**
(9)
كيف يكون التغيير الكوني؟
إن التعليم والتربية والتكوين والإعلام، وما ماثلها، تقوم على أسلوب أعرج وتسير على منهاج أعور، ينتبه إلى جانب واحد ويلتفت عن الجانب الآخر، رغم أهميته القصوى. فكل هذه الإتجاهات تُعنى بما هو خارج المرء، وما يكون غالباً في نطاق حواسه، وما يجىء عن طريقها من معلومات وشواهد، وذلك بقصد السيطرة، ما أمكن،على العناصر الخارجية وجمع كل ما يمكن من أساليب السيطرة عليها. لكنها تغفل تماماً كل ما هو داخلي، في ذات الإنسان، تنفذ منه إلى القدسية والجلالة. فلئن كان الخارج والظاهر والبرانى سبيلا إلى السيطرة على المواد والثروة والجاه والسلطان، فإن الداخل والباطن والجوانى هي جميعاً ترفد إلى طريق الله. والتكامل الصحيح والتعليم الصادق والتربية السليمة والتكوين الفعّال هو ما يجمع بين الداخل والخارج، الباطن والظاهر، الجوانى والبرانى، بحيث يكون الإنسان كما أراده الله، مخلوقاً ليخلق به.
والذي يستطيع أن يزاوج بين الحسنيين، ويجعل من الإنسان سيطرة كاملة على كل ما هو خارجي، ووضوحاً بيَّنا لكل ما هو داخلي، إنما هي المعرفة المقدسة أو العلم الـّلدنى (بالتعبير الإسلامي : وآتيناه من لدنا علما). فبالمعرفة المقدسة يعرف الإنسان أنه من الله وفى الله، وأن الله خلقه ليخلق به، ثم يستطيع من استكناه ذاته (معرفة كنهها) واستبطان وجوده وإستنطاق ضميره أن يدرك السبب الحقيقي من خلقه ورسالته الحقيقية في الحياة. وعندما يخلص الإنسان إلى أنه نفحة من الله ونفخة من روحه فإنه يتحرر كلية، ويسير في الحياة طلقاً، ميسراً لكل شيء خاص بالهدف منه (فكل ميسر لما خـُلق له) أما إذا لم يعرف السبب من وجوده، وعلة كينونته، فإنه يضرب في الحياة كالأعمى، يتخبط في كل شيء، ويصطدم بأشياء كثيرة، فيبدو له أنه مجبر في الحياة، وما هو بمجبر، لكنه خرج عن خط حياته فتصادم مع الجميع وتصارع مع الكل.
وحتى يعرف الإنسان الحقيقة التي تعينه على أن يتسير كل شيء له، عليه أن يدرس على نحو ما حركات كواكب وأقمار المجموعة الشمسية (التي تتحلق حول الشمس)، ذلك أن لطبيعة هذه الكواكب أثر على طبيعته، ولمسارات هذه الكواكب، في تقابلها أو تعاكسها أو إقترانها ببعضها البعض، ما يكون أشبه بخريطة كونية، هي كخريطة مدينة ما، أدنى وأقرْب. فالسائر في مدينة غريبة لا يتصادم ولا يتوه ولا يرهق عبثاً، إن كانت معه خريطة تبين له معالم المدينة، وعلى العكس، فقد يضيع منه الطريق أو تزيد أمامه المسافة أو يتصادم بمتاعب ومصاعب، إن لم تكن معه خريطة تبين له معالم الطريق وبيان المسافات وسبل السير في هذه المدينة، ودون ذلك يكون الفرد كالضائع في بلد غريب أو كالملاح التائه في عُرض البحر.
والصلة بين البشر والشمس والقمر والكواكب هي من عظائم المسائل التي ساهمت في تكوين مسألة الجبر والإختيار، ثم في استمرارها من بعد. فهذه الصلة التي انبنى عليها علم التنجيم (Astrology ) غفل أكثر الناس عنها، ونسيها من كان يعرفها – كقدماء المصريين وأهل بلاد ما بين النهرين وغيرهم في الحضارات القديمة – فصََوّرت للبعض أن الشمس وكواكبها هي التي تحكمهم وتدبّر مصائرهم وتقدّر مصارعهم. في اليونان قديماً وفى روما آنذاك كانت الكواكب أربابا (أسياداً، كما يقال عن سيد العمل رب العمل أو كما يقال عن سيدة الدار، ربة البيت). فكان المشترى، وهو أكبر كواكب المجموعة الشمسية يسمى عند الرومان (Jupiter) ويعتبرونه رئيس الأرباب أو سيد الأسياد، وكانت الزهرة (venus) ربة الحب وكان عُطَارد (Mercury) رب العلم والحساب والحكمة، وزحل (Saturn) رب الحواجز والمضاعفات والصرامة. ومع الوقت، إتجه بعض الناس إلى عبادة هذه الكواكب وظنوا أنها هي التي تحكم مقاديرهم وتقضى في مصائرهم وتبرم كل أمورهم.
هذا بينما تدل المعرفة المقدسة والعلم الإلهي على أن هذه الكواكب، والشمس والقمر، هي أدوات الله في رسم المسالك وحكم من لا يعرف أولا يعلم، حتى إذا ما عرف أو علم تجاوزها، وكانت صلته بها كصلة المسافر أو السائح بالخارطة الخاصة بالمدينة التي يزورها، لو استطاع قراءتها وفهمها لم يضل السبيل، وإذا لم يستطع القراءة والفهم تصادم في المدينة وازدحمت عليه العوارض وضاعت منه السُّبل.
(10)
وبذلك الفهم السديد يمكن فهم النصوص المعتقدية فهماً جديداً. فما جاء في الإنجيل من أن: الأعمال قد أُكملت منذ تأسيس العالم (عبرانيين 4:4) وما نسب إلى النبي من أنه قال (جفـّت الأقلام وطـُويت الصحف) إنما يقصد إلى قوانين الخلق وسنن الكون ونواميس الحياة التي خلقها الله منذ خلق الكون (الخاص بنا). فقد برأ مع هذا الخلق كل سنن الكون وجميع سنن الحياة، لكنه لم يخلق أفعال الناس وأقوالهم، فقد تركها حرة لهم، حرية مقيدة، شريطة أن يعرف من يريد أن يتحرر (ويكون عوْن الله في الخلق) كيف يتعامل مع هذه القوانين وتلك النواميس وهاتيك السنن، فيصبح فوقها لا تحكمه بالنظام (الفلكي) الذي يحدث فيها نتيجة السنن والنواميس والقوانين، والإ صار هباء في الحياة، هو إلى الجماد أدنى وإلى المواد أقرب، تجرفه هذه وتصرعه تلك، وما من منقذ له أو مرشد أو مُشير.
وعن الآية القرآنية (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحو بما أتاكم) سورة الحديد 22:57 وهى الآية التي ركن إليها بشدة نظام الحكم المصري بعد هزيمة 1967، إذ أراد بسوء استعمال الآية أن يقنع الناس فعلاً بأن الهزيمة كانت قدراً مكتوباً في سجل الله منذ الأزل، وبذلك تنتفي مسئوليته ومسئولية قادته عن تلك الهزيمة المهينة؛ فالتفسير السليم لها يكون على نفس المفاهيم السابقة، من أن ما ُيسجّل في الكتاب إنما هو السنة أو القانون لا الفعل أو القول، أو – من جانب آخر – فإنها تفهم وفقاً لمبدأ تناسخ الأجساد، فالمكتوب من ثم، أو ما في الكتاب، إنما هو نتيجة فعل سلف أو قول سبق، والسنن ترتب نتائجه في هذه الحياة أو في حياة أخرى، ويقال في ذلك إن الإنسان في حياته الحالية يحصد ما سبق أن زرعه، وهو في حياته المقبلة يجنى ما يبذره في حياته الحالية، مْن فعل أو قول وقع، أو لم يقع مع ضرورة وقوعه منْه وصدوره عنه. ومن جانب ثالث، فإنه من المقرر عند العارفين بالله حقاً أن أصحاب المهام الصعبة إنما يؤهلون لذلك بالتضييق عليهم وضربهم بالنكبات والإحباطات لكي يكتسبوا من ذلك قوة وشدة وصلابة تعدهم لأداء الرسالة أو التكليف بإرادة صلبة وعزم لا يلين، فمن الملاحظ والمعروف أن التضييق على المجرى يجعله أشد تدفقاً وأقوى اندفاعا، بعد أن يتجاوز مرحلة الضغط والتضييق.
وعندما يتكامل الحدث في النسيج الكوني، فهو يتربص ضرورة ليكون، أو يترصد (من الرصد) سببا ليقع، وبذلك يمكن أن يعرفه بعض الأشخاص في رؤيا المنام، أو يتكهن به الكاهن أو يتوقعه أي شخص في توقعات له. أما إذا لم يكن الحادث قد تكامل في النسيج الكوني فيستحيل أن يعرفه أحد مهما ادعى، حتى ولو كانت قد سبقت له تكهنات مؤكدة أو رؤى محققه أو توقعات ثابتة.
saidalashmawy@hotmail.com
* القاهرة
مسألة الجبر والاختيار (9 و10)الوباء القومي والنور الإنساني كتبت بحثاً حول الذات والموضوع أقول فيه إنني لست “تحريرياً” ولا “إخوانياً”، لست سلفياً ولا خلفياً، لست فقهياً ولا صوفياً، لست حزبياً ولا طرقياً، لست رجعياً ولا تقدمياً، لست بعثياً ولا قومياً، لست ناصرياً ولا نصرانياً، لست عروبياً ولا كردياً ولا عجمياً، لست علمانياً ولا إسلامياً، لست شيعياً ولا سنياً… فأنا إنساني على دين إبراهيم حنيفاً مسلما ديناً قيماً وما كنت من المشركين. فكان جواب كردي لم يعرف بنفسه التالي: “لماذا الكرد ملاحقون دائماً بمناسبة وبدونها، ليتك لم تذكر الكرد في مقالك يا أستاذ خالص. أنت لست عروبياً ولا كردياً. هلا تجرأت… قراءة المزيد ..
مسألة الجبر والاختيار (9 و10)مقالكم اكتر من رائع يا سيادة المستشار و كأنه ينكش بنفس كل قارئ له ليسأل نفسه ( ليه أنا موجود ) و كثيرون منا يعرفون الاجابة و لكن تلك المعرفة تفرق بالأزمنة فمن منا تجيئه الاجابة مبكراً و من منا يجد نفسه كما قلت فى مقالكم ( بالتضييق عليهم وضربهم بالنكبات والإحباطات لكي يكتسبوا من ذلك قوة وشدة وصلابة تعدهم لأداء الرسالة أو التكليف بإرادة صلبة وعزم لا يلين، ) و تلك حقيقة مر بها كثيرون و لكنهم فى أوقات كثيرة للأسف قد يسقطون على الرغم من كثرة الاختبارات و لكن النجاه لمن يستمرمتماسكاً الى النهاية… قراءة المزيد ..