شاهدت – بطريق المصادفة – برنامجا تليفزيونا يؤرَّخ لحكم الملك الأسبق فاروق ولأسباب خلافه الدائم مع مصطفى النحاس الذى كان زعيما للأمة آنذاك . وقد استضاف البرنامج مختصين أفاضل تكلموا فى ذلك عن الشعبية الغالبة للوفد الذى كان يرأسه مصطفى النحاس وللمحبة الشديدة التى أحاط بها الشعب الملك فاروق عندما وُلى العرش ، ولجأوا فى ذلك إلى ذكر حوادث تبعد عن لب الخلاف ، وتعد ثانوية له وليست أساسية – كما تكلموا كثيرا عن الغيرة والحسد بين شعبية كاسحة تريد أن تحكم ، ومؤامرات للحاشية الملكية التى تريد أن تستبد وحدها بالحكم .
وكل هذا صحيح ، انما لم يتناول أحد السبب الحقيقى للخلاف ، لا لقصور فيهم ، ولكن ربما لأنه كان يحسن معالجة الموضوع بطريقة أفضل ، واضافة متحدثين ذوى خبرة فى الموضوع ، يضيفون إلى كل ما قيل أمرا كان هو الأهم والسبب الرئيس فى الخلاف ، وهو الصراع الخفى بين الدولة المدنية والدولة الكهنوتية ( التى تسمى خطأ دولة دينية ، بينما لا يحكم الدين بنفسه وإنما يحكم الناس باسمه ويستنطقونه كما يريدون ويشتهون ، بالتفسيرات المغلوظة والفتاوى المتهافة ) .
كان فاروق شابا يافعا ، وَقـرَت فى نفسه أمنية ، زرعها بعض رجال الأسرة المالكة ، ومعهم رجال الحاشية ، ورجال من الأزهر ، أن يكون تتويجه فى القلعة حيث يمسك بسيف الأسرة ، ويقسم اليمين أمام جمع من أعضاء الأسرة المالكة ، وبعض رجال الأزهر والوزراء ورئيسهم ، وبعض المدعوين من الساسة . ورفض مصطفى النحاس هذه الفكرة ، لأنها كانت تخالف الدستور الذى ينص على أن يحلف الملك اليمين أمام مجلسى البرلمان ( الممثل للشعب ) ، ولأنها كانت فى تقديره ميلا عن الدولة المدنية لحساب الدولة الكهنوتية . وزاد جنوح فاروق لرأيه ، خاصة وقد أُرضع مطامع والده فى أن يكون صاحب الخلافة الاسلامية ، فصارت مطامح له من ثم . ولجأ رجال الحاشية إلى مكرم عبيد سكرتير الوفد ، والصديق المقرب لمصطفى النحاس آنذاك فاستمالوه إلى جانب فكرة حلف اليمين فى القلعة . ولما حاول مكرم عبيد أن يقنع مصطفى النحاس بالفكرة ، رفضها هذا بتصميم وهو يدق بعصاه على الأرض ويقول ( الدستور ما يعرفشى قلعة يا مكرم ) . وظل يكرر ذلك عدة مرات ، كما كانت عادة مصطفى النحاس . ونفذ بذلك رأى مصطفى النحاس الذى كان تطبيقا للدستور ، خشى هو إن خالفه أن تصير سابقة يلجأ إليها القصر الملكى بعد ذلك ، ويحتج بالسابقة ، وبأن مصطفى النحاس هو الذى خرج عن الدستور .
ويظهر الصراع المبكر ما بين ( الدولة المدنية ) و ( الدولة الكهنوتية ) حيث كان الوفديون يهتفون : الأمة مع النحاس ، فيرد عليهم الأخوان المسلمون – الذين كانوا قد قدموا أنفسهم لخدمة الملك – وهم يهتفون : الله مع الملك .
كان هذا عند تتويج فاروق ملكا فى عام 1937 وظل حتى عام 1948 . وفى عام 1952 ، وبينما قام بالانقلاب ضابط محسوب على الماركسية ، فقد كان باقى الانقلابيين على صلات بالأخوان المسلمين ، بل وقد ذكر خالد محى الدين فى كتابه ( الآن أتكلم ) أنه هو وجمال عبد الناصر حلفا يمين الولاء للأخوان المسلمين معا فى غرفة مظلمة بأحد أحياء القاهرة الشعبية ، وأمام شخص كان يخفى وجهه وملامحه ، وكان رئيسا للجهاز السرى . وهكذا يمكن أن يكون للتمحك بالدين ألف وجه ووجه .
Email : saidalashmawy@hotmail.com