يقول لى أصدقائى من الأساتذة الأمريكيين، المتخصصين فى شئون الشرق الأوسط وفى التاريخ عامة، أنهم يُدعوْن تباعا، فى فترات متقاربة، لتناول إفطار عمل مع رئيس الولايات المتحدة، فى البيت الأبيض، حيث تجرى المناقشة فى موضوع معين أو فى شأن عام، فيتيح ذلك للرئيس أن يكون على دراية بوجهة النظر العلمية وبالسياق التاريخى للأحداث، مما يجعله على بيّنة عند إتخاذ أى قرار أو إبداء أى رأى.
ومن هؤلاء الأساتذة من يحرص على أن نلتقى معا، فى مصر أو فى الولايات المتحدة، أو فى المؤتمرات التى تُعقد فى أوروبا، كيما نتحادث سويا، فى كتبى وفى أفكارى، حتى يكون بدوره على علم بكل ما يجرى فى الشرق الأوسط، فيساعده ذلك فى مجرى الحديث مع رئيس الولايات المتحدة، وفى عرض الواقع عليه عرضا واضحا سليما.
فالأمور السياسية الدولية، وما يتعلق منها بالشرق الأوسط، لا تصدر فيها القرارات عفوية أو إعتباطا، بل تسبقها دراسات كثيرة، تستند إلى آراء الخبراء من العلماء، بل وإلى كتابات وأفكار بعض أبناء الشرق الأوسط أنفسهم.
والشرق الأوسط يتكون من البلاد العربية جميعاً، ومن تركيا وإيران وإسرائيل.
وإيران دولة تقع جنوب غرب أسيا، وكثيرا ما يُطلق عليها إسم فارس ؛ لأن منطقتها كانت موطنا للأمبراطورية الفارسية القديمة. إستقر أصول الفرس فى إقليم فارس الحالى (persia) والذى كان يتبع الأمبراطورية الأشورية (حيث توجد العراق حالا). فلما أقيمت الأمبراطورية الفارسية فى منتصف القرن السادس (ق.م) شـُيدت على نظم إقتبسها الحكام من دول سابقة، فأخذوا نظام آشور السياسى، وفنون بابل وآشور. ونشب صراع بين فارس والروم حسمه الأسكندر الأكبر بالاْنتصار على الفرس (فى موقعة نهر جرانيق 334 ق.م، وموقعة جاوجا ميلا 231ق.م) وقضى على الأسرة الحاكمة. وبعد موت الأسكندر وقعت معظم الأراضى الفارسية فى قبضة خلفائه من السلوقيين، الذين أدخلوا إليها الثقافة الهلـّينية. وحوالى 226ق.م أقيمت الأمبراطورية الساسانية وإزدهرت حتى 641 – 642 م، حين إستولى العرب على بلاد فارس. ومع الوقت حلّ الإسلام محل المذهب الزرادشتى الذى كان شريعة الفرس. وتحول الفرس إلى المذهب الشيعى، فأصبح أغلب الإيرانيين شيعة. والمذهب الشيّعى يختلف عن المذهب السنى، مذهب أهل السنة والجماعة، فى مسائل جذرية، منها إضافة ركن سادس إلى أركان الإسلام الخمسة، هو إتخاذ ولىّ من شيعة على ابن أبى طالب وزوجه فاطمة بنت النبى، وهو ما يتأدى إلى إعتبار الولاية، أو الإمامة، وهى سياسية، ركنا من الدين. هذ بالإضافة إلى خلافات عميقة فى الحديث والفقة، الأمر الذى حدا بأكبر فقهائهم (الكـُلينى، أبو جعفر أبن يعقوب) لأن يقول : كلّ ما عليه أهل السنة فهو خلافنا (أو هو العكس والضد لما نعتقد فيه).
ومع أن الفرس دخلوا فى الإسلام، وكان لهم شأن كبير فى تأسيس الحضارة الإسلامية، بما إختلط لديهم من عناصر الحضارات السابقة الأشورية والبابلية والهلّينية، وما أضافوه هم إليها، فإنهم لم يغيرّوا لسانهم إلى العربية بل ظلوا حتى اليوم يتكلمون اللغة الفارسية كلغة أولى وأخيرة، فلا يتعلمون أو يتكلمون العربية ولو لغة ثانية، الأمر الذى يجعل حديث من يتحدث منهم العربية كحديث الفرنجة ولهجة الأجانب ولكْنة (الخواجات).
وتعلم اللغة العربية ليس ترفا للمسلم بل هو واجب عليه، وإلا كان مسلما بطريقة غير مباشرة، أو بالواسطة (second hand).
فالقرآن وهو الكتاب الأساسى فى الإسلام، يتضمن مبادىء الدين وقواعد الشريعة، ويرى كثير من المسلمين أنه معجزة النبى البلاغية. وفى القرآن آيات تفيد أنه عربى، وأنه خطاب إلى من يعرف العربية، وأن من لا يعرف العربية لا يستطيع أن يفهمه، ولا يكون إيمانه على بصيرة.
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) سورة يوسف 12 : 2، (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً) سورة الرعد 13 : 37، (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ…. وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) سورة الشعراء 26 – 193 : 199 (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) سورة إبراهيم 14 : 4.
القرآن من ثمّ كتاب عربى، وحكم عربى، لا يؤمن به حق الإيمان أعجمى لا يفهمه، وكما أن الرسول يكون بلسان قومه ليبيّن لهم، فإن المؤمنين لابد أن يكونوا على لسان النبى ليسْلم إيمانهم، حين يكون سمعا للكلام، وفهما للمبنى، ووعيا للمعنى.
ونظرا لأن أى ترجمة للقرآن لا تكون على مستوى النّص العربى أبدا فى بنيانه وفى بيانه، فإنه يُقال عن أى ترجمة إنها ترجمة لمعانى القرآن. أى إن الذى لا يقرأ القرآن فى لغته العربية، وهو يفهمها بإمعان ويعيها بإتقان، فإنه يقرأ فى الترجمة معانى القرآن لا القرآن ذاته ؛ ولا يمكن أن يدرك معجزته البيانية.
وإذا كانت أسبانيا عندما غزت بلاد أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية قد غيّرت لسان أبناء هذه البلاد جميعا إلى الأسبانية (عدا البرازيل التى تتخذ لها من البرتغالية لسانا)، وكانت فرنسا قد نشرت لغتها، بل وجعلت منها لسانا أولا أو ثانيا لعدد كبير من البلاد، كوّنوا رابطة الفرانكفونية، فكيف لم تنتشر اللغة العربية حيثما إنتشر الإسلام، ولو كلغة ثانية، بما كان يصهر المسلمين فى مبانى ومعانى النص القرآنى العربى، ويجعل لهم إلى جانب الإشتراك فى الإيمان التحاما فى الوجدان وإتحادا فى اللسان ؟
عندما يصرّ قوم على البقاء على لغتهم ولسانهم، بعد أنْ يدخلوا إلى الإسلام، فلا يغيروا لسانهم إلى العربية، ولا يتعلموا العربية كلغة ثانية لهم، فإن ذلك يعد أبلغ دليل على علو شأن القومية لديهم، بما يتساوق أو يتفارق على الشعور الدينى ذاته.
هذا الشعور القومى الحاد الغلاب لدى الفرس تصادم منذ بداية التاريخ الإسلامى مع الشعور القومى العربى (للعرب العدنانيين فى مكة أو المدينة) المتعالى بدوره، فحدث ما يسمى بالشعوبية، وهو صراع القوميات ؛ هذا الصراع الذى حكم التاريخ الإسلامى طويلا، وما زال ذا أثر فعّال فيه.
ففى تقدير بعض المؤرخين أن الفرس تحولوا إلى شيعة كى ما يتميزوا عن باقى المسلمين، أهل السنة والجماعة، بمذهب أو إتجاه خاص بهم، تخالط، عمدا أو عفوا، مع تراثهم الشعبى (الفولكلور، ومع مجدهم الوطنى).
وعندما قامت الثورة الإسلامية الإيرانية 1979 فقد أمّل الجميع أن تكون ثورة بعث روحى وأخلاقى يفيد منها الشعب الإيرانى ثم باقى المسلمين تباعا، غير أنه سرعان ما كشرّت الثورة عن أنيابها، فتبين أنها ثورة سياسية ذات مطامع فارسية ومطامح سلطوية، فأعلنت مبدأ تصدير الثورة، أى تصدير نهجها وفكرها، إلى كل البلاد الإسلامية. وهذا المبدأ هو فى جوهره مبدأ الشيوعية والماركسية الذى أعلنته منذ البداية، وعملت على تحقيقه طويلا، مما أدى بخصومها إلى أن يحاربوها بنفس السلاح حتى تفوقوا عليها، فإنهار الإتحاد السوفييتى وتحلل إلى بلاد عدة، وتلاشى المبدأ الماركسى المؤسس على تصدير الثورة.
وإلى جانب ذلك، فإن الثورة الإيرانية أسرفت فى إعدام الخصوم، بل وفى تصدير الإغتيال، فقتلت خصوماً لها فى بلاد غربية، وفى مقاه ومطاعم عامة، ولما أدان القضاء المحلى مرتكبو جرائم الإغتيال سيرّت إيران المظاهرات ضد أحكام القضاء (كأنها تضغط لتبرئة القتلة بإرهاب الدولة وتخويف الساسة) وهى إتجاهات لا يجوز أن تنسب إلى الدين أو أن تـُلحق بالشريعة.
ويرى كثير من المحللين السياسيين أن الثورة الإيرانية الإسلامية، ثورة فارسية، جوهراً ومظهراً، فى المضمون وفى المحتوى، وإنها تندثر بالإسلام وتتلحف بالشريعة لتغزو العالم الإسلامى تحت راياتهما، ثم تعمل على سيادة المطامع الفارسية والمطامح الإيرانية، بتسويد مذهبها الدينى، خاصة وقد أدّعى زعيمها الخمينى أن النبى محمد لم يكمل رسالته، كما أفتى بأن الدولة (أى السياسة) أهم من الدين. ونتيجة لذلك فقد فشلت الثورة فى كل ما فعلت، ولم تنجح فى حربها مع العراق، ولم تنجح فى رفع المستوى الإقتصادى للشعب الإيرانى (بل إن مستوى دخل الفرد إنخفض إلى ثلث ما كان عليه أيام الشاه)، هذا بالإضافة إلى أنها لم تقدم أى إضافة جديدة ومفيدة للدين أو الشريعة. وكانت النتيجة أن إنقسمت الثورة على نفسها، وإختلفت الأمة فى إتجاهاتها، فظهر إتجاه ليبرالى بقيادة رئيس الجمهورية السابق محمد خاتمى، وأغلب أبناء الشعب الإيرانى، وهى ليبرالية تـُعتبر، بمفاهيم التطرف الإسلامى، عالمانية ترتدى عمامة. وما زال وسوف يظل الصراع مستمرا بين الأقلية المتزمتة التى تقبض على مفاتيح السلطة، والأغلبية المتحررة التى تتطلع إلى دحر التزمت وكَسْر الجمود. وكل ما نجحت فيه الثورة الإيرانية أن قدمت للعالم كله نموذجا شائها للإسلام، وصورة سيئة للمسلم.
أما تركيا، وهى البقية الباقية من الأمبراطورية العثمانية التى تكونت فيما بين القرنين 14 و 16 على يد قبائل من التتار غزت منطقة آسيا الصغرى، بعد تفكك الأمبراطورية السلجوقية (وهى من التتار كذلك). فلقد قام التتار الذين كانوا يقيمون فى جنوب الصين ووسط آسيا بغزو المناطق التى تقع إلى الغرب منهم، وكان من هذا الغزو غزوة إستقرت فى منطقة تركيا الحالية وأسست دولة نُسبت إلى زعيمها الأول عثمان، فسُميت بالعثمانية حتى تنفى عن نفسها وصف التتار الذى كان كريها لدى الناس جميعاً، وسمّت عنصرها العنصر التركى، مع أن التركية إسم اللغة التى يتكلمون بها.
فى سنة 1402 هزم تيمور لنك (المغولى، وهى قبيلة من قبائل التتار) تركيا وأسر السلطان بايزيد الأول. ولما إسترد العثمانيون قوتهم بادروا بالعدوان على كل المناطق المجاورة لهم، والمتاخمة، وما بعد المتاخمة. فقد هاجموا الدولة البيزنطية ومملكتى بلغاريا وصربيا، وإستولوا على القسطنطينية سنة 1453، وهى بيزنطة عاصمة الأمبراطورية البيزنطية، وسمّوها إسلام بول أو اسطانبول. وإستولوا على الشام ومصر عامى 1516، 1517. وأجبروا الخليفة العباسى المتوكل على التنازل عن الخلافة لسليم الأول ثم السلاطين من بعده. وغزوا معظم بلاد اليونان والمجر وكثيرا من أنحاء فارس وبلاد العرب. وصارت ولايات ترنسلفانيا والافلاق والبغدان إيالات (ملْكيات)خاصه بهم. وهددوا الامبراطورية النمساوية وحاصروا عاصمتها فيينا حتى خف لعونها جون الثالث ملك بولندا ورفع الحصار عنها سنة 1683.
لما كان التتار قبائل بدائية فقد كان إمتيازهم فى الحرب والضرب والنهب والسلب، فلما إستقر بهم الأمر فى مكان أو فى دولة عجزوا عن تقديم النظم السياسية والإقتصادية والإجتماعية الملائمة لتكوين دولة وتسييرها. لهذا ظلت الإمبراطورية العثمانية (بقيادة تركيا الحالية) تقوم على خصائص العصور الوسطى، وعلى نظام أسيوى إستبدادى، أضافت إليه استخدام الانكشارية (وهم جنود يختارون من منطقة البلقان غالبا) وعلى نظام البادى شاه (وهو نظام إدارى قوامه أفراد خاضعون للسلطان وعبيد له). وقد أدى ذاك إلى تخلف وتحلل السلطنة العثمانية، وكل البلاد التى كانت تبْسط عليها نفوذها؛ فى الوقت الذى كانت عوامل النهضة الأوروبية ترقى بالبلاد الأوروبية وتستحدث نظما أرقى وافضل فى الحروب والتنظيم السياسى والإقتصادى والإجتماعى. وما إن ارتقت هذه البلاد حتى بدأت ترد العدوان العثمانى وتصد غوائله عنها، وحدث أول انكسار حربى عندما هزم الأسطولين العثمانى والبندقى (نسبة إلى البندقية) الأسطول التركى فى معركة ليبانتو البحريه 1571. وتلى ذلك إكراه الترك على رفع الحصار عن فيينا 1683. وأعقب هذا إندحار الجيش التركى أمام قوات شارل الخامس أمير اللورين، ولويس دون بادن (فى ألمانْيا)، ويوجين أمير سافوى، فأكره الترك على عقد معاهدة كارلو ونزو 1699 التى نزلوا فيها عن بلاد المجر وممتلكات شتى. وظل التدهور السياسى والضعف الخلقى يسريان فى جسم السلطنة، حتى علا شأن الأنكشارية، فصاروا هم الحكام الحقيقيين. وعجلّ بسرعة انهيار السلطنة حروبها مع الروسيا فى القرن 18، حتى استبد بها الضعف وغلب الوهن، وصارت تسمى رجل أوربا المريض. وثارت آنذاك ماسُمى بالمسألة الشرقية، وهى خوف الغرب، من الهيمنة الروسية على تركيا والبلاد العربية التابعة لها، فبدأ عصر الإستعمار، كرد فعل متأخر على العدوان العثمانى، وخط دفاع حيوى لمنع روسيا من إستعمار الشرق الأوسط. فاحتلت بريطانيا مصر 1882، واحتلت إيطاليا طرابلس ( ليبيا )1911-1912، ودخلت فرنسا حلبة الإحتلال، بل وكانت هى البادئة به بالحملة الفرنسية على مصر.
خلال ذاك كانت صربيا وبلغاريا ورومانيا قد أعلنت إستقلا لها عن السلطنة العثمانية، وكونت مع اليونان حلف بلقانيا شن عليها حربا ضروسا خسرت فيها السلطنة معظم ماتبقى لها من أراضى فى أوروبا.
فى 1918 إنهارت السلطنة العثمانية أمام ضربات البريطانيين والجيش العربى فى العراق وفلسطين وسوريا، وانتـُزعت منها كل أملاكها فى أسيا بمقتضى معاهدة سيفر. وإنتهى الحال بإستيلاء الجيش على السلطة حيث بدأ مصطفى كمال أتاتورك يقيم ما قال إنه دولة عالمانـّية.
عالمانية تركيا، عالمانية متخصصة بظروفها متعلقة بتاريخها، فهى من ثم عالمانية خاصة جدا. ذلك أن الترك العثمانيين هم فى الأصل قبائل تتارية، وإن تزاوجوا بعد ذلك بأخلاط من بلاد البلقان واليونان، إما أنهم تخيروا منهم وإما أنهم نقلوا قبائلهم إلى أرض تركيا، فى عمليات النقل (Transfer) المتواصلة، والتى ظلت مستمرة ومتفاعلة، حتى هاجر عدد كبير من اليونانيين والبلغار من تركيا خلال القرنين 19، 20، فصارت الكثرة الكبرى من السكان أتراكا، تخالطت وتمازجت دماء الكثير منهم مع الدماء البلقانية واليونانية.
وعندما احتل الأتراك العثمانيون بيزنطة (القسطنطينية) ورثوا الأمبراطورية البيزنطية، بكل نظمها الإدارية والسياسية ، التى كانوا يجهلونها تماما، بل وكانوا عاطلين من أى قدرة على إنشائها. هذا فضلاً عن أنهم ورثوا الطعام والمطبخ البيزنطى، الذى صار يسمى بالمطبخ والطعام التركى، وهو أصلا بيزنطى.
اتخذت السلطنة العثمانـّية جل النظم السياسية والإدارية البيزنطية نطما لها، وكان من ذلك أن أنشئت وظيفة المفتى الأعظم لىتكافىء أو تعادل وظيفة وإختصاصات “بابا الكنيسة البيزنطية”. وعلى الرغم من أن الإسلام لا يقر وضع المفتى الأعظم، ولم يظهر فى تاريخ الإسلام أبداً وجود هذه الوظيفة، فقد أصبحت فى السلطنة العثمانية سلطة دينية عليا، تكافىء وتعادل السلطة الكنسّية فى بلاد أوروبا المسيحية، قبل عصر النهضة. وقوىّ من شأو المفتى الأعظم ورفع من شأنه، أن الأتراك عامة، والسلاطين خاصة، تمسكوا بلسانهم التركى شأنهم فى ذلك شأن الفرس، ولم يتعلموا العربية، ولو كلغة ثانية. ولم يكن السلاطين، الذين عُدّوا فى الواقع خلفاء المسلمين يجيدون قراءة القرآن بالعربية، أو يفهموا معانيه، أو يدركوا مراميه ؛ وبالتالى لم يكن بوسعهم أن يؤموا الناس فى الصلاة، أو أن يفتوا فى شئون الدين. بهذا إنقسمت السلطة إلى سلطة سياسية وإدارية من جانب، وسلطة دينية وشرعية من جانب آخر، أى سلطان ومفتى (كما كان الوضع فى البلاد الغربية : إمارة وكنيسة). فعندما ألغى كمال أتاتورك منصب الخلافة، كان يلغى حق سلطان لا يعرف القرآن فى لغته العربية، ولا يفهم الإسلام من مصادره المباشرة، فى أن يتخلـّف (أى يجعل نفسه) خليفة للمسلمين له القول الفصل والرآى النهائى فى شئون الدين وفى أمور الدنيا. هذا بالإضافة إلى أنه قصد إلغاء وظيفة المفتى الأعظم، وفصل سلطته الدينية الواسعة عن السلطة السياسية والإدارية.
إن المفتى الأعظم فى السلطنة العثمانية كان سنادا للمظالم السياسية، كما كانت السلطنة عمادا لا فتئاته على الدين. فلقد أفتى شاغلوا وظيفة المفتى الأعظم بحق السلطان فى قتل إخوته الذكور حتى يستقر الأمر له فلا يتخوف من محاولة أحدهم منازعته السلطة، كما أفتى بعض المفتين بحق السلطان فى حبس إخوته فى حجرات تبنى لهم داخل القصر السلطانى، مثلهم مثل الحيوان تماما، حتى كانوا يسمون أمراء القفص، يعيشون ويموتون فى أقفاص من الحجر.
وإذا كانت القومية الفارسية قد نافست وغالبت الشعور الدينى فحجبت الفرس عن تعليم العربية، فإن القومية التتارية فعلت نفس الشىء وأدت إلى ذات النتائج بالنسبة للترك، فظل هؤلاء وهؤلاء على لغتهم التى لا تمتّ بأدنى صلة للغة العربية. فالفارسية لغة إيرانية من الفصيلة الفرعية الهندية الإيرانية للـّغات الهندية. واللغة التركية من الفصيلة التركية، ومنها لغة التتار، ولغة بعض جهات القوقاز، والتركية الحديثة (التى داخلتها ألفاظ كثيرة من لغات متعددة).
أما اللغة العربية فهى مجموعة خاصة بنفسها تتفرع إلى العربية الكلاسيكية والعربية الحديثة، وأصلها اللغة الحميرية (وهى لغة قد إنقرضت).
عندما إجتمع المجلس الصهيونى الأول، بجهود تيودور هرتزل الصحفى النمساوى (1860 – 1904)، فى مدينة بازل بسويسرا يوم 29/8/1887، تم الإتفاق على إنشاء دولة إسرائيل. وقد كان ثمّ عرض بإقامتها فى أفريقيا أو فى أمريكا اللاتينية، غير أن الرأى إستقر على إنشائها فى فلسطين، وإتخاذ القدس عاصمة لها، لإضفاء مشاعر وجدانية عليها وربط اليهود المعاصرين بالتاريخ اليهودى العام، وبالشريعة المسيحية التى تتخذ من التوراة كتابا لها فتضمه إلى الأناجيل، وتجعل من التوراة العهد القديم وتسمى الإنجيل العهد الجديد. بهذا وصل اليهود المعاصرين أنفسهم بالتاريخ اليهودى القديم، كما أنهم أوجدوا روابط دينية بينهم وبين المسيحيين جميعاً.
عندما حدث الخروج (Exodus) من مصر، كان خروجا للأمير المصرى موسى (الذى نـُطق اسمه موشى ثم موسى) حاكم منطقة جاسان ببعض المصريين، الذى كونوا جماعة لاوى (اللاويون) بقيادة هارون أخ موسى، وصاروا كهنة بنى إسرائيل، مع عدد من العبرانيين الذين كانوا يقيمون فى أرض جاسان على حواف المنطقة الشرقية بالدلتا، نظراً لأن المصريين كانوا يرون أن الرّعاة أنجاس، فلا يسمحون لهم بالإقامة بينهم أو التعامل معهم (وهى حقيقة ينبغى إعادة تفسير قصّة الخروج التى وردت فى التوراة على أساسها). ولم تكن للخروج أى أهمية لدى المصريين، ولا كانت بالضـّجة التى تصورها التوراة، وإلا لكانت قد أثبتتها أو حتى أشارت إليها السّجلات المصرية التى كانت حريصة على إثبات كل حدث مهم، وأى واقع غير عادىّ.
وفى الخروج حدثت وقائع معينة، لابد من الإلتفات إليها لبيان واقع الأمر وما تطرق إليه وتسلسل به حتى العصر الحالى.
(أ) خروج العبرانيون (الذين أصبحوا بنى إسرائيل) من مصر رغما عنْهم، وفى معارضة منهم لرغبة موسى، مما يقطع بأنهم لم يكونوا مستعبدين أو مضطهدين. “قالوا لموسى هل لأنه ليست قبور فى مصر أخذتنا لنموت فى البرّية. ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر. أليس هذا هو الكلام الذى كلـّمناك به فى مصر قائلين كفّ عنا فنخدم المصريين، لأنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت فى البرية” خروج 14 : 11 – 13. ” فتذمر كل جماعة بنى إسرائيل على موسى وهارون فى البرية. وقال لهما بنوا إسرائيل ليتنا متنا بيد الرب فى أرض مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللـّحم نأكل خبزا للشبع. فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكى تميتا كل هذا الجمهور بالجوع” خروج 16 : 2 – 3.
(ب) قطع الرب العهد مع موسى فنسخ بذلك أى عهد سابق (مع إبراهيم أو مع يعقوب الملقب إسرائيل.. أى يسر إسم أوزير الأصلى + إيل وهو إسم الله فى اللغات السامية)، ذلك أن موسى قال لتابعيه “الرب إلهنا قطع معنا عهد فى حوريب. ليس مع آبائنا قطع الرب هذا العهد بل معنا نحن الذين هنا اليوم جميعاً أحياء” تثنية 5 : 2 – 3.
(ج) أن الرب أعلن إسمه إلى موسى ولم يعلنه إلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب، مما دعا البعض إلى أن يقرر أن الرب الذى ظهر لموسى هو غير الرب الذى ظهر للآخرين “ثم كلم الله موسى وقال له أنا الرب. وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب بأنى الإله القادر على كل شىء.واما باسمى يهوه فلم أُعرف عندهم” خروج 6 : 3 – 4 ؛ هذا مع ملاحظة أن يهوه تكتب فى الأصل حروفاً متفاصلة ى هـ و ه، وهو إسلوب مصرى.
وإلى جانب ذلك، فإن سرجون الملك الأشورى فتح السامرة عاصمة إسرائيل (فى الشمال) وإستولى على مملكة يهوذا (فى الجنوب) حوالى 725 ق.م، ونفى اليهود، مما أدى إلى تشتت قبائلهم الأثنى عشر، ففقدت منهم عشر قبائل (أسباط، أمم ) وبقيت قبيلتان. وإنضمت قبائل أخرى لليهودية أهمهم قبائل الخزر التتارية، وبذلك لم يعد اليهود هم نسل إسرائيل (يعقوب)، لكنهم صاروا من يعتنقون ثقافة أو أكثر من ثقافات اليهود المتعددة.
اليهود المعاصرون إذن ليسوا هم بنو إسرائيل المذكورين فى التوراة. وبنو إسرائيل الذين خرجوا مع الأمير المصرى موسى قاوموا الخروج وعارضوه وآذوا موسى بسببه كثيراً. والعهد الذى يقال إن الرب قد قطعه مع إبراهيم قد نسخه العهد الذى قـُطع مع موسى والذين معه عند جبل حوريب.. وهكذا.
كل هذا معلوم ومعروف لليهود المثقفين، ومنهم من حضر المجلس الصهيونى الأول، والثانى (29 أغسطس 1997)، والذين يقال إنهم مُلحدون، والحقيقة تعنى أنهم لا يؤمنون بصورة الإله الرب المبينة فى التوراة، والتى تجعله أقرب إلى الجنىّ منه إلى الإله للأكوان وللإنسان، كما أنهم لا يؤمنون بما ورد فى التوراة عن الشعب المختار أو عن أرض الميعاد أوعن إقامة الهيكل، لكنهم خلطوا التراث الشعبى بالإضطهاد العنـْصرى بالآمال المتوقعة ليقيموا أيديولوجية محورها العبارة التى كان يرددها كل يهودى إلى غيره من اليهود، فى أى مناسبة أو إحتفال، حيث يقول (العام القادم فى أورشليم).
saidalashmawy@hotmail.com
* القاهرة