في الإتحاد السوفياتي، كانت الطبقة الحاكمة تسمى “النومينكلاتورا”، أي ما يعادل الحزب الداخلي أو الطبقة الحاكمة الحقيقية. أحد معضلات التاريخ الحديت، هو أن هذه الطبقة المستفيدة لم تحرّك أصبعاً للدفاع عن النظام السوفياتي في لحظة سقوطه. فهل تكون الطبقة الحاكمة الإيرانية أفضل حالاً؟
العنوان الأصلي لمقال “لوس أنجلوس تايمز” هو: دوائر النفوذ والسلطةالداخلية والخارجية في إيران. ويمكن مطالعته على صفحة “الشفاف” الإنكليزية.
المحيطون بخامنئي يتظاهرون بالاستماع إليه ويفعلون ما يحلو لهم >نجاد تخلص من روحاني ليجد نجمه في صعود > المصانع تستخدم لتعيين الأقارب
بيروت: بورو داراغاهي *
لم يتكلم المرشد الإيراني أخيرا بنبرة عاصفة باعتباره اعلى مرجعية دينية بل بنبرة متعبة لمدير أعمال يوبخ موظفيه على تقصيرهم.
وسبق للمرشد علي خامنئي أن أمر مساعديه للبدء بخصخصة مؤسسات الدولة: شركة الهاتف، وثلاثة بنوك وعشرات الشركات الصغيرة للنفط ومشتقاته. لكن مرؤوسيه تجاهلوا تنفيذ تعليماته لما فيها من سحب لمصادر قوتهم ونظام المحسوبية الذي يتبعونه.
وبعد مرور أشهر، بادر خامنئي إلى جمع نخبة البلد لحضور اجتماع فوق العادة. وكان الرئيس محمود أحمدي نجاد ووزراؤه حاضرين مع رئيس البرلمان ورؤساء المحافظات والوجوه القيادية في محطات البث الحكومي وفي غرفة التجارة الإيرانية.
قال خامنئي أمام الكاميرات للحاضرين إن عليهم أن يصدروا قوانين وأن يبيعوا بعض الشركات وأن ينجزوا ذلك بسرعة، «وأولئك المعادون لسياسات كهذه هم أولئك الذين سيخسرون امتيازاتهم ونفوذهم».
لكن النظام لم يبال بهذا الطلب. فمع حلول نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، كانت قد مضت تسعة أشهر على توبيخ المرشد لأتباعه المسؤولين بشكل علني. وبعد ما يقرب من عام ونصف العام على اصدار خامنئي لأمره لم يتحقق أيُّ شيء تقريباً. وحسب مجلة «ميدل ايست ايكونوميك دايجست»، فإن شركتين حكوميتين فقط من بين 240 تم بيعهما.
ولسنوات، ظل المحللون الغربيون يبذلون جهودا كبيرة لفهم الآلية التي تعمل وفقها القيادة الإيرانية. فللكثير منهم هي حكومة يسيطر عليها إلى حد كبير رجال الدين الشيعة. لكن سلطة رجال الدين بدأت تتقلص بشكل مستمر، بالمقابل راحت السلطة الموزعة ما بين النخب المتصارعة تتزايد، ضمن نظام معقد من التوازنات حسب قوانين دينية ومدنية وحسب العلاقات الشخصية وإيقاع عمل البيروقراطية.
ويسعى المحللون المتخصصون في شؤون إيران الى فهم اي المسؤولين يمتلك سلطة وحجم هذه السلطة. وحينما يبادر المسؤولون الإيرانيون بالإعلان عن امر ما أصبح غير واضح إن كان ذلك يعبر عن سياسة قائمة أو أنهم يتصارعون فيما بينهم ويتكلمون بالنيابة عن فئة ما ضمن جسم السلطة. وتنبثق دوائر النفوذ والسلطة من المرشد لتشمل رجال الدين والمسؤولين الحكوميين والعسكريين. وفي آخر الحدود، هناك رجال الميليشيا والتجار وكل هؤلاء يشكلون 15% من شعب إيران الذي يبلغ عدده 70 مليون نسمة. بل حتى الرجل الذي يعتبر في إيران يشغل أعلى منصب ديني في المذهب الشيعي يجد نفسه موضع تحدٍّ ومغلوباً على أمره.
يقول علي افشاري، المحلل والطالب الناشط سابقا، والذي يعيش حاليا في واشنطن، إن أولئك الذين هم داخل دائرة السلطة يعملون وفق قواعد فريدة. «انه ليس نظاما ديمقراطيا أو استبداديا بشكل مطلق، وهو ليس نظاما شيوعيا أو ملكيا أو ديكتاتورياً. إنه مزيج من كل هذه العناصر».
الأفراد المعنيون حسب منطق النخبة الحاكمة في إيران يمتلكون تعبير «خودي» أي «واحدٍ منا».
وهذه النخبة تقبل بأن يكون لخامنئي الحق المطلق في الحكم. في الأقل خارجيا، وهي تتبنى قيم رجال الدين الكبار، بل تلتزم بقواعد الملابس التي يفرضها رجال الدين: الرجل يرتدي قمصانا بيضاء ويزرر ياقته ويكون لون بدلته أسود أو رمادياً أو بنياً، ويشذب لحيته بعناية. أما النساء فيرتدين «تشادور» (عباءة) بقطعة واحدة، تغطي جسدها باستثناء يديها ووجهها.
قال ناشط سياسي إيراني: «في مجتمعنا هنا خط أحمر ما بين «خودي» وغير «خودي». فإذا لم تكن أبدا على الطرف الصحيح، الفاصل بينهما ذلك الخط، فإنك تعتبر مذنبا حتى تظهر العكس. وإذا لم تكن «خودي» (واحداً منا) فإنك لا تمتلك الحق في الانتقاد». ويشكل خامنئي ومستشاروه المقربون مركز بنية السلطة حيث يشرفون على قضايا الدولة المهمة بما فيها البرنامج النووي والسياسات المحلية. وفي كل يوم، يبعث مجلس الأمن القومي الأعلى الذي يعد مؤسسة التفكير الاستراتيجي للسلطة، عبر الفاكس بأوامره إلى الصحف ومحطات التلفزيون والمسؤولين الحكوميين. أما رجال الدين فيقومون بنشر هذه الأوامر في البيوت والمساجد. وتحيط بالمرشد الإيراني لجان قوية تتكون من عشرات من رجال الدين وكل منها تشكلت لغرض تعزيز الدور الرئيسي للدين في السياسة الإيرانية. ويختار مجلس الخبراء المرشد الأعلى. أما مجلس أمناء الدستور فيراجع القوانين والمرشحين للوظائف العامة.
وفي المرتبة العليا، يأتي قادة الحرس الثوري والقوات المسلحة وهم يعينون من قبل خامنئي، والرئيس المنتخب، والوزراء، والبرلمان، والقادة العسكريين الكبار الذين يتم اختيارهم من قبل المرشد ورجال الدين الكبار في مدينة قم.
وما وراء ذلك، يقوم رئيس الجمهورية باختيار رؤساء المحافظات والمسؤولين المحليين. وعند حافة «خودي» (الفئة التي تنتمي للنظام) هناك التجار ذوو الأواصر القوية بالنظام وأعضاء الميليشيات وملايين من المتطوعين الذين يشكلون الوحدات التي تضرب بواسطتها الحكومة أي نشاطات معارضة.
وضمن النظام، هناك اشخاص يحملون آيديولوجيات واجندات مختلفة بمن فيهم خريجو الجامعات الغربية وأولئك الذين كانوا ذات يوم ضمن دائرة استخبارات الشاه والذين احتاجهم الخميني للمساعدة في تدمير نظام الشاه خلال السبعينات من القرن الماضي دفاعا عن ثورته والوقوف في وجه هجوم الجيش العراقي خلال الثمانينات.
ومنذ البدء، حارب زعماء إيران حول الكيفية التي يتم وفقها توسيع دوائر السلطة وكم من المساحة المتوفرة للمعارضة.
بل حتى أولئك الواقعون خارج حدود السلطة، خصوصا بالنسبة لمن يمتلكون مراتب دينية عالية يستطيعون معارضة السلطة. وعلى الرغم من وجود قرار بتعليق رجم أولئك المدانين بجرائم أخلاقية، فإن قاضياً أمرَ في قرية تقع إلى غرب قرية من تاكيستان بقتل رجل رجما بالحجارة بسبب الزنا.
وبدلا من طرد المسؤول، قرر رئيس القضاة آية الله محمود هاشمي شارودي أن القاضي كان مصيباً: فإن الرجم هو في نهاية المطاف جزء من الشريعة.
وعلى الرغم من ان الناس العاديين لديهم حرية محدودة في انتقاد بنية السلطة، يقول محللون ومسؤولون في طهران ان مسؤولي المؤسسات الحكومية ينظرون بتلهف الى نتائج استطلاعات الرأي حول اداء زعمائهم ومواقف الايرانيين تجاه كل شيء من ازياء النساء الى تحقيق السلام مع الولايات المتحدة. ويخشى كثير من زعماء ايران من انتفاضة شعبية مثل تلك التي اطاحت بالشاه أو الحكومات الشيوعية في أوروبا الشرقية. وواحدا بعد آخر حاول القادة الايرانيون أن يتحكموا في هذا النظام وأخفقوا. وقال دبلوماسي غربي في طهران «هناك مراكز كثيرة للسلطة. والنظام معد بطريقة لا تسمح لأيٍّ كان بأن يهيمن بالكامل». وفي عام 1997، كان خامنئي يراقب الأمور بعجز عندما تغلب الاصلاحي محمد خاتمي على مرشح المرشد للرئاسة. وعلى الرغم من تفويضه السياسي، رشح الرئيس الجديد على الضد من سلطة الجيش والنخبة الدينية. وبعد أن وقعت حكومته عقدا مع تركيا لادارة مطار طهران الجديد قام الحرس الثوري باغلاق المطار، مما ادى الى تعطيل الصفقة واعاقة جهود خاتمي من أجل فتح البلاد أمام الاستثمار الاجنبي.
وبدا هاشمي رفسنجاني، الذي يترأس مجلس الخبراء، بديلا لخاتمي عام 2005. ولكن احمدي نجاد تغلب عليه.
ووجد أحمدي نجاد نفسه امام معارضة لمن عينهم بمن فيهم المفاوض الرئيسي بشأن برنامج ايران النووي. ورفض البرلمان كثيرا من خياراته.
وعندما انتخب احمدي نجاد رئيسا عام 2005 طرد حسن روحاني من منصب المفاوض النووي واختفى بعيدا عن الأضواء. ولكن بعد التخلص من روحاني أرغم احمدي نجاد على خصم له هو علي لاريجاني. وفي غضون ذلك كانت هناك عودة سياسية لروحاني.
وقال محللون انه على الرغم من سمعته كمعتدل نسبيا ربما افلح روحاني في أن يكسب تعاطف خامنئي عبر استغلال سمعة الرئيس باعتباره يشكل تهديدا محتملا لسلطة المرشد. وألقى خطابا انتقد فيه اسلوب احمدي نجاد الاستبدادي وبدأ بالظهور تدريجيا في الصفحات الأولى من الصحف الرسمية.
وفي الأسبوع نفسه، ألقى خامنئي خطابا قال فيه انه ما من أحد في الحكومة فوق النقد مما منع أحمدي نجاد من الهجوم على روحاني، وأدى الى عودة روحاني الى دائرة السلطة الداخلية في ايران. وعندما استقال لاريجاني هذا العام، عين الرئيس رجله سعيد جليلي مفاوضا نوويا في الأقل حتى عبَّر مستشار لخامنئي عن تذمره. وحضر جليلي ولاريجاني الجولة المقبلة من المفاوضات مع المسؤولين الأوروبيين. وتعين على احمدي نجاد إلغاء بعض الأوامر حول قضايا صغيرة نسبياً. ففي العام الماضي، مدد عطلة عيد الفطر وقلص وقت النهار. ولكن الناس تذمروا علنا من ارتباك الرحلات الجوية الدولية والعطل الكثيرة. وانحنى الرجل الذي تحدى رجال الدين أمام ضغوط الجمهور. وعاد التقويم مرة اخرى الى وضعه الطبيعي.
لا تفويض بشأن الاقتصاد وجد خامنئي انه حتى اذا ما اعتقدت بنية السلطة ان لديه تفويضا من السماء فانه لا يمكن أن يجعله يسري على الاصلاحات الاقتصادية.
وتحتاج ايران الى تحرير مليارات الدولارات من ميزانيتها لاستثمارها في صناعة النفط التي تعاني من المشاكل، والتي تشكل نصف مداخيل الحكومة. غير ان مئات المصانع الحكومية الخاسرة تستنزف الميزانية. وعلى الرغم من الأسعار العالية للنفط يتكهن البنك الدولي ان ايران ستواجه عجزا خلال عامين.
ويمكن أن تساعد الخصخصة على الحصول على أموال، ولكنها يمكن أن تعني انتزاع الرعاية المربحة من ايدي المؤسسات الدينية والعسكرية والبازار. وقال محسن سازيغارا، المسؤول الايراني السابق، وهو من نقاد النظام ويعيش في واشنطن حاليا، ان «خامنئي محاط حاليا بقوى المخابرات والحرس الثوري ووسائل الاعلام المتشددة. انهم يتظاهرون بالإصغاء الى أوامر خامنئي، ولكنهم يفعلون ما يحلو لهم».
ومنذ ثورة 1979 ظلت المصانع التي تملكها الدولة تستخدم كمراكز تجنيد وجمع أموال لرجال مليشيا «الباسيج» الذين يرتبطون بالحرس الثوري. وهي توفر وظائف لأقارب الموالين للحكومة. ويوفر أحد مصانع الألمنيوم في وسط طهران وظائف لأقارب المسؤولين المحليين في وزارة الاستخبارات والأمن، وفقا لما قاله اقتصادي من طهران. ومن المتوقع أن توفر المشاريع التي يريد ان يبيعها خامنئي في سوق الأوراق المالية ملايين الدولارات كل عام للأحداث السياسية والدينية كجزء من الماكنة الآيديولوجية للجمهورية الاسلامية. ووجد مديرو المصانع سبلا اخرى لإعاقة خطة الخصخصة. فبعد أن أخفقت اسهم شركة الألمنيوم المملوكة للدولة في البيع هذا العام أزال المديرون العرض بدلا من خفض السعر.
وقال موسى غني نجاد، الاقتصادي والصحافي في صحيفة «دنيا اقتصاد» انه «توجد مجموعة كبيرة جدا من المديرين الذين لا يريدون حدوث هذا. انهم يخلقون الكثير من المشاكل لاعاقة ذلك».
وفي بعض الأحيان، يتدخل مسؤولون كبار لايقاف عملية شراء. وأوقف احمدي نجاد محاولة جرت في الفترة الأخيرة من جانب صناعي ايراني لشراء حصة مصنع للسيارات تملكه الدولة في بنك خاص.
وقال احد المحامين من طهران «اذا سألتموني من الذي يدير ايران؟ فسأقول: كل واحد ولا أحد».
* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»
Iran’s inner and outer circles of influence and power
By Borzou Daragahi