المنهاج المادي شق من المنهاج الكوني وبعض من المجال الحيوي؛ ذلك أن المنهاج المادي يتصل بالمادة ونواتجها، بالمنظور وحدوده، بالمحسوس والطاقة ؛ فهو من ثم يقوم على المعادلات والحسابات والنظريات والمقولات والرياضيات والمجسّمات، وهي كلها محكومة بالمواد محصورة في الجوامد. وأظهر صورها سلف بيانه في أفكار ارشميدس ومكتشفات نيوتن والنظرية النسبية لأينشتين.
ولئن كانت النظرية الأخيرة تعادل بين المادة والطاقة فإنها يمكن أن توافق بين الطاقة والفكر، وكل ذلك يجري في مجال المادة المحسوبة والطاقة المرسومة، لكنها لا تتأدى إلى الجواهر الذاتية الحرة التي تتمتع بالوعي والإرادة والحرية والميل إلى التكامل بالكل.
ولبيان ما سلف من أن معادلة النسبية يمكن أن تمتد لتشير إلى الفكر، فقد ثبت من التجريب المعملي أن بعض الفكر ينشأ عنه طاقة يمكن قياسها، وبهذا يكون كامل المعادلة هو، الفكر = الطاقة = الكتلة.
نظرا لغلبة الآلية المادية على العقول، خاصة عقول العوام وهم أكثر الناس، فان ذلك قد أدى إلى تصور الألوهية في صورة مادية تَكلَّف البعض فافترض لها خصائص خاصة كي لا يجعل مثلها شيء (من المادة)، لكنه فعل ذلك في نطاق الحواس. مثال هذا أنه ورد في سفر الخروج: (ثم صعد موسى وهارون، وسبعون من شيوخ إسرائيل ورأوا إله إسرائيل وتحت رجله شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف، كذات السماء في النقاوة، وكان منظر مجد الرب كنار آكلة على رأس الجبل ودخل موسى في وسط السحاب وصعد إلى الجبل )20- 24. وفي كتاب مقالات الإسلاميين (أي مذاهب المتأسلمين) لأبي الحسن الأشعري عن قول (مذهب) جماعة منهم (أن معبودهم – أي الله عندهم – جسم وله نهاية وحدّ، طويل عريض عميق، طوله مثل عرضه وعرضه مثل عمله، لا يوُفي بعضه على بعض) وعلّق الأشعري على ذلك فقال (قالوا طوله مثل عرضه، على المجاز دون تحقيق). وعن جماعة أخرى ذكر الأشعري أنهم (زعموا أن الله نور ساطع، له قدر من الأقدار في مكان دون مكان، كالسبيكة الصافية تتلألأ كاللؤلؤ المستنير من جميع جوانبها، دون لون وطعم ورائحة ومَجسّة، ولونه هو طعمه، وطعمه هو رائحته، ورائحته هي مجّسته وهو نفسه لونه). وقال عن جماعة ثالثة أنهم يقولون عن الله (إنه جسم ذاهب جاءٍ، فيتحرك تارة ويسكن أخرى، ويقعد مرة ويقوم أخرى. وأنه طويل عريض عميق. لأنه ما لم يكن كذلك دخل في حدود التلاشي ). وعن جماعة رابعة ذكر أنهم يقولون أن (الله صورة الإنسان، وهو نور ساطع أو حواس ) تراجع هذه الآراء وآراء أخرى عن وصف الله فى كتاب أبي الحسن الأشعري – مقالات الإسلاميين- الطبعة الثانية- الجزء الأول صفحة 106 وما بعدها .
المجال المادي إذن، قاصر إلا إذا كان ثمة اعتراف بحيوية المادة (Spirited matter)وهو ما سوف يلي شرحه وبيانه. أما المنهاج المادي فهو أشد قصوراً، لأنه قاصر شأن المادة التي يتعلق بها كما أنه يحصر مدارك الإنسان فيما تلتقطه حواسه، وما يتحرك له عقله، وفقا للمدارك المحصورة والمقصورة. فقد ثبت علمياً أن العين البشرية ترى فقط ما يقع بين 350 نانوميتر، الذي يظهر في اللون البنفسجي، حتى 750 نانوميتر الذي يظهر في اللون الأحمر. والنانوميتر وحدة قياس تعادل أو تساوي 1: بليون من المتر، وبهذا يقع مجال الرؤية في خليط من تداخل ألوان الطيف السبعة : بنفسجي، نيلي، أزرق، أخضر،أصفر، برتقالي، أحمر. كذلك فان ما تسمعه الإذن البشرية يقع فيما بين الذبذبة أو الترددات التي تتراوح من 15 إلى 20000 (عشرين ألف) من الهرتز، وهي وحدة لدورة في ثانية ؛ أما ما وراء ذلك فلا سمع ولا بصر.
هذه الكشوف العلمية المحددة والثابتة أمراً يقطع بأن الحواس الخمس ليست كل شيء، وإنما هي وسائل لكسب المعرفة والعلم، بما ينطلق بالعقل إلى آفاق أوسع وأبعد، ولا تكون قابضة عليه حابسة له قط. وأنه لا يتعين على البشر أن يظلوا أساري الحواس وما يأتيهم من الغير – والذي إختلفت الفصائل والفرق والجماعات في تفسيره وتأويله، وهذا العجز بالتالي يفرض عليه تغييب العقل، وتذويب الإرادة.
أ – فالحواس وما اقتصر من معلومات ومعارف عليها وحدها عجزت عن تفسير ظواهر ما وراء المادة Parasychology كانتقال الأفكار عن بـُعد، والجلاء البصري، والجلاء السمعي، والجلاء الفكري الذي قد يسمى وحياً أو حدساً أو فراسة ؛ وإنتهى العلماء (المختصون في هذا الفرع من العلوم) إلى إعتبارها جميعا نشاطاً واحداً، هو إدراك خارج الحواس، وهو نشاط عقلي لا يحده زمان ولا يحدّه مكان، يعمل تحت ظواهر مختلفة. وأن هذا النشاط في مستوى الوظائف العقلية العليا التي هي أبعد ما تكون عن قرون الاستشعار المادية، التي تستسلم إلى الإحساس العضوي وتستجيب له حركيا، وأقرب ما تكون إلى العمليات التي يصعب التحكم فيها، مما يعتمد على الذاتية والأصالة والتمّيز- كما هو حال الإبداع الفني- خاصة وأنها تتسم بما يتميز به هذا الإبداع من تقلّب ونزوات. كما إنتهى العلماء ذاتهم إلى تعارض حالات هذا النشاط مع القوانين الفيزيائية المعروفة إذ هي تزيد بزيادة المسافة، كما إنها تسبق الوقت فتتجاوز الحاضر، وهي بذلك لا تخضع لقوانين المكان ولا تخضع لقوانين الزمان، (أي للقوانين الفيزيائية). يراجع في ذلك كتابنا “ضمير العصر”-الطبعة الثانية من صفحة 134الى صفحة 136.
ب – وهي ( الحواس) لم تستطع أن تكشف أو تعرف الأشعة الكونية التي تنهمر على البشرية كالمطر، طوال الوقت، والتي تحدث تأثيرات غير مفهومة بالطبع، ولا هي معروفة من ثمّ. (رغم إكتشاف بعضها وإستخدامه علمياً وطبياً كالأشعة السينية وأشعة جاما)
جـ – وهي لم تستطع أن تعرف الصلة الحقيقية للكواكب السيارة (التي تكون المجموعة الشمسية) بالحيوات البشرية، مع أن علم التنجيم (Astrology) يقوم على وجود تأثيرات (هي في الحقيقة إحتمالية وغير يقينية ) لأن جانباً كبيرا منها لا يقوم على دراسات علمية.
د- وهي لم تستطع أن تعرف أو تفهم لماذا يدور كوكب الزُّهرة من الشرق إلى الغرب على العكس من كل كواكب المجموعة الشمسية (الجامد منها كعُـطارد والمريخ، والغازي منها (أي من الغازات) مثل المشتري وزحل وأورانوس ونبتون وبلوتو.
هـ- وقد كان – ومازال أكثر الناس – يظن أن الأرض مركز الكون وأن الشمس والقمر يدوران حولها، في سماء من سماوات سبع، قريبة منهم، نثرت فيها النجوم زينة، ثم تبين بالعلم والتجريب عكس ما كان ومازال أكثر الناس يؤمنون ويعتقدون فيه. ذلك أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، وأنه لا توجد سماء قريبة، بل فضاء لا نهائي، وان المقصود بالسماوات السبع مدارات الأفلاك للشمس والقمر والكواكب الخمسة السيارة، الزهرة وعطارد والمريخ والمشتري وزحل، ثم اكتشف الأمريكي هابل Habel (المسمي باسمه منظار ومرصد) نجماً بعيداً عن المجرة التي توجد بها المجموعة الشمسية والتي تسمي درب اللبانة (Milky galaxy) أو درب التبانة كما يحلو للبعض أن ينطق أو يكتب الاسم الأصلي، ولما تفحص هابل هذا النجم اكتشف مجرة أخرى قريبة لمجرة درب اللبانة، سُميت مجرة انتروميدا، ثم توالى إكتشاف المجرات حتى بلغت البلايين. وهذا هو ما تم إكتشافه من حّد أو منظور الأفق، بواسطة المنظار (التليسكوب) لكن مقتضي الحال (الاستصحاب بالتعبير الفقهي) يفيد وجود مجرات لا نهائية يمكن التعرف عليها تباعاً كلما تقدمت قدرة المناظير.
و- وقد تأكد لعلماء الفيزياء أن قوانين الفيزياء التي يتصور أغلب الناس على الأرض إنها معايير ومقاييس مطلقة، تتكسر وتتلاشي وتزول أمام الثقوب السوداء، والمادة ضد المادة (Antimatter)، والنجم التوأم.. وغير ذلك مما يقطع بأن الإعتماد عليها وحدها، دون إعمال العقل وإضافة مناهج أخرى فيزيائيه أو غير فيزيائية يرسّخ الجهل والقصور وإبتسار الحقائق. وقد بدأت بالفعل إتجاهات تهدف إلى إيجاد قوانين أخرى فزيائية، تخالف المعروف وتجانب المألوف – إبتداء من دراسة ما يعرف بكرات النار التي تصدر فى بعض الأماكن عن البرق، والتي تبين أنه لا يمكن فهمها، بله دراستها، وفقا للقوانين الفيزيائية المعروفة، ذلك أن بها عنصراً حيوياً أكثر وعياً من باقي المواد، ومن ثم قد تكون الفيزياء البادئه بدراسته فزياء حيوية، تؤكد حيوية المادة (spirited matter).
لهذا كله، ولغيره كثير فإن ما تفهمه الناس (من غير العلماء والحكماء) أدني ما يكون إلى الأوهام وأقرب ما يكون إلى الأحلام. فالمعارف، والفكر الاعتقادي، يصل إلى الناس وهم أطفال، أو وهم في دور الطفولة، ومن ثم لا يقدرون على استيعاب الأفكار المجردة أو استيعاب الحقائق العامة أو استساغة المقارنات المحددة أو استخدام التعبيرات الصريحة. لذلك فإن معلّموهم في كثير من الحالات، وخاصة ما يتصل منها بالعقائد، يقدمون لهم المعني في رمز، والفكرة في شكل، والعبرة في مثل، والنظام في حكاية، والقانون في أسطورة، والقيمة في صورة، والمبدأ في شخص.
وهكذا، فبغير هذا التمثيل ودون هذا التقريب وبعيداً عن هذا التجسيد، لا يمكن للطفل، ولمن له عقلية الطفل، وهم كثير، أن يصل إلى أي فهم صحيح أو أن يدرك أي مفهوم حقيقي. وهذا الأسلوب التقريبي والتشبيهي والترميزي للتعليم له نتائج غاية في الخطر ونهاية في الأثر، هو انه – غالباً – ما يعوق النضج ويعرقل النمو، حينما يحيط الفرد بأسواره ويحجب العقل بأستاره، فإذا به ينتهي إلى التخليط والتدخيل والتمزيج بين الرمز والمعني، بين الشكل والفكرة، بين المثل والعبرة، بين الحكاية والنظام، بين الأسطورة والقانون، بين الصورة والقيمة، بين الشخص والمبدأ.
وهكذا يعيش أغلب الناس وهم مهتزي الفكر، مضطربي النفس، مختلي الفهم، مرتبكي التعبير. جانب منهم رمزي وجانب آخر واقعي، مجال منهم إشاري (من الإشارة) ومجال آخر دلالي (من الدلالة). (يراجع كتابنا “ديوان الأخلاق” – الطبعة الأولي. 119 – 120). وهو ما يرجعنا إلى إعادة دراسة الحضارة المصرية القديمة التي قامت على هذا الفهم.
saidalashmawy@hotmail.com
* القاهرة
saidalashmawy@hotmail.com
مسألة الجبر والاختيار (5)على فكرة يا سيدة المستشار أنا بالاقى متعة غير عادية و أنا باتابع مقالتكم الجميلة و المميزة بكم من العلوم المجمعة فى إسلوب بالغ الثقافة و المذابة فى قالب شيق لننهل منه نحن البسطاء .و أحياناً تكون لى مداخلات و التى أرى أنها تتفق معك فى نقاط كثيرة و أشكرك على فتح المجال و القبول بالتعليقات و التى إرسلها تعليقاًعلى مقالاتكم الثمينة . و إسمح لى يا سيادةالمستشار بتلك التعليق على مقالكم و الذى وجدته و به رد على ما أثرته سياديكم بخصوص الثقوب السوداء و ذلك طبقاً لما سوف يرد . و- وقد تأكد لعلماء الفيزياء… قراءة المزيد ..
مسألة الجبر والاختيار (5)
أعتذر
لقد نسيت أعلان إسمى بالتعليق
أرجو المعذرة
مع جزيل الشكر غيورة القبطية
مسألة الجبر والاختيار (5)من الاشياء الخارقة للطبيعة أن يخرج العقل طاقة محركة و ذلك يعتبر ملكة لا يملكها غير من يملكون قدرات خاصة او من إستطاعوا الوصول الى الطاقة الكامنة و حتى نقل الافكر عن بعد فذلك من العجيب أن يحدث التلاقى فى الافكار و حتى المشاعر عن بعد و ذلك من الممكن أن يكون شائع بين الام و أبنائها أو بين الأحباء أو بين من هم عندهم قدرة قراءة افكار الغرباء و الشعور بمشاعرهم . فتلك الطاقات هى لا تفنى و لكنها قد تضعف مع عدم التركيز على الفكر فى الطرف الآخر . و من العجيب و الغريب أن… قراءة المزيد ..