أُطلقت على الإنسان أوصاف كثيرة، فقيل إنه حيوان ناطق (Rational being)، وإنه إنسان عاقل (Homo sapiens)، وإنه إنسان صانع (Homo creator )، وغير ذلك من أوصاف، إلا أن أقربها إلى الحقيقة وأدناها إلى الواقع أن يوصف بأنه إنسان له تاريخ (أو حيوان ذو تاريخ ). فالحيوان، كل حيوان، والطيور، كل طير، هو الآن وفى العصر الحالى مثل مثيله من عشرة قرون مضت، أو مائة قرن خلت، أو آلاف القرون التى انقضت، يمكن – على سبيل الافتراض – أن يوضع هذا مكان ذلك فلا يحدث فارق ولا يقع تغيير؛ لأنه بلا تاريخ، فلا يختزن الحوادث ولا يُراكمْ الخبرات ولا يتوارث التجارب، إذ هو يتصرف وفقا للغرائز (Instincts)، وهى واحدة ثابتة لدى كل نوع من هذه المخلوقات، حشرات، أو طيور، أو زواحف، أو حيوان. أما الإنسان فإنه يتميز بخاصية التاريخية (Historicism) التى تجعله، بحسب الأصل، يستفيد من تجاربه وتجارب الجنس الإنسانى كله، ويراكم خبراته وخبرات البشرية جميعاً، ويختزن الحوادث التى تقع له وتقع على مدى التاريخ وعلى مدار المسكونة، بحيث يكاد الإنسان أن يتغير من عصر إلى عصر تبعاً لما يضاف إلى التراث من حوادث وخبرات وتجارب. فإنسان العصر الحالى مختلف إختلافا كيفيا عن إنسان القرن الماضى، الذى يختلف بدوره عن إنسان قرون خلت. وهكذا ؛ إلا إذا إستطاع فرد أو مجتمع، بعملية بتر (Amputate) أن يقطع نفسه من التاريخ، وأن يفصم نفسه من الواقع، وأن يفْصل ذاته عن أى تجربة أو خبرة أو حادث. فإذا فُـرض ونجح فى عمله هذا، فإنه لا يعود إنساناً، ولا يعد بشرا ولا يدخل فى نطاق التاريخ، ولا يصير فى مجال الناس، ولا يعتبر فى عداد الأحياء.
ميزة الإنسان إذن، أنه ممثل لتاريخ البشرية، فى حيوية وإنفتاحية وفاعلية، يوجد فيه التراث الإنسانى، وينمو به هذا التراث ويتواصل. ولا يكون التراث لدى الفرد أو الأمة مجرد طبقات (Layers) متراصة، لأن معنى تراص الطبقات الحضارية أو التراثية أن تكون كل طبقة (Layer) منفصلة عن غيرها متميزة عما سواها، وهو أمر يصْدق فى الأوضاع المادية حيث يؤدى التطور الچيولوچى إلى وجود طبقات متراصة، تمثل كل طبقة منها نتاج عصر معين، غير أن ذلك لا يصلح فى المجالات الحيوية، شأن الحياة الإنسانية، حيث تتمازج التجارب وتتخالط الأحداث وتتراكب الخبرات، بصورة كيفية، وليست بمجرد إضافات كمية، فينشأ عنها فى كل لحظة ومع كل حدث وبعد كل خبرة وإثـْر إى تجربة، أمر جديد تماماً ؛ يضم كل عناصر الماضى والحاضر، لكنه يداوم الإختلاف ويُدائب التغيير ويواصل التجديد.
فى أحد تعريفات الحضارة أنها تراكم المعرفة ثم إنتشارها (والتراكم هنا لا يفيد المعنى المادى المحض الذى هو مجرد تكويم). ومن هذا التعريف للحضارة يمكن القول بأن التراث هو التراكم (غير المادى) للثقافات والعادات والممارسات والتقليديات.
ولفظ التراث لم يكن يوجد أصلا فى اللغة العربية التى كانت تعبر عن مفهوم التراث بلفظ الإرث أو الورث. وفى ذلك روى عن النبى (صلعم) أنه قال: اثبتوا على مشاعركم (شعائر الحج) هذه، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم. وقيل فى ذلك إن الإرث أصله من الميراث، إنما هو ورث، فـُقلبت الواو ألفا مكسورة. فكأن معنى ما روى عن النبى: إنكم على بقية من ورث إبراهيم الذى ترك الناس عليه بعد موته (وهو ما يعبَّر عنه حالا بلفظ التراث).
وفى معنى الإرث بمفهوم التراث يقول الشاعر:
فإن تك ذا عز حديث فإنهم
لهم إرثُ مجد، لم تخنـْه زوافره
ويقول آخر:
ولقد توارثنى الحوادث واحدا
ضَرَعا صغيرا، ثم لا تعلونى
يقصد بذلك أن الحوادث تتداوله، كأنها ترثه هذه عن هذه.
وفى القرآن الكريم ورد لفظ التراث بمعنى ما يخلفه الميت لورثته (وتأكلون التراث أكلا لمّا) سورة الفجر 89:19. وتطور المعنى بعد ذلك ليشمل مجموع الآراء والأنماط والعادات الثقافية والحضارية التى تنتقل من جيل إلى جيل فيقال فى هذا المعنى: التراث الثقافى، التراث الشعبى، التراث الإسلامى… وهلم جرا.
من الأصوب إذن، ألا يُستعمل فى وصف الحضارات والثقافات والتراثات لفظ الطبقات (Layers) أو لفظ الرقائق (Laminas، Flakes)، لأنها لا تتراصّ بعضها فوق بعض أو تُكوّم بعضها جنب بعض، لكنها تتداخل وتتفاعل وتتمازج وتتشابك وتتراكب وتتخالط وتتعاصد وتتطابخ، لتقدم تكوينا كيفيا لا تتفاصل فيه طبقة عن طبقة ولا تتعازل فيه رقيقة عن رقيقة، ويظل التكوين يتغير تغيرا كيفيا ويتبدل تبديلا نوعيا ويتعدل تعديلا ذاتيا، فى كل لحظة ومع كل تجربة ولدى أى حركة. مثال ذلك أنه إذا ما قام دارس واع خبير بدراسة الثقافة المصرية الحالية فسوف يجد فيها عناصر فرعونية وهلّـّينية (من العصر اليونانى والرومانى) وقبطية واسلامية، يصعب إن لم يكن من المستحيل على غير الخبير المدقق والعالم المحقق، أن يتبين هذه العناصر أو يتعرف على أصولها، لأنها تناسجت فى نسيج واحد وتصابغت بصبغة موحدة. كذلك فإن من يدرس الثقافة الشامية (فى سوريا ولبنان والأردن وفلسطين)، بذات الأسلوب العلمى ونفس المنهج التحليلى، سوف يلحظ فيها عناصر فينيقية وكنعانية وأدومية وعبرية ومسيحية واسلامية، وهكذا دواليك فى كل ثقافة وفى أى تراث.
مسالة التراث غالبا تكتسب شحنات وجدانية عالية وتنطوى على مشاعر عاطفية ملتهبة لأنها تتصل فى جانب بالموروث الدينى، وتتصل فى جانب آخر بالموجود الوطنى وتتصل فى جانب ثالث بالمعروف القبلى. وهذه المشاعر العاطفية وتلك الشحنات الوجدانية، تعسّر أى تحليل علمى ولا تيسر أى فهم سليم. ومع هذا فلا مناص من التعرض لهذه المسألة، فى وجهها المكانى ووجهها الزمانى، حتى يمكن تفهم أصلها ومدلولها، وتتبع أثرها ونواتجها.
ثَمَّ نظرية سياسية ترى – فيما يتعلق بالتراث العربى – أنه يشمل كل البلاد التى أصبحت عربية بالثقافة، بل وتمد الشمول فى رجعية إلى الماضى البعيد، لتعد كل هذه البلاد عربية منذ بداية التاريخ. ويعنى ذلك أن مصر الفرعونية وبلاد ما بين النهرين (بابل وآشور وكلدانيا) وبلاد الشام الفينيقية والكنعانية والأدومية وغيرها وغيرها، تـُعدّ بلادا عربية منذ فجر التاريخ، بما يتأدى إلى أن يكون مينا (3200ق.م) وامحوتب (ح 2780ق.م) واخناتون (1369-1353 ق.م) ورمسيس الثانى (1290- 1224 ق.م) وتحتمس الثالث (1490- 1436ق.م) وغيرهم من الفراعنة عربا، وكذلك يعد حمورابى (ح 1700ق.م) ونبوخذ نصر (ت 562 ق.م) وسنحاريب (705 – 987 ق.م) وغيرهم وغيرهم، عربا منذ الأصل. ويلزم عن ذلك أن تعد اللغات الهيروغليفية والآرامية والكنعانية والقبطية وغيرها وغيرها لغات عربية معنى ومبنى.
ويؤخذ على هذه النظرية أنها تـُغرق فى الأيديولوچية التى تقضى على اى منطق علمى واى مبحث سديد ؛ ثم تقسر اسلوبها الايديولوجى على التاريخ كله كما تقهر الواقعات على أن تتـّبع قواليها غير السليمة.
هناك تقسيمان لعرب شبه الجزيرة العربية:-
ففى التقسيم الأول: عرب عاربة (وهم قبائل عاد وثمود وطسم إلى آخر ذلك) وقد بادوا جميعاً. وعرب متعربة (وهم اليمنيون القحطانيون) يُعدون عرباً من الدرجة الثانية ؛ وعرب مستعربة (وهم العدنانيون) ويعتبرون عربا من الدرجة الثالثة.
وفى التقسيم الثانى: عرب عاربة اليمنيون القحطانيون (وهم عرب من الدرجة الأولى)، وعرب مستعربة، وهم العدنانيون (وهم عرب من الدرجة الثانية).
يعنى ذلك أن العدنانيين الذين أقاموا فى مكة وما حولها، هم فى التقسيم العربى، عرب من الدرجة الثالثة، أو – فى أحسن تقدير – عرب من الدرجة الثانية. وهذا التقسيم، أو النظر من العرب العادية أو العرب المتعربة (اليمنيون القحطانيون) إلى غيرهم من العرب المستعربة (أى لم تكن عربا بحسب الأصل وإنما استعربت أى صارت عربا) وهم العدنانيون، وردَّ الفعل عليه، هو الذى أوجد صراعات متصلة بين القسمين، امتد منذ عهد ما قبل الإسلام، واشتد خلال الإسلام، حتى حكم التاريخ الإسلامى فى أغلب عصوره.
وفى هذا التقسيم العلمى المستقر للعرب، لا يوجد مكان فى العروبة لغير أبناء شبه الجزيرة العربية، والقبائل العربية (الغساسنة) التى كانت فى شمال شبه الجزيرة، إلى الجنوب من الشام، وكذلك القبائل العربية التى كانت فى شرق شبه الجزيرة إلى الغرب من بلاد فارس والتى كونت مملكة الحيرة ؛ هذه وتلك كانت قبائل عربية من عرب شبه الجزيرة، العرب المستعربة، ثم نزح بعضها إلى الشرق وبعضها الآخر إلى الشمال.
عندما انتشر الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية،إلى بلاد الشام ومصر وفارس وشمال افريقيا، نشأت عروبة ثقافية تجمع البلاد العربية الحالية، ما يقع منها فى شبه الجزيرة العربية والمسماة بالدول الخليجية حالا، والعراق، ومصر، وسوريا ولبنان، والأردن، وفلسطين، بالإضافة إلى بلاد المغرب العربى ليبيا وتونس والجزائر والمغرب (ومورتيانيا) والسودان. فهذه البلاد صارت عربية بالثقافة، لكنها ليست عربية بحسب الأصل. ذلك أن القرآن الكريم هو أساس الإسلام، وهو كتاب عربى (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً) يوسف 12: 2، (وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) النحل 13: 103.
وقد صار القرآن هو عماد ثقافة البلاد الإسلامية، كما صارت لغته العربية هى لغة البلاد العربية المذكورة، فى حين أن بلاد فارس (إيران) وتركيا، تمسكت كل منها بلغتها الأولى، ومن ثم لم تصبح عربا، أو تدخل ضمن العروبة الثقافية.
أما عن اللغات التى كانت مستعملة فى البلاد العربية قبل الإسلام فهى لم تكن العربية قط،
إلا فى شبه الجزيرة العربية (البلاد الخليجية). وفيما خارج هذه المنطقة كانت توجد اللغة المصرية القديمة (التى كانت تكتب بالهيروغليفية ثم بالديموطيقية والهيراطيقية) ثم اللغة القبطية (وهى المصرية القديمة تكتب بحروف يونانية، مع إضافة سبع حروف يونانية)، واللغة الكنعانية (التى نشأت منها اللغة العبرية) واللغة الفينيقية واللغة الآرامية، وغيرها. وهذه اللغات ليست عربية، بل ولا تتصل باللغة العربية بسبب. فاللغة المصرية القديمة والقبطية من مجموعة اللغات الحامية السامية (حوالى 6000 ق.م) واللغة العبرية من مجموعة اللغة الكنعانية (1100 ق.م) واللغة الأكادية مجموعة وحدها (2000 ق.م)، واللغة الآرامية مجموعة وحدها كذلك (9000 ق.م) نشأت منها السوريانية والآرامية الغربية. أما اللغة العربية فمجموعة مغايرة نشأت منها اللغة الحميرية والعربية الكلاسيكية (وقد بادت واندثرت) والعربية الحديثة (وقد نشأت فى غموض لم يكشف عنه التاريخ بعد، واكتملت قبل قرن من ميلاد النبى، تقريبا). هذا البيان العلمى يقطع بعدم صحة المزعوم الايديولوچى والموهوم الدعائى الذى يرى أن كل لغات منطقة الشرق الأوسط تندرج تحت لغة واحدة هى اللغة العربية، فى حين أن الثابت علميا والصحيح واقعيا أن اللغة العربية الحالية هى أحدث لغة من لغات الشرق الآوسط، كما أنها من مجموعة تختلف عن مجموعات غيرها من اللغات كالهيروغليفية والآرامية والعبرية وغيرها.
ذلك المزعوم الأيديولوچى والموهوم الدعائى لابد أن يفضى إلى مناقضة ومعارضة. فشموليته وإطلاقه لا بد أن تعنى أن اللغة العبرية لغة عربية، وأن الثقافة العبرية، والشريعة اليهودية قسم من الثقافة العربية ورافد من اللغة العربية، وهى مناقضة غريبة ليس لها أساس علمى أو سند واقعى، ولا يوافق عليها العرب ولا يرضى بها اليهود، وهى – فى كل الأوضاع – مناقضة لمنطق التاريخ معارضة لواقع الحال.
وقد كان يمكن فهم هذا الإلحاح على الخطأ والإصرار على الجنوح لو أن القصد منه كان يتجه إلى مزج كل تاريخ العالم العربى منذ القدم، ونزج كل ثقافات المنطقة عبر التاريخ ؛ لكن ذلك أو ذلك لم يحدث، وإنما وقع ما هو مخالف له تماماً، مجانب له كلية. ذلك بأن التأكيد الأيديولوجى والتخريج اللاعلمى ينتهى فى غايته إلى أن يقطع من تاريخ المنطقة كل ما هو قبل الإسلام من ثقافات ولغات وتراثات، ويفصم جميع ما كان يسبقه من حضارات وشرائع، ويفصل أى تاريخ لها وأى واقع لديها. فغالب الناس فى منطقة الثقافة العربية حالا (حاليا) يجهلون ويرفضون، بل يستنكرون، الحضارات والثقافات السابقة على الإسلام فى المنطقة، مثل الحضارة المصرية والحضارة البابلية والحضارة الأشورية والحضارة الفنيقية وغيرها؛ هذا فضلا عن رفضهم القاطع للثقافة العبرية بكل عناصرها المعتقدية والتاريخية والأيديولوجية.
وفى التركيز على الثقافة الإسلامية والتأكيد على الهُوية العربية، فإن العرب جميعاً – فى عروبتهم الثقافية – يقفون عند الفترة الاولى وينحبسون فى المرحلة البدائية من التاريخ، حيث مرحلة ما قبل الإسلام (المسماة بالعهد الجاهلى) ثم فترة جيل واحد من تاريخ الإسلام. فهمْ فى هذه المرحلة وتلك الفترة، يقفون ولا يبرحون، يمسكون ولا يتقدمون ؛ كأنما التاريخ قد وقف والزمان قد سكن والوجود قد خفت والحياة قد إنتهت.ولا تجديد بعد ذلك، ولا إبداع يليه، ولا إنشاء يعقبه ؛ إنما هى نماذج سابقة تُحتذى وقوالب سالفة تـُتبع. الشعر لم يزل فى قالب القصيدة، وفى نموذج العامود، وربما فى ذات المعانى والعبارات السلفية. فيما عدا بعض التجديد فى المعانى وفى التعبير وفى الأسلوب، يظهر واضحا فى شعر شوقى (مثل المعانى المستحدثة فى قصيدة مصاير الأيام) والتعبير الذى تأثر بالإطلاع على الشعر الفارسى والهندى والإنجليزى والفرنسى، وصياغة الرواية الشعرية، على النمط العربى، مثل رواية مجنون ليلى ومصرع كليوباترا وغيرها، وهو تجديد لم يزل فرديا ولم يهز أسس التقليدية أو يقوض دعائم السلفية. وفى الموسيقى لم يزل قالب الأغنية (والدور) هو السائد حتى الآن، وهو عبارة عن جملة موسيقية واحدة (مثل نصف بيت من القصيدة) هى الأساس الغالب على الأغنية، فيما عدا بعض التجديد الذى قام به سيد حجازى وعبده الحامولى ومحمد عثمان وسيد درويش ومحمد عبد الوهاب فى الأغانى والموسيقى الشعبية، وما يقوم به موسيقيون آخرون فى نطاق التأليف التركيبى (السيمفونى) وهى مجهودات فردية كذلك تعمل جاهدة على خلق مناخ جديد وإيجاد ثقافة مستحدثة لكنها تسبح ضد تيار عنيف من التقليدية والسلفية يجرف أغلب الناس.
وفى أوروبا لم يحدث ذلك إطلاقا، وإنما كان التغيرّ والتبدل والتقدم والنمو هو لُحمة وسدى كل عمل وكل فن. فبعد العمارة الأغريقية (1000 ق.م – 146 ق.م) ظهرت العمارة الهلينيسنية (400 – 300 ق.م) بعناصرها الجديدة وزخارفها المعقدة وإتجاهها نحو العناية بتخطيط المدن، ثم ظهرت العمارة البيزنطية (330م) وتبلورت طرزها فى راقينا والقسطنطينية ثم امتدت إلى خارجها، وهى ذات الأساليب الرومانية تعدلت باستعمال اللون فى الخامات والعناصر الزخرفية التى أُدخلت عليها عناصر شرقية (كما يبدو فى كنيسة سان مارك بالبندقية) وغلبة الزخرفة (كما يظهر فى كاتدرائية موسكو). وتلى ذلك ظهور العمارة الرومانية (1100 – 1300م) وهى تتميز بالعودة إلى القباب المدببة الذى سرعان ما تحولت إلى الطراز القوطى بخصائص معينة، فأقيمت على نمطه مبانى شهيرة مثل كنيسة كلونى فى فرنسا والكاتدرائية بألمانيا. أما الطراز القوطى ذاته فقد بدأ منذ القرن الثانى عشر واستمر حتى بداية عصر النهضة. وقد استـُخدم الإصطلاح أصلا للإشارة إلى ضرب من الأبنية اعُتبر همجيا (على أساس أن القوط الوندال شعوب همجية حطمت روما مركز الحضارة الكلاسيكية)، وتميز الطراز القوطى بالقباب والأقواس المدببة (التى أُخذت أصلا من الشرق الأوسط). وأقدم مثال للطراز القوطى الكامل كنيسة نوتردام بباريس (1163 – 1230). وفى عصر النهضة – اعتبارا من القرن الخامس عشر – انتهى الطراز القوطى وقامت ثلاث مراحل للعمارة:
المرحلة الباكرة، ثم المرحلة الكلاسيكية (1500 – 1580) ثم المرحلة الأخيرة أو عصر الباروك والروكوكو (1580 – 1780).
وفى الموسيقى إختط الموسيقيون خطاً آخر غير الموسيقى الشعبية، فبدأوا منذ القرن التاسع فى إتباع أسلوب التركيب (Construction) الذى يقوم على المزاوجة بين لحنين أو أكثر (Polyphony)، ثم أوجدوا قوالب متعددة للتعبير الموسيقى، خلافا للأغنية الشعبية. فقدموا قالب الأغنية الراقية (Lyric)، والافتتاحية، والسيمفونية، والسوناتا، والكونشرتو، والرباعيات وغيرها ؛ هذا بالإضافة إلى وجود الأوبرا الإيطالية التى تعتمد أساسا على الغناء، ومن أعلامها ڤردى وبوتشينى، والأوبرا الألمانية التى تـُعنى أكثر بالموسيقى وهى تنسب لڤاجنر. ويضم التراث الموسيقى الغربى العصر الكلاسيكى (1750 – 1820) ثم العصر الرومانسى (1820 – 1900). وبينما تقوم الموسيقى التركيبية على التوافق أو النشاز بين الألحان، قدم آخرون، منهم جروشوين، نماذج للتركيب بين الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الجاز (الأمريكية الأصل).
وفى الآدب، وبعدما بدأ الأوربيون يعبرون فى لغاتهم الأصلية الوطنية، بدلا من اللأتينية، أوجدوا أشكالا متعددة للتعبير الأدبى، مثل الرواية والقصة، والقصة القصيرة والمسرحية (التى كانت قد أكتملت لدى الأغريق فى القرن الرابع ق.م على يد يوربيدس وسوفوكليس)، كما أوجدوا فى نطاق كل قالب من هذه أشكالا متنوعة متغيرة. وفى الشعر وُجدت القوالب التعبيرية العادية، وإلى جانبها السونيت (Sonnet) والأنشودة، مثل انشودة الملاح القديم لصموئيل كوليردچ، والمسرحية الشعرية التى ازدهرت على يد شكسبير، إلى غير ذلك.
وحتى فى المنطق والهندسة لم يقفهم التراث ولم يغلـّهم التاريخ، وإنما أوجدوا إلى جانب الهندسة الاقليدية، هندسة ريمان، وهى صياغة مخالفة تماماً. كما أوجدوا إلى جوار المنطق الصورى الذى صاغه أرسطو (384 – 322 ق.م) المنطق الرياضى (ليبنتز وبرتراندرسل) والمنطق الذرى.
هذا نهج سديد لفهم التراث والتعامل معه. فالتراث ضرورة لكى تبدأ الجماعة من غير فراغ، لكنه لا ينبغى أن يكون حائلا دون التقدم مانعا من التطور.
ولا شك أنه من الخطأ البين، ومن حوائل التقدم وموانع التطور، أن تظل الأمة العربية جامدة لا تنمو واقفة لا تتحرك، عند بداياتها الأولى، فلا تفتأ محكومة بأساليب وأنماط الشعر الجاهلى، مربوطة بنظام وشكل الحداء البدائى ؛ هذا فضلا عن انحباسها فى ظروف الفتنة الكبرى وانحصارها فى الصراعات والشعارات والسياسات التى نبعث منها وصدرت عنها، لا تنفك عنها ولا تنفلت منها.
إن الفهم الصحيح للتراث أن تعد كل الثقافات والحضارات واللغات التى كانت فى المنطقة العربية ثم بادت منها، قبل ظهور الإسلام أو بعده، ضمن التراث الخاص بالمنطقة العربية كلها، بغير أن تـُقهر على الاصطباغ بالعربية أو تقسر على اعتبارها من روافدها، مع أنها مجار كاملة ونـُهر شتى، كانت قبل العربية، ولم تكن روافد لها. وعندما يستقيم الفهم على هذا الوضع يمكن إنتخاب ما يصلح من هذا التراث لمناسجته بالثقافة العربية المعاصرة ومضافرته بالجهود الإنسانية الحالية، على أن تعاد صياغة هذه الجهود وتلك الثقافة على أسس من ضرورة التقدم ولزوم النمو واعتناق المفهوم الصحيح للتراث، بأنه ليس فترة واحدة أو حالة جامدة، لكنه فترات مستمرة على مدى التاريخ وحالات متواصلة فى المجال الإبداعى.
saidalashmawy@hotmail.com
القاهرة
معنى التراث
المقال ما شاء الله جميل ونتمنى لك ان تكون فى تقدم دائم
معنى التراث
جميل هذا المقال ولكن اريد ان استفهم شى كيف تقول أن ميزة الإنسان إذن، أنه ممثل لتاريخ البشرية، فى حيوية وإنفتاحية وفاعلية وسيادتكم كنت تقول أن الله خلق الإنسان ليخلق به عفوا سيدى المستشار اريد أن اعرف فقط ولكنى على علم بأن كل ما تكتبه صحيح ولكن سؤالى هذا للعلم فقط اننى اعلم ان الله خلق الانسان لكى يتكاثر ويعيش فى الارض
وشكرا سيدى نريد اكثر واكثر من هذه المقالات فى هذا الموقع الجميل الذى يمتعنا بهذه المقالات
معنى التراث
قرأت الكثير عن العشماوى فوجدت انه أفضل مفكرى الوطن العربى تحية تقدير لهذا الشخص ودام للوطن العربى أما كونه كمستشار فأنه كان له تأثير كبير وحقيقى نعم رجل القانون الشريف الذى حما الكثير والكثير حماك الله وأعطالك كل ما تتمناه فى رعاية الله
معنى التراث
السيد المستشار العشماوي:
تحية إكبار واحنرام ..
لك كل الشكر على هذا الجهد المستنير، فأنت بحق واحد من أعظم مفكري هذا الوطن.
مع خالص محبتي واحترامي لشخصكم الكريم
سمير راغب