حين تسعى أقلية مظلومة لرفع الظلم الواقع عليها من أغلبية، فإن سعيها هذا لا يصب في مصلحة الأقلية فقط، بل وربما جاز القول أن نجاح هذا المسعى يعود بفائدته على الأغلبية أولاً، وعلى المجتمع كله ثانياً، ثم على الأقلية في الدرجة الثالثة.
أن أمنعك من أن تقتلني، يعني بالطبع أن أحتفظ بحياتي، لكنه يعني في نفس الوقت أن أمنعك من أن تكون قاتلاً، وحين أحاول أن أجتث كراهيتك لي من قلبك، وأن أستبدلها بالحب، فإن هذا سيعود عليك بأن تكون إنساناً محباً، وليس كياناً كارها للآخرين، سيجعل منك إناء للمحبة، بدلاً من أن تكون مستودعاً للكراهية.
القصة التي ترددت أخيراً والمشكوك في صحتها، عن المدرس الذي أوصى تلاميذه المسلمين أن يحرقوا زملاءهم الأقباط، مثل هذا المدرس (إن صحت القصة) هو خطر على التلاميذ المسلمين، بأكثر أضعاف المرات من خطره على الأقباط، فمثل هذا المدرس يصنع من تلاميذه المسلمين قتلة، ويجعل منهم مشروع إرهابيين، يطاردهم المجتمع ويطاردونه، فالأب المسلم بالتأكيد لم يرسل ابنه للمدرسة ليكون قاتلاً، وإنما ليصير طبيباً أو مهندساً أو محامياً، لذلك ينبغي أن تكون غضبة أولياء الأمور المسلمين على مثل هذه الممارسات أقوى مرات ومرات من غضبة الأقباط.
هكذا الأمر بالنسبة للمجتمع ككل، ماذا تريد الأغلبية لمجتمعها أن يكون، هل تريده مجتمعاً تسوده العدالة والمحبة والسلام، أم تريد مجتمعاً يتسم بالظلم والكراهية وتتهدده الفتن والاحتقانات؟
أيهما في صالح الأغلبية، أن يتولى قيادة مؤسساتها الأجدر والأكفأ، بغض النظر عن دينه أو انتمائه، فيجني المجتمع مكاسب كفاءة الأداء، أم أن يجنب الأكفأ، لحساب العداوات الطائفية، فينخفض الأداء؟
هل الأغلبية بالأساس تحب نفسها ومجتمعها، أم أنها لا تركز إلا على عدائها لأقلية، حتى لو دفعت من مقومات حياتها ثمن هذا العداء؟
الشعوب الواعية تثمن التنوع وتحتفي بالأقليات، وهي لا تفعل هذا لمجرد النوازع الأخلاقية والإنسانية رغم أهميتها القصوى، لكن الحقيقة أن الأقليات في أي مجتمع تشكل رافعة للمجتمع كله، لأنها تمثل الرأي الآخر، الذي ينبه الأغلبية إذا ما حادت عن الصواب، هي أشبه بعيون إضافية في مؤخرة الرأس، تمكن المجتمع من رؤية ما لا يراه، فالأقليات أشبه بسؤال وتساؤل دائم، ودعوة للمراجعة والمحاسبة، فالمجتمع الذي يكف عن التساؤل، وتنعدم فيه المراجعة هو مجتمع يسير باتجاه التجمد أو الفناء.
هكذا تحرر السود في أمريكا، بفضل إصرار الأغلبية البيضاء على أن تحوز مجتمعاً صحياً، يتسم بالعدالة وينعم بالوحدة والسلام، وهكذا أيضاً كان للرجل الغربي الفضل في تحرير المرأة، وهو ما يعود على المجتمع كله بالتقدم والرفاهية، وليس فقط السود أو المرأة.
الجهل وقصر النظر وحده هو الذي قد يدفع أغلبية للعصف بأقلية، ظناً منها أنها بذلك تحقق مكاسب على حساب المكون الأضعف من المجتمع، فمثل تلك المكاسب إن وجدت هي محدودة وقصيرة المدى، وسرعان ما تنقلب إلى خسائر، إذ سرعان ما ترتد فاشية الأغلبية عليها، لتفتتها إلى مكونات أصغر تتقاتل فيما بينها، بالإضافة طبعاً إلى خسارة ما تجلبه الوحدة والعدالة من مكاسب حقيقية ودائمة للمجتمع، بل ومتزايدة باستمرار.
أمامنا مثال حاضر وساخن هو الفاشية السائدة في الشعب الفلسطيني، والتي دفعت حماس للاستئثار بالسلطة، متصورة بذلك أنها تحقق لنفسها مكاسب أكبر على حساب فتح، لتكون النتيجة تضاؤل أو انعدام المكاسب التي كان من الممكن أن تجنيها بوحدة الشعب الفلسطيني، ولتكون النتيجة أن استدارت الإيديولوجية الدينية الفاشية على نفسها، لتتقاتل حماس مع الجهاد الإسلامي، في محاولة لكل منهما للحصول على قدر أكبر من المكاسب، في حين نرى جميعاً من واقع الحال أنه لم تعد هنالك من مكاسب يمكن التقاتل عليها، بل خسائر متوالية ليس إلا.
الآن في مواجهة قضية الأقباط في مصر، على الأغلبية المسلمة قادة ونخبة وجماهير أن تسأل نفسها عن طبيعة المجتمع الذي يريدونه لأنفسهم ولأولادهم، أيريدون مجتمع العدالة والفرص المتكافئة والتسامح، أم مجتمع الظلم والاضطهاد والتعصب؟
أي المجتمعين يظنون أنه يحقق لهم ولأبنائهم المستقبل الأفضل؟
أي مجتمع يظنون هو الجدير بأن يتقدموا به إلى العالم، وإلى الألفية الثالثة؟
هل هو مجتمع العلم والفكر الحداثي وحقوق الإنسان، أم مجتمع التعصب والطغيان، المستند إلى أفكار ترجع إلى أربعة عشر قرناً مضت؟
حين ترفع الأقلية صوتها بالشكوى، فعلى الأغلبية أن تهرع إليها، لأن الأقلية عندها تكون حاملة لمشروع تطوير ومراجعة، جدير بأن يلقى الاهتمام والترحيب من أي أغلبية واعية.
kghobrial@yahoo.com
* الإسكندرية