ليس من السّهل الحديث
عمّا تواجهه “الشّعوب” العربيّة في هذا العصر. المسألة عويصة لأنّ كلّ ما يدور من حديث في هذه القضايا السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة المتعلّقة بالعالم العربي والمجتمعات العربيّة في هذه الأيّام إنّما هو مستعار من مصطلحات ومفاهيم أجنبيّة ذات دلالات مختلفة، بل وقد تكون إشكاليّة فيما يخصّ دلالاتها وسياقاتها في المفهوم العربيّ. الحقول الدّلاليّة للمفردات والمصطلحات تنبني من خلال تراكمات حضاريّة تحصل على مرّ القرون والدّهور. فعندما نستعمل في العربيّة مصطلح “أُمّة”، كأن نقول مثلاً “الأمم المتّحدة” ترجمة للمصطلح الإنكليزي المعروف، فإنّما المقصود هنا ليس أممًا، بل هو دُولٌ في مفهوم العلوم السّياسيّة كما يُعرّفها القانون الدّولي. فالدّولة هي كيان سياسي، بينما الأمّة هي شيء آخر مختلف تمامًا قد يتخطّى هذه الحدود الدّوليّة المتعارف عليها. وبكلمات أخرى، فهذا يعني أنّ الدّول العربيّة الأعضاء في منظّمة “الأمم المتّحدة”، هي في الحقيقة ليست أممًا بالمرّة، إذ لا يوجد أمّة كويتيّة أو أمّة ليبيّة أو أمّة لبنانيّة على سبيل المثال رغم كونها أعضاء في “منظّمة الأمم المتّحدة”، وإنّما هي كيانات سياسيّة ناشئة بعد اندثار العثمانيّين وانحسار الاستعمار لاحقًا، كغيرها من الدّول. كذا هي حال يوغوسلافيا سابقًا قبل أن ينفرط عقدها، وكذا كانت حال الاتّحاد السوفييتي قبل أن يتفرّق هذا الكيان أيدي سبأ، أو أيدي فولغا تحديدًا.
فإن لم تكن هذه الكيانات العربيّة أممًا،
فهل هي شعوب؟ وعندما نستخدم مصطلح شعب في سياق كهذا، فماذا نعني به أصلاً؟
من أجل الإجابة على سؤال من هذا النّوع حريّ بنا أن نعود إلى ما تعنيه هذه المفردات في لغتنا العربيّة. فاللّغة ليست مجرّد وسيلة اتّصال بين النّاس، إنّما هي جامعة للمفاهيم المتجذّرة في ذهنيّة أهلها. فلو عدنا للنّظر في دلالات هذا المصطلح في اللّغة العربيّة فماذا نحن واجدون؟ فها هو ابن فارس في معجم مقاييس اللّغة يُخبرنا: “الشين والعين والباء أصلان مختلفان، أحدهما يدلُّ على الافتراق والآخر على الاجتماع. ثمَّ اختلف أهلُ اللغة في ذلك، فقال قومٌ: هو من باب الأضداد وقد نصَّ الخليلُ على ذلك. وقال آخرون: ليس ذلك من الأضداد، إنّما هي لغات”. أي، لهجات قبليّة.
ليس هذا فحسب، بل إنّ مدلولات هذا المصطلح ليست واضحة المعالم، فها هو ابن منظور فيورد في اللّسان في مادّة “شعب”: “وهو أيضًا القبيلة العظيمة، والجمع شعوب… وقيل الشّعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب.” أي بكلمات أخرى لا ينطبق على العرب في هذا السّياق استخدام مصطلح شعب وشعوب لأنّ المصطلح خاصّ بالأعاجم، أي بغير العرب. وحتّى لو أخذنا بالمدلول الجامع للمصطلح شعب في المفاهيم العربيّة، فإنّنا نرى أنّه لا يتعدّى ذلك المفهوم القبلي المتجذّر، كما يقول صاحب الكشّاف: “الشّعب الطبقة الأولى من الطبقات الستّ التي عليها العرب. وهي الشّعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة. فالشّعب يجمع القبائل والقبيلة تجمع العمائِر، والعمارة تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائِل. فخزيمة شعبٌ، وكنانة قبيلة، وقُرَيش عمارة، وقُصَيّ بطن، وهاشم فخذ، والعبَّاس فصيلة. وسُمِّيت الطبقة الأولى شعبًا لأنّ القبائل تتشعب منها. وقد زادوا طبقةً سابعة وهي العشيرة يريدون بها بني الأب الأقربين، فتكون في هذا النسب المذكور بني عبد مناف.” (نقلاً عن: لسان العرب، أنظر أيضًا: البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور؛ أنظر أيضًا: تفسير النّسفي). أي أنّ مصطلح “شعب” يعني خزيمة في نهاية المطاف، ولا يعني مجموع قبائل العرب بعامّة. أو كما يذكر صاحب التّاج: “الشَّعْبُ: القبيلة العظيمة، وقيل: الحَيُّ العظيمُ يَتَشَعَّبُ من القبيلة، وقيل: هو القبيلة نَفْسُها والجمع شُعُوبٌ.” (نقلاً عن: تاج العروس)
“وَجَعَلْناكُم شُعوبًا وقبائلَ لتَعَارَفُوا”
وها هو القرآن أيضًا في سورة الحجرات يميّز بين الشّعوب والقبائل. غير أنّ الشّعب هنا أيضًا لا يتعدّى كونه دالاًّ على مضر أو ربيعة، كما يقول مقاتل وهو من أقدم المفسّرين:”وجعلناكم شعوبا – يعنى رؤوس القبائل، ربيعة ومضر وبنو تميم والأزد. وقبائل – يعنى الأفخاذ بنو سعد، وبنو عامر، وبنو قيس، ونحوه.” (نقلاً عن: تفسير مقاتل). أو أنّ مصطلح شعوب لا يخص العرب بل الموالي: “ويقال شعوبًا موالي، وقبائل عربًا.” (نقلاً عن: تنوير المقباس، المنسوب لابن عبّاس؛ أنظر كذلك: ابن الجوزي زاد المسير). وكما يذكر ابن جزي: “الشعوب جمع شعب بفتح الشين وهو أعظم من القبيلة وتحته القبيلة ثم البطن … فمضر وربيعه وأمثالهما شعوب. وقريش قبيلة وبني عبد مناف بطن وبنو هاشم فخذ … وقيل الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل.” (نقلا عن: ابن جزي، التسهيل لعلوم التنزيل، أنظر أيضًا: الشّوكاني، فتح القدير؛ إبن الجوزي، زاد المسير؛ إبن كثير، تفسير). مرّة أخرى نرى هنا أنّ القبيلة هي المصطلح المركزي في كلّ ما يتعلّق بالذهنيّة العربيّة. أو كما يذكر القرطبي في تفسيره: “والشعب: القبيلة العظيمة، وهو أبو القبائل الذي ينسبون إليه، أي يجمعهم ويضمهم.”
مهما اختلف المفسّرون في مدولولات مصطلح شعب، إن كان يعني قبيلة، أم فخذًا أم بطنًا أم شيئًا من هذا القبيل فهو لا يتعدّى النّسب في الذّهنيّة العربيّة، وبكلمات ابن عبّاس: “وجعلناكم شعوبا وقبائل – قال: الشعوب: الأنساب.” (نقلاً عن: تفسير الطّبري)، أو: “الشعب – الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد.” (نقلاً عن: تفسير البيضاوي). أي أنّ الإنتماء إلى الشّعب في حضارة العرب هو إنتماء بيولوجي وليس إنتماء إلى حضارة جامعة تتخطّى النّسب القبلي الأعلى، وبكلمات القشيري: “وعلى هذا، فالشعوب من لا يُعرف لهم أصلُ نسبٍ كالهند والجبل والترك. والقبائل – من العرب.” أو: “ويحتمل أن الشّعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب، والقبائل هم المشتركون في الانساب.” (نقلاً عن: تفسير القرطبي).
ومن هنا أيضًا جاء مصطلح “الشّعوبيّة”، والّذي يُنسب إلى الأقوام الأخرى من غير العرب. غير أنّه يُفهم خطأ في عرب هذا الأوان بوصفه حمل عقيدة عداء للعرب، وهو ليس كذلك. هذا ما نفهمه على الأقلّ من كلام القرطبي، إذ يذكر: “والشعوبية: فرقة لا تُفضّل العرب على العجم.” (نقلاً عن: تفسير القرطبي)، أي أنّ كلّ ما في أمر الشّعوبيّة هو عدم تفضيل العرب على غيرهم من سائر الخلق. فليس في عدم تفضيل العرب على العجم ما يفيد عداء للعرب، بل هو رفض لتلك النّظرة العنصريّة العربيّة تجاه الآخر، ليس إلاّ.
هل يستطيع العرب الخروج من الطّور القبليّ
والوصول إلى طور الشّعب كما نفهمه في هذا الأوان؟
ليس من السّهل الإجابة على هذا السؤال، على خلفيّة ما أوردنا هنا من مفاهيم عربيّة لهذا المصطلح. وإذا ما نظرنا إلى ما يجري حولنا من أحداث، وإلى حال هذه البقعة من الأرض المترامية الأطراف الّتي تتشكّل منها المجتمعات العربيّة، فلا يبدو أنّ هذه المفاهيم القديمة المتجذّرة في ذهنيّتها قد تغيّرت خلال هذه القرون الطّويلة. فلا الدّولةُ دولةً، ولا الأمّة أمّةً ولا الشّعب شعبًا.
من أجل الوصول إلى بناء شعب، هنالك حاجة إلى مدنيّة وإلى حواضر كاسرة للقبيلة، وبكلمات أبي رزين: “الشّعوب أهل الجبال الذين لا يعتزّون لأحد والقبائل قبائل العرب.” (نقلاً عن: ابن الجوزي، زاد المسير). أي أنّ عدم الاعتزاز لأحد، بمعنى عدم التّبنّي والنّهج بمنهج النّعرة القبليّة المتمثّلة بالاعتزاز بجدّ قبليّ هي الطّريق الّتي تفضي إلى تحوّل المجتمع من قبيلة إلى شعب. وحتّى هذه اللّحظة لم يخرج العرب بعد من هذا الطّور القبلي المغرق في القدم. وليست هذه الحواضر العربيّة حواضر بما تعنيه هذه الكلمة، إنّما هي حظائر جامعة لقبائل عربيّة متناعرة بنعرات خبيثة، محكومة بسيف الدّكتاتوريّات القبليّة بعثيّة كانت أم غيرها، بدءًا ببغداد والشّام وجزيرة العربان، وانتهاء بالمغرب والسّودان. كذا كان منذ قديم الزّمان وما بدّلوا تبديلا.
والعقل وليّ التّوفيق!
salman.masalha@gmail.com
* القدس