السجين بين يدي عذّابه الحزبي وسيده: حيوان وبراز وابن زنى وامرأة وعبد وشبه رجل

2

بعض السجناء السابقين في السجون (البعثية) السورية، من الذين لم يقضوا في اثناء سجنهم، ورووا أخبار اعتقالهم أو نتفاً منها، تتناول رواياتهم نوعين من الأخبار. يروي النوع الأول الوقائع والحوادث، من التوقيف الى التحقيق والتعذيب والحشر والتنقيل واللقاءات والزيارات والأمراض والعاهات فالفراق، على أصنافه، فالخروج من السجن. وتشبه روايات النوع هذا ما يروى في ما يسميه بعضهم “أدب السجون”، وهو “ادب”، على معنى الباب أو المطلب أو الفئة. وغذت هذا الأدب أخبار معتقلي المعتقلات الفاشية والنازية، والسوفياتية الشيوعية،

الروسية و”القومية”، من صينية وكورية وكوبية وفيتنامية وألبانية وبولندية ورومانية وألمانية ومجرية، الى آخر “القوميات” التي نعمت بسلطان شيوعي في يوم من الأيام. وغذته اخبار معتقلي الديكتاتوريات العسكرية، اليمينية واليسارية، في أميركا اللاتينية والهندية، وفي آسيا والشرق الأوسط وأوروبا الجنوبية البلقانية، وفي افريقيا على قدر أقل، ما عدا الشمالية (العربية).

ويختص النوع الثاني بلغة المخاطبة التي ينقلها “الأدب” ويصفها ويحاول ترديدها. فلا يفوت من يقارن بين “عمل” من النوع الأول مثل “أرخبيل الغولاغ” لسولجنتسين، وهو خارج المقارنة والمقايسة، وبين آخر مثل “القوقعة” لمصطفى خليفة (عن “أكت سود” بالفرنسية، ودار الآداب بالعربية قريباً)، سجين السجون البعثية طوال 13 عاماً، أو مثل “لبناني بلا جنسية” روى لمحمد أبي سمرا “فصولاً من حياته وآلامه في سوريا البعث” (“النهار” اللبنانية في خمسة آحاد أولها في14/7/2007)، لا يفوته وقع الكلام النابي، على معنيي الصفة، وزيادته على أخبار الوقائع والحوادث، وعلى روايتها المجردة، “خبراً” كبيراً وضخماً لا يترك ذهن القارئ، ولا ينفك يستدخل رواية الوقائع الخالصة ويلونها بلون قاتم وفظ، وهي القاتمة والفظة اصلاً وابتداء. ومن غير الذهاب الى ان الأخبار السورية، نقلاً عن معتقلين سوريين أو عمن استضافتهم معتقلات سورية واستجوبهم أو استنطقهم مستجوبون سوريون “رسميون”، تنهض على قائمتين واحدة خبرية وأخرى لغوية، لا يسع القارئ ان يغضي عن مكانة كلام المخاطبة المقذع في الأخبار السورية البعثية والاستخبارية. ويقوي الرأي أو الإحساس هذا خلو أخبار عربية أخرى قريبة، شأن فصل السجن في كتاب كنعان مكية (العراقي) “القسوة والصمت” أو سيرة خالد البري (المصري) “الدنيا اجمل من الجنة”، ما لا تخلو منه الأخبار السورية من وصف لغوي جاد وجارح.

كلام الجهة الواحدة

وليس معنى هذا ان رواية الأخبار “المادية” تشكو ضعف الحوادث التي تقصها، أو نعومتها و”ميوعتها” على قول أحد الفقهاء المعاصرين. فيذهب الظن بالقارئ الى ان الكاتب أو القاص الراوية (وهي حال “اللبناني بلا جنسية” أو حال انطوان الخوري حرب، في رواية أخرى كتبها محمد ابي سمرا كذلك في “النهار”، في ثلاثة آحاد أولها في 29/4/2007) أراد تعظيم خبره من طريق المبالغة والتفضيل، وأمثلته وأفعله. فمادة الأخبار المادية إنما هي كابل أسود ينثر الدم و”نتف اللحم الآدمي” في علوّه وهويّه على الجسد المحشور في دولاب المطاط الأسود (مصطفى خليفة)، أو زاحفة أبو بريص، تُجوَّع أياماً وتسلط على سجين سجن الحرجلي، فـ”تهجم أرتالها على السجناء العراة في القيظ، وتروح تنهش لحمهم وتمزق منه نتفاً تلتهمها” (“اللبناني بلا جنسية”)، أو الكرسي الكهربائية تترك من لَسَعته شحناتها، وتدوم واحدتها في المرحلة الثالثة 30 ثانية، مغمياً عليه، ومنطرحاً أرضاً، منطبق الفكين، متخشب الشفتين، سابحاً في لعابه ومخاطه وبوله (أنطوان الخوري حرب). وهذه المادة أشياء كثيرة أخرى تخلف في من يقسر على اختبارها عاهات وأضغاثاً وأهومة لا يشفى منها جسد ولا نفس أو روح، على ما أخبر فرج بيرقدار وياسين الحاج صالح (السوريان) قبل أقل من عقد من السنين وغداة خروجهما من السجون “العربية السورية” (وهي على الدوام جمع أحصى منها “لبنانينا” 15 سجناً في سبع سنين متقطعة بنحو عقد تام).

وعلى هذا، لا حيلة للقارئ في الإقرار بأن كلام السجان السوري، أو “العذّاب” على ما جاء في بعض اخبار ابي جعفر الطبري الأخباري (المؤرخ) عن عهد الحجاج الثقفي، “بطل” روائي قائم بنفسه وتام البطولة. وحين يتذكر الرواة والقُصاص حوادث سجنهم واعتقالهم، لا يسعهم إغفال هذا الوجه من وجوه السَّجن الكثيرة والمكفهرّة، أو تذويبه وحله في الوجوه الأخرى. فإذا قرأ القارئ ما يرويه مصطفى خليفة، من توقيفه في مطار دمشق الى فصل استجوابه وتعذيبه الأول في مبنى الأمن ثم نومه ليلته الأولى من ليالي أعوامه الثلاثة عشر، وانتخب من سياقة الخبر ما يقتصر منها على الكلام وحده، لأدت المرآة الكلامية أو اللغوية معظم معاني الخبر وصوره. فهو لا يكاد يركب سيارة رجلي الأمن اللذين اقتاداه، من غير تعليل، من المطار، ويسأل احدهما عن سبب “الإجراءات”، أي الاقتياد الى حيث لا يعلم، ويمهد لسؤاله بتوسمه “خيراً إن شاء الله” من إركابه السيارة، حتى يأتيه الجواب حاسماً وبليغاً وساكتاً: “يصالب سبابته على شفتيه، لا ينطق حرفاً… فأسكت”. والإشارة، وهي في عداد تلك التي يفهمها اللبيب (على القول الشائع)، تقطع كلام المستفهم على نحو ما تقطع إشارةُ صاحب السلطان قولَ القائل، وتودي به الى الموت من غير قول، أو الى السجن المدمر والقاتل.

والإشارة هي “كلام” الكبير، أو الراشد سناً والحليم المقتدر، الى الولد القاصر و”السفيه”، وإلى المرأة الناقصة العقل، وإلى من يقول فيه “العلماء”: “وهذا لا يكلم”، بعد ان قالوا في كلامه: “وهذا كلا شيء” أو “هذا ليس بشيء”. فينبغي ان يكون الكلام كله في جهة واحدة. فلا يقسم، هو والحقوق المترتبة عليه، في جهتين أو على جهتين. فمثل هذه القسمة تنم بالمساواة أو بما يشبهها، ويرهص بها، وقد يستدعيها ويستقوي بها، مدعيها وصاحب دعواها. وعلى هذا، مدح الشاعر العراقي المناضل، ومنفي نوري السعيد الى براغ وصدام حسين الى دمشق، الجراح ـ وهو يريد جراح الضحية الشهيد (شقيقه يومها) ـ بأنها “فم” واستدرك على حمله الجراح على فم، أي على صاحب قول مثل غيره من اصحاب القول وعامة الناس. فقال انها فم “ليس كالمدعي قولة/ وليس كآخر يستفهم”.

تعليم الأسماء

فينبغي ان يفهم مصطفى خليفة، “المستفهم” والعامي وطالب علل للحوادث والأحوال والناسي (فهو نسي انه تلفّظ قبل سنين، بباريس، “بعبارات في حق رئيس الدولة”)، ان الاستفهام قرينة ضعف، ومكانة واطئة، وخلق دنيء. فلا ينبغي، لمن يسعه الأمر ويقدر عليه، إلا قول كلام لا يقسم، ولا يجوز تقاسمه. فإذا صاح، من آخر الممر الطويل الذي يمشيه المعتقل الجديد وسجاناه، شاب لا ريب انه من اهل المبنى الأمني وعماله، بالقادمين، ونادى أحدهما نداء تقرَّب به إلى احدهما: “اهلين موسى!”، وأكمل: “شو؟ أخضر ولا أحمر؟” (يريد: هل الموقوف إخواني أو “شيوعي”)، جاءه جواب الاستفهام: “كلو أخـ… من بعض”. وهذا جزاء المستفهم “الصديق” والزميل والطليق “الحر”. فكيف يكون جزاء العدو والغريب والسجين “العبد”. وحين يغفل أحد السجانين، وهو زميل وصديق وطليق آخر، عن تعهد سجينه بما يليق به من تعمية وتكحيل موقت، فيتركه يلتفت الى مصدر “صوت زاعق”، على قول خليفة، ينبهه العذّاب المحتقن الوجه والمزبد، متلطفاً ومهذباً: “طمش عيونه، ولاه حمار!”.

فلا العبودية ولا الحيوانية كناية أو مجاز في عالم لا يتقاسم الكلام، ولا يتولى من الناس والأشياء ما يتولاه منهم ومنها على وجه التقريب أو التشبيه. وعلى خلاف تقريب الاستفهام وتشبيهه أو اضطرابه، ينزل كلام الفم الآمر نزولاً محكماً لا لبس فيه. وعليه، فالسجان العذّاب والجلاد (الحزبي السوري) معلّم ومربّ. وهو معلم لغة وتسمية أولاً. وموضوع تعليمه هو الفرق بين المراتب، أي بين مرتبتي السيد والعبد. فإذا تحير مصطفى خليفة في اللفظة التي يخاطب بها سجانيه وجلاديه، في مقتبل عبوديته (يقول “اللبناني بلا جنسية”: “مثل العبيد في أزمنة النخاسة كنا، نحن السجناء، نساق الى العمل اليومي في مزرعة العميد ـ مدير السجن ـ والرائد ـ مساعده”، الحلقة الخامسة)، اختبر لفظة “أخي”. فجاءه جواب أيوب، العذّاب، بعد صفعة: “ولاه كلب، أنا أخوك؟ أخوك بالخان”. فجرب لفظة أعلى وأشرف، على ما حسب. فقال “أستاذ”. فصفعه أيوب، على نحو ما يصف القصص الأدبي التعلم، وقال له: “أستاذ ببيت أهلك، بين فخاذ أمك”.

وليس في حمل أيوب المعلم الأستاذية على طباع الحيوان، وسفاح “محارمه”، افتئات ولا إثخان. فمرتبته ـ وهي وحدها مرتبة أو رتبة وما عداها ليس مرتبة أدنى بل هو نفي المرتبة كلاً وجميعاً، ولا تفيد إضافة “الإنسانية” إليها شيئاً بل قد تفهم شركاً وذمّاً ـ مرتبته هذه لا تقبل التقاسم، شأن كلامه. وانتهى بالمتعلم عن يد معلمه هذا أن اهتدى، ولعله هدي، الى اللفظة المناسبة وهي: “سيدي”. ويضطر مصطفى خليفة، على خلاف “لبناني” محمد أبي سمرا، إلى تذييل علمه المناسب بتعليقه: “هذه الكلمة لا تستخدم هنا كما بين رجلين مهذبين”. ويخال كاتب التعليقة ان القراء لم يفهموا بعد، فيقفي: “هذه الكلمة تنطق هنا وهي تحمل كل معاني الذل والعبودية”. وتشرح قصة أنطوان الخوري حرب معنى السيد والسيادة شرحاً وافياً. فهو سمع جلاداً من جلادي معتقل “البوريفاج” بالرملة البيضاء، على مسمع البحر الأبيض المتوسط وموجه، يقول لمعتقل يستصرخ الله، ويناشده الرحمة: “ما في الله هون ولاه! في أنا وبس” (وحدي). فمن هو حيث “لا إله”، على ما جاء في التنزيل على لسان “نفس” الكافر، ليس سيداً وحسب، بل هو مصدر السيادة والتسيد، وهو تحقيقهما من غير منازع.

حياء الرجولة

فإذا اجتمعت معاني الطفولة والقصور والعبودية والحيوانية في السجين صدق انه “أنثى”، وأنه فرج خالص، وأن حكمه هو حكم الاستيلاء أو الأرض الموات. فيصفه “أميره” و”سيده” من نظرة أولى، بـ”النعنوع”، و”الأستاذ”. و”الأستاذ النعنوع” لا يستحق في الطور الأول من العذاب، طور “المزح”، على قول من تعلو مرتبته مرتبة أيوب، إلى الخيزرانة، جواباً عن سؤال أيوب: “سيدي! كابل ولا خيزرانة”. و”النعنعة” و”الأستذة” لفظتان تمهدان الطريق الى الأنوثة المحض وهاويتها. وهما تدلان الى الحال الاجتماعية المفترضة التي تعيِّن السجين عدواً، أي على نقيض السجانين الجلادين وحزبهم والسلطة “السياسية” التي يصدر السجانون عنها. فـ”الأستاذ النعنوع” هو المنقطع زوراً وبهتاناً وحقيقة من “نحن” الجلادين وحزبهم وسلطتهم و”شعبهم” (واللفظة لا يتلفظ بها أحد، ولا محل لها لا من الإعراب ولا من البناء أو من الاستتار في المصطلح العامي والجاري، على خلاف انتفاخ أوداج المثقفين الحزبيين وخطابتهم بها). ومن هذا شأنه حق فيه ألا ينسب إلا إلى أمه، وإلى ولادته من غير نسب أبوي، وهو نسب “شرفاء” الناس. فهو، أينما توجه في عالم السجون الحزبية البعثية ـ ولا سجون سورية اليوم على صفة أخرى ـ “ابن شر…”. وقد يخصص فعل الانتهاك الذي يتحدر منه السجناء جميعاً، ويجمعهم ويوحدهم في حزب، حزب “الحمر” أو حزب “الخضر”. فإذا بـ”التنظيم” (الإسلامي)، على قول لا يدفعه صاحب العذاب وانتهى إليه من طريق شيوع ثقافة حزبية تؤاخي بين المنظمات الحزبية على اختلافها، فإذا به “تنظيم المنا…ك”. فالبغايا، وهن فرج محض، يلدن من ليسوا إلا أستاً محضاً، ودبراً عقيماً (و”مقززاً” على قول فقيه سياسي).

ولعل وظيفة القول، واقتصاره على أمر وتسمية اصطلاحية في عالم السجون السورية البعثية، هي تثبيت الفرق بين الجلادين و”أمراء” السجون وبين السجناء “العبيد” و”الحيوانات” و”النساء”، على ما يفترض في طرائد هذه السجون وضحاياها أو مادتها ان يكونوا. فسجناء السجون الحزبية والعقائدية هذه وهم على الدوام، وعلى أضعف تقدير وألطفه، “كلاب” أو “حمير” أو “تيوس” ومرادفاتها، أو هم البراز والغائط في اللفظة الفظة التي تدل بها العاميات العربية (ويجوز ردها الى الفصيح من غير تعسف)، على البراز. ومن طريق تسمية البراز، ووظيفته، ينسب المعتقل إما الى الحيوان أو الى المرأة. فإذا لم يتمالك خليفة نفسه بعد ضربه عشرات الضربات بالخيزرانة، وغشي، ثم أفاق من غاشيته وقد غاط في ثيابه، انتهره “المعلم” أيوب، سيد الأسماء، وعنفه وقال له: “ولك شو؟ مانك رجّال؟ العمى بعيونك ما بتستحي تـ….خ تحتك؟”. والتذكير بالرجولة، حيث تتعمد إرادة الإذلال الاغتصاب حين تسنح الفرصة، مهماز لا يشك الجلادون في حمله الضحايا، وهم يترنحون ما داموا في قبضة الجلادين بين الإنسية وبين البهيمة، على التماسك.

و”التماسك”، أي الرجولة او التأنس الذكري، لفظة يستعملها جندي سوري رأى “اللبناني” مغشياً عليه، ومطروحاً على طريق بحلب، في 1984، بعد ان شهد على جنود يرمون 19 رجلاً بالرصاص ويقتلونهم في الطريق العام، وقال له: “قوم تماسك، أنت رجّال”. والجندي قالها على وجه التقرب والرعاية، ولم يشك في تحفيزها “الرجل” على استعادة “ذكورته”. ولكن العذّاب والجلاد قالها ناعياً على مصطفى خليفة برازه وهو غائب عن الوعي، على ما درج القول، وخال من التبعة عما يصنعه جسمه في حاله هذه. فينكر السجان، الآمر والناهي في سجينه، على السجين حيوانيته التلقائية التي رده إليها، وقسره عليها على رغمه. وهو يناشد “الكلب” و”الحمار” و”التيس” والـ”خـ…” و”ابن الشـ…” الذي بين يديه، الأَوْبة الى رجولته، ويعيّره النزول عنها ولو مكرهاً وغير مختار.

جدارة الضحية بالتعذيب

فالرجولة، تلك التي يخشى العذّاب انتفاءها ممن يعذبه، هي ذريعة العذّاب الجلاد الى إهانة ضحيته، من وجه، وإلى حمل الضحية على الكلام و”الحكي”، من وجه آخر. فهي ما يحتاج إليه الآمر الناهي من الضحية لتبقى جديرة بالتعذيب والعداوة والتمثيل، ويبقى فيها متكأ، غير حيواني وغير أنثوي أي غير عضوي أو بيولوجي خالص، يخاطبه الجلاد المقرِّر، ويدعوه الى الإقرار والاعتراف من طريق ليست طريق التسليم والإكراه والإرغام. فإذا صدق ان ثمة طريقاً غير طريق الحيوانية وإكراهها، وقدر الجلاد على بلوغ ضحيته، فاستجوبها واستنطقها وأجابته، نهض هذا دليلاً على علو مرتبة الجلاد في مراتب الجلادين، وأيقن هذا انه ليس بهيمة تخيف بهيمة أدنى منها رتبة وطبعاً، وأضعف أوداً وحسب، فلا حيلة لها إلا الانصياع والإذعان، في أول المطاف أو في آخره.

وليس هذا مما يأنف منه الجلاد. ولكنه لا يتستر على بعض الخيبة: “ولاه كلب شوف! لسَّه ما بلشنا معك، صار فيك هيك، لسَّه هذا كله مزح وما بلشنا الجد”. فـ”المحقق” (وهو من يحمل عمله، أي استجوابه وتعذيبه وتحقيره ودوسه ضحاياه، على مطابقة أقوال الضحية حقائق أفعاله) يدل بموارده، ما لم يُعمله بعد من قوته، على ضحيته وطريدته. ومثل الإدلال هذا، والمتعة التي تصاحبه وتجزيه، يفترضان في الضحية قوة على استباق فصول التعذيب التي يلوح بها صاحب العذاب، ويعد بها ضحيته. ويدعو المستجوِب باسم الحزب مأموره وعبده الى التسليم والامتثال و”حكي كل شي” قبل التعذيب. ولا تصدق الدعوة، ولا مسوغ لها تالياً، إذا لم يجمع الاثنان، من يطلب جواب سؤاله عن “الحقيقة” ومن عليه الإقرار بـ”حقيقته”، ضمناً على تخيل الحال المترتبة على سكوت المستجوَب أو كذبه. فإذ ذاك، أي إذا اعتصم المعتقل بالصمت أو بما يسميه “سيده” “الغشمنة” (“عم يغشم حاله”) أو المراوغة والتحايل، اقتصر صاحب العذاب والسؤال، “المحقق”، على البهيمة الكاسرة. وخسر جزءاً من نفسه لا يعظمه ولا يستهين به معاً هو الجزء “الذكي” الذي ينفذ الى أعماق ضحيته، ويستخرج منها “حقيقتها”، من غير ان يضطر الى إعمال البهيمة أو الآلة وحدها (من نفسه) في الضحية.

فـ”التحقيق” الحزبي، البعثي السوري، يصنع من يستجوبهم، ويسلط عليهم السؤال (على قول فرنسي)، في ختام سفر أو رحلة (على زعم صوفي)، تنقلهم من دائرة الى دائرة، أو من مقام الى مقام على مثال مركب وبسيط معاً. فيتحولون، في الأثناء، أولاداً أو أطفالاً يكلمون بالإشارة، وغائطاً لا يشبه إلا الغائط، وحيوانات تنتخب من الأنواع الداجنة التي تخلقت ببعض خلق الإنس من كلبنة وحمرنة وتيسنة ومسافحة، ونساء يختصرن في فعل واحد يسقن إليه ويقبلن عليه، ويتطبعن به، ويَطبعن به، وبخلافه “الطبيعة”، من يلدن من “أشباه” الرجال. وفي ختام التحولات هذه، يطلب الى السجناء، الى تجالدهم وتماسكهم، شيء واحد هو “حكي كل شي” من غير بقية أو مسكوت عنه. فينبغي والحال هذه، أن ينفض “الرجّال” عنه، ويغير ما صنعه به “أميره” السجان الحزبي من تأنيث وحيوانية وعبودية وتنفيل وانصياع وانقطاع من نسب وتلقن اسماء. وعلى السجين ان ينفض هذا عنه كرمى صاحب عذابه، وحزب أصحاب العذابات كلها. فإذا فعل هذا، و”حكي” وأمسك عن البراز في ثيابه واستبق ما يريده منه مستنطقه، ارتفعت مرتبة سجانه في عين نفسه (نفس السجان)، واطمأن السجان الى علو شأنه وكعبه في عالم العذاب و”التحقيق” و”الحكي” والتسيد على “الحشرات”.

وليس عسيراً البرهان على ان استواء لغة الجلادين الحزبيين 7-7-بطلاً7-7- مجلياً في ميدان السجون الحزبية، لا ينفك من قرابة جامعة تشد هذه اللغة الى لغات اخرى يومية وسائرة، ميادينها وحقولها الأسرة وسكن المدن وأحيائها والنزوح والعمل وغيرها مثلها. وتلابس قرابة اللغات هذه اطوار السياسة والاجتماع السوريين ملابسة وثيقة، ولعلها وجه من وجوه حدوثها وأدائها. وبعض هذه الأطوار ترتسم في كتاب مشترك نشر بالفرنسية، وسمه اصحابه بعنوان “سوريا حاضراً، صور في مرآة مجتمع” (سندباد ـ أكت سود، 2007). ويلاحظ، قبل تناول الكتاب هذا، ان اللغة التي تحضنها السجون الحزبية، ويلغو بها سجانوها و”محققوها” وجلادوها، هي قاع اللغة السياسية التي يلغو بها أهل السياسة السوريون علناً، والتربة التي تغذي خطابة هؤلاء على رؤوس الأشهاد وشاشات الشبكات والقنوات. فمن “عبد مأمور عند عبد مأمور” و”منتج إسرائيلي” و”أشباه الرجال” الى “اتفاق الإذعان” و”ولد ميتاً” و”قلعة الصمود” و”موقع الممانعة” و”لا يضغط علينا أحد”، تختال لغة آمرة ومنتشية بنفسها، لغة “فم” لا تدعي قولة ولا تستفهم، تنزل الناس على مراتبهم، والأشياء والحوادث على منازلها، وتنتصب لتعلم الأسماء كلها من لا بد لهم ان “يحكوا” “من طق طق للسلام عليكم” على قول “سيد” أيوب.

“المستقبل – نوافذ”

2 تعليقات
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
تانيا خوري
تانيا خوري
16 سنوات

السجين بين يدي عذّابه الحزبي وسيده: حيوان وبراز وابن زنى وامرأة وعبد وشبه رجل
ممكن حاج تتفزلك عن السجون السورية وتحكيلنا شوي عن السجون الاسرائيلية ولا اقول لك حكيلنا عن تخبيص اللبناني وعمالته لاسرائيل بيكون هيك اهضم

ضيف
ضيف
16 سنوات

السجين بين يدي عذّابه الحزبي وسيده: حيوان وبراز وابن زنى وامرأة وعبد وشبه رجلالعبودية المختارة” في عام 399 قبل الميلاد، أدانت أثينا الفيلسوف الشهير سقراط وأعدمته، بدفعه لتجرع سم الشوكران. وفي عام 509 قبل الميلاد سقط الفيلسوف والمصلح الديني فيثاغورس قتيلاً على يد الرعاع في جنوب إيطاليا. وفي القرن الثاني بعد الميلاد سقطت عالمة الفلك والرياضيات “هيباتيا” صريعة بنفس التهمة، على يد المتعصبين، كما جاء ذلك في كتاب “الكون” لكارل ساجان، ويرتبط استشهادها بتدمير مكتبة الإسكندرية بعد تأسيسها بسبعة قرون، وهي المكتبة التي حوت يومها نصف مليون كتاب في أعظم عمل علمي يجمع كل معارف الجنس البشري حينئذ. وفي زمنه… قراءة المزيد ..

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading