يبدو أننا، نحن السوريين، لن نعدم فنّانات شقيقات وفنّانين أشقاء من لبنان الشقيق، يمتهنون (بكلّ ما ينطوي عليه هذا الفعل من معانٍ!) امتداح طغاة سورية، بل وادعاء تمثيل ضمير الشعب السوري في التغنّي بالأب حافظ الأسد، وبابنه الراحل باسل الأسد، ثمّ بابنه ووريثه بشار الأسد، وصولاً إلى حفيده حافظ بشار حافظ الأسد! ولقد قُيّض لنا أن نصغي إلى وائل كفوري يشدو هكذا: “يا سورية رشّي طيوب/ على بوابك دار ودار/ نحنا وشعبك صرنا قلوب/ تا توسع إبنك بشار”، ليس دون تحطيم الأرقام القياسية من حيث ابتذال اللغة وانحطاط المعنى وتفاهة المديح. ثمّ جاء الدور على نجوى كرم، لتصدح: “بدنا نحافظ/ بدنا نجاهد/ بالروح البعثية/ ونسلّم بشار القائد/ رايتنا السورية”، ليس دون انفلات من كلّ عقال في النفاق والزلفى والمسخرة (قبل أشهر كان رامي الأمين قد كتب، في ملحق “النهار” الثقافي، مادّة ممتازة عن “الأغنية البعثية اللبنانية”، حسب تعبيره الموفق تماماً).
ثمّ جاءت “شحرورة الوادي” ما غيرها، صباح، لكي تشارك في افتتاح مهرجان دمشق السينمائي بموّال من كعب الدست، والحقّ يُقال، يمتدح “شموخ” الأسد الذي “لا يهتزّ عرشه”، على ما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية. بالطبع، ليست خافية مصلحة الشحرورة في هذه الوصلة الردحية (إذْ، بمعزل عن تكريمها في المهرجان، أعلنت صباح أنّ الأسد قد تكفلها وابنتها هويدا مدى العمر)، غير أنّ المرء لا يقاوم الرغبة في التخابث قليلاً حول اختيارها مفردة “العرش” تحديداً، في وصف حكم الأسد: كانت تقصد الإطراء، لا ريب، ولكنّ الفطرة الشحرورية ساقتها إلى المساواة بين هذا النظام ـ الجمهوري، رسمياً في الأقلّ ـ بأنظمة العروش. ومَن كان سيرى مفاجأة كبرى لو أنّها استكملت إطراء العرش بإطراء صاحب السموّ، أو صاحب الجلالة؟
ولكي لا نظلم المغنّيات والمغنّين من هذا العيار، بعد أن نضع جانباً طوابير الساسة والصحافيين والمحللين، نتذكّر واقعة مشهودة للشاعر اللبناني طلال حيدر، جرت قبل أكثر من عشر سنوات في البقاع اللبناني. آنذاك، أزاحت بلدة شتورا الستار عن نصب تذكاري لتخليد باسل الأسد، حضره (لاحظوا كيف أنّ التغيّر والثبات هما في سنّة الحياة، سواء بسواء!) السادة نبيه بري رئيس المجلس النيابي، ورفيق الحريري رئيس الوزراء، ومحمد سلمان وزير الإعلام السوري. وفي ذلك الاحتفال ألقى حيدر قصيدة عصماء، امتزج فيها الرثاء الملحمي بالهجاء الميلودرامي، واختلط أنين المدح بطنين القدح، وتبارت مكابدات الأشواق مع إعلانات النفاق.
ولقد بدأ برثاء الراحل، ثمّ مرّ على مدينة القدس المحتلة ليجد «النبي زعلان»، مما دفع الشاعر إلى شتم الفلسطينيين لأنهم «باعوا أذان العصر/ تا يشتروا بستان»؛ وكان لا مفرّ من أن يمرّ على العراق فيجد «بو لهب، ومرتو معو/ محمّل عا ضهرا حطب/ بردان، عم يوقد عرب»؛ وبالطبع، لا بدّ من الشام وإنْ طال السفر: «لاقيت الأسد سهران/ جايي عا ضهر البراق/ يخلّص الآذان/ وجايب معو هالشمس/ تتمشى على الجولان»…
والحال أنّ المرء قد لا يجادل حيدر في حقّ رثاء من يشاء، وأصلاً لا تجوز على الميت سوى الرحمة، ويجوز عليه المديح الذي بلا ضفاف. ولا جدال، سوى ذلك الفنّي الجمالي المحض، حول الرموز التي يلجأ إليها حين يمدح أو يشتم؛ ولا تثريب على مخيلته في أن ترى أبا لهب وامرأته حمالة الحطب أينما يشاء، رغم أن التشبيه فقير وباهت لا يليق بمخيلة اعتادت على التحليق وارتياد المجاز العالي. ولكن من حقّ المرء ذاته أن يجادل في مقدار اختلال ميزان الرياء عند الذين يتناولون الموت بمعانيه التراجيدية والكونية العابرة لحدود الكائن (وهذا ما حاول حيدر أن يفعله حين استخدم رموز المسيح والنبيّ والبراق وجعفر الطيار وحيدر الكرّار، لرسم صفات البشر).
وختاماً، لكي لا تبدو الساحة مقتصرة على الشقيقات والأشقاء من لبنان، هنا تذكير بفقرات من حديث صحفي أدلى به مؤخراً عزمي بشارة، النائب الفلسطيني السابق في الكنيست الإسرائيلي، إلى صحيفة “الوطن” السورية الخاصة، غير البعيدة عن أجهزة السلطة: “أعتقد أن الرئيس بشار الأسد هو أحد الأشخاص الموهوبين جداً الموجودين اليوم في العالم العربي، من ناحية المستوى الثقافي ومن ناحية صفاء التفكير أيضاً (…) عندما نتحدث عن الرئيس بشار الأسد، فإننا نتحدث عن رجل وصل السلطة في دولة تمرّ بوضع صعب، تهديدات الحرب، الوضع في لبنان، انهيار الإتحاد السوفييتي، الذي أدى إلى فقدان مصدر للتسلح. لم يأت بشار الأسد على ظهر انقلاب، بل من داخل السلطة، الحديث هنا لا يدور عن مثقف قيادي بل عن رجل دولة، سياسي، من المفترض أن يدير الدولة. ماذا يجب أن أتوقع من ذلك؟ أقول إن لدى الرئيس بشار الأسد أفكاراً جديدة حول كيفية التجديد، ولديه حساسية مفرطة لألم الناس ومعاناة البشر، إنني أرى أملاً كبيراً في ذلك”.
في كلّ حال، قد يتباين شحارير الرياء هؤلاء، في موهبة النفاق أو شطارة الكذب أو براعة الامتهان أو خفّة إراقة ماء الوجه… لكنهم، بلا استثناء، يظلون على قدم المساواة ذاتها في اعتبار واحد: إهانة الشعب السوري، قبل إهانة الحقيقة!
s.hadidi@libertysurf.fr
* كاتب سوري – باريس
شحارير الرياء
لو كنت مضطرا الى مشاهدة المحطات السورية خصوصا خلال موسم الانتخابات الرئاسية الاخيرة كنت سترى العجب يا ابن البلد من هذا وائل كفوري، الذي يضرب على عصبنا وكرامتنا اكثر حتى من عسس المخابرات وعسس الاعلام. هل تعرف الفقرة الثانية من اغنيته هذه؟ يقول الكفوري ((بشارك جاي من بيوت ربيانة عمجد كبير العز متوجها بياقوت ما صار متلو ولا بيصر)) .. فلا عتب على الصبوحة الشحرورة التي طول عمرها تستقتل لتضمن فتات الحكام..