوى إستعمالها فى حرب فلسطين، مع أنه كان يهدف بها إلى تنفيذ إنقلاب يصل به إلى السلطة. ونتيجة للشعور الموهوم فقد تعجل الصدام مع السلطة، فإنتهى الأمر بإغتيال رئيس الحكومة وإغتياله، وصار الصدام مع السلطة هو سمة الإسلام السياسى فى كل بلد، يقع عندما يتعجل قادته الوصول إلى السلطة، ويستشعروا فى جماعتهم قوة موهومة.
نتيجة للهزيمة فى حرب فلسطين 48، 1949، وأثرا للدعايات الوفدية والتحريضات الماركسية، فقد نشأ شعور مضاد للملك والملكية، قوى مع الأيام حتى إنتهى الأمر بوقوع الإنقلاب العسكرى فى 23 يوليو 1952. وقد وجد تأييداً شعبياً على مظنة أنه سوف يحقق الديمقراطية بإزاحة الملك الذى يعرقل تحقيقها، وسوف يحقق النصر فى فلسطين بما يشفى الكرامة الوطنية الجريحة نتيجة هزيمة 48، 49، وسوف يحقق العدالة الإجتماعية التى جرى الظن بأنها سوق تتحقق تلقائياً بمجرد تقليص ملكية كبار ملاك الأراضى الزراعية.
نتيجة لعمل المخابرات المخطط بدقة، فقد إستطاع عميل لها أن يقنع الحكومة المصرية بعقد صفقة سلاح مع الإتحاد السوفييتى والإدعاء بأنه من تشيكوسلوفاكيا 1955، ووقعت مصر فى الشرك، فبدأ دفعها خطوة بعد خطوة نحو الإتحاد السوفييتى ليحدث إستقطاب فى الشرق الأوسط بين الإتحاد السوفييتى والولايات المتحدة، تستطيع من خلاله هذه أن تساعد إسرائيل بالسلاح وغيره. ومخطىء من يظن أن الحكومات تسعى دائما إلى السلام وإلى عدم إيجاد نزاعات أو صدامات، ذلك أن الصحيح أن بعض الحكومات، ولو كانت الحكومات الخفية (أى أجهزة المخابرات والقوى الحاكمة التى تتضامن معها) تعمل دائما على إيجاد بؤر للنزاع، وخطط للصّراع، ولو كانت مفتعلة، خاصة إذا كانت دولا منتجة للسلاح، ترمى إلى تجربة الجديد منه، وتهدف إلى بيع الكثير من إنتاجها.
ظهرت فى مصر كتب أشير فيها إلى أن أعضاء مجلس قيادة حركة الجيش (التى قيل فيما بعد إنها ثورة) كانوا جميعاً أعضاء فى جماعة الإخوان المسلمين، أو على الأقل موالين لها، مع أن بعضهم كان له إنتماء مزدوجاً إلى الإخوان المسلمين وإلى التنظيمات الماركسية (وخاصة منظمة حدتو). وقدتصور قادة الإخوان المسلمين أن هؤلاء الضباط قاموا بإنقلاب ليهيؤا طريق السلطة أمامهم، غير أن الضباط الذين ملكوا أزمة السلطة وقبضوا على أعنّة الحكم رفضوا التخلى عن أماكنهم لقادة الإخوان المسلمين، فوقع بين هؤلاء وهؤلاء صراع على السلطة إنتهى بإزاحة جماعة الإخوان عن مراكز السلطة فى مصر، وإتجاه الحكم العسكرى إلى الدكتاتورية. ونظراً للشعبية الواسعة للرئيس عبد الناصر فى العالم العربى نتيجة تأميم قناة السويس، فقد صار زعيم القومية العربية، التى ظلت تسير بخطى سريعة نحو الإتحاد السوفييتى، راغبة أو مدفوعة أو مجذوبة.
بعدما علا سهم القومية العربية، وزادت شعبية الرئيس عبد الناصر، استدرجته إسرائيل إلى الحرب، فوقع فى الفخ وأغلق مضايق تيران وخليج العقبة، وكان قد منح إسرائيل سرّا حق المرور فيها ثمنا لإنسحابها من سيناء إثر العدوان الثلاثى 1956. ونتيجة لهزيمة 5 يونيو 1967 فقد سقطت القومية العربية وسقط زعيمها، مما فتح الباب على مصراعيه للقومية الإسلامية، أو الايديولوجيا الإسلامية، أو الإسلام السياسى.
ففى أول خطاب له بعد الهزيمة قال الرئيس عبد الناصر : إن الشعب يريد الدين، وأنا معه.وكانت هذه العبارة إشارة إلى إعراض الشعب عن الماركسية وعن صداقة الإتحادالسوفييتى، وإلى إتجاه الرئيس إلى التكفير عن مسلكه والإلتجاء إلى الدين. ونزلت إلى وحدات ضباط وجنود الجيش كتائب من الوعاظ تؤكد على فكرة الجبرية فى الإسلام، وعلى أن الهزيمة كانت قضاء مكتوباً على مصر منذ الأزل، ولا حيلة فى منعها أو وقفها، لكن المسلمين موعودين بالنصر، والنصر آت عما قريب على يد الزعامة السياسية. وكان القصد من هذه الدعاية واضحا، هو أن لا دخل لهذه الزعامة فى وقوع الهزيمة لأنها قضاء الله وقدره، الذى لا يمكن دفعه، وأن هذه الزعامة سوف تحقق النصر الذى وعد الله به. بهذه الدعاية هدأت نفوس الضباط والجنود، وضمنت القيادة سكوت الناس عن محاسبتها. لكن هذه الدعاية بالذات كانت ذات أثر خطير عل عقليّة الشعب ونفسيته وإرادته، خاصة بعد أن زادت الجرعة الدينية الجبرية زيادة كبيرة فى التليفزيون والإذاعة والصحافة والمطبوعات ؛ وبهذا بدأت فورة الإسلام السياسى، بعد أن مهدت لها الهزيمة العسكرية، وسقوط القومية العربية، وإنتشار الأفكار الجبرية.
وعندما تولى الرئيس السادات سلطة الحكم 1970 عارضه الناصريون والماركسيون، وكانت الوصفة جاهزة، أن يستعين بالإسلام السياسى ضد خصومه ومعارضيه، وبهذا ضاعف من جرعة وقوة الإسلام السياسى. ثم وقعت حرب أكتوبر 1973 التى أدت إلى إرتفاع أسعار البترول من 4 أو 5 دولارات للبرميل إلى 40 أو 45 دولارا (للبضاعة الحاضرة فى ميناء روتردام). وذاق العالم الأمرين خلال الحرب وبعدها نتيجة وقف العرب ضخ النفط، وأثرا للإضطرابات الإجتماعية والإقتصادية لمضاعفة أسعار النفط، فى الوقت الذى زادت فيه ثروة وقوة البلاد الخليجية ؛ حتى أن المملكة السعودية حققت فائضا نقديا فى عشر سنوات أكثر مما حققته الولايات المتحدة الأمريكية فى مائتى سنة.
هذه الثروة الهائلة الهائلة والطائلة التى حطت على عرب الخليج، وليبيا، دون عمل أو جهد، لم تـُوجه لصالح الإنسانية أو حتى فى الإتجاه الصحيح لمصلحة هذه البلاد وأبنائها. ذلك أنها لم تستخدم فى بناء حضارة خاصة بالإسلام أو بالشرق الأوسط، ولا فى الإسهام الجدّى فى الحضارة العالمية القائمة من حيث الإبداع والإنتاج، ولا أقامت معامل بحوث ضخمة أو مراكز دراسات شاملة. بل ولا عمدت إلى إحداث تنمية بشرية حقيقية فى بلادها، أو إقامة بنية إجتماعية قوية بين أبنائها، ولا قدمت معونة فعالة إلى البلاد العربية ذات الكثافة والكفاية السكانية مثل مصر وسوريا وتونس والمغرب. كل ما حدث هو إقامة بعض المدن، على نمط غربى صرف، وبعضها بغير بنية تحتية متكاملة، وزيادة نمط الإستهلاك زيادة بالغة، كانت ذات أثر سلبى على أبنائها وعلى أبناء البلاد المجاورة والمتاخمة ؛ مما أحدث إستفزازا لدى كثير من الشعوب. ناهيك عن الإنفاق السفيه فى أماكن غير لائقة أو أعمال غير مشروعة.
أما فى الجانب الدينى، فقد حدث إنفاق طائل على المظهر دون الجوهر وعلى الشكل دون الحقيقة ؛ فزاد بناء المساجد زيادة كبيرة، حتى فى بلاد أوروبية، وبصورة لا تتناسب مع عدد المسلمين، بل لمجرد إثبات الوجود، ولنشر التدين السياسى والتخرب المعتقدى، الذى ينتهى إلى ثقافة الكراهية (Hatred Culture) حتى ضد المسلمين أنفسهم.
لقد كان عقد السبعينيات وعقد الثمانينات هما عقدا الإسلام السياسى، فقد تضخم وتورم فى مصر والجزائر والسودان وبلاد أخرى كثيرة، فضلا عن إنتشار شعاراته ومقولاته فى كل أنحاء المعمورة، عبر الكتب المدعومة والمراكز التى تنفق عليها دول معينة، لتوطيد مكانتها وتجيد طرقها. وقد أيّد هذا الإسلام السياسى وعضده جهاز المخابرات الأمريكى (CIA) وجهاز المخابرات الإسرائيلى (الموساد)، وأقيمت له فى حقبة الثمانينيات أكثر من مائة مؤتمر فى كل أنحاء العالم، مما أوجد له شبكة عالمية ومالية قوية، وتبنت بعض الدساتير العربية والإسلامية فكرة تطبيق الشريعة، بل وعمدت السلطة فى مصر إلى محاولة تقنينها، وكأنها بذلك تقر عدم شرعية نظامها الدستورى والقانونى، وقامت الثورة الإيرانية (1979) فبدأت دفعة جديدة، قوية وثورية، للإسلام السياسى فى العالم أجمع. ثم حدث التدخل السوفييتى فى أفغانستان، فكان بداية لحرب طويلة لجماعات الإسلام السياسى، بمن سموا الأفغان العرب، ضد الإتحاد السوفييتى، وفى دعم ورعاية من المخابرات الأمريكية، حتى بدا الأمر وكان الإسلام السياسى سوف يقبض على السلطة فى كل مكان فى العالمين العربى والإسلامى.
ثم حدث العجب، حين دارت عجلة الحظ، فبدأ هبوط الإسلام السياسى وزوال شدته، لكن مدّه وجزره أثـّر وسوف يؤثر على مستقبل الشرق الأوسط زمنا طويلاً.
saidalashmawy@hotmail.com
* القاهرة