مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات
لم تكن طريق البشرية في سبيل الحرية والعدالة ـ طريقاً هينة طيعة , بل كانت طريقاً صعبة ً شاقة قدّمت فيها ملايين الضحايا عبر مراحل تاريخية طويلة .
وبعد معاناة مؤلمة وحروب مدمرة , استطاع المجتمع الدولي أن يتوصل إلى الاتفاق على أن البشر يولدون أحراراً متساوين في الحقوق والواجبات . وعلى الدول جميعاً أن تحمي حقوق الإنسان وحرياته الأساسية , لأن ازدراء هذه الحقوق قد أدّى إلى أعمال همجية آذت الضمير البشري . وانطلاقاً من هذا الاتفاق فقد صدرت عديد الإعلانات والمواثيق الدولية التي تتضمن : اعترافاً بحقوق الإنسان من جهة , وتعهداً بتأمينها وحمايتها من جهة ثانية , وعدم جواز الحد منها أو التضييق عليها .
* * *
يعيش الإنسان الفرد ضمن حدود دولة عليها حماية حرية وحقوق مواطنيها جميعاً ـ وصيانة حياتهم وممتلكاتهم , ومن ثم فإنّ وقوع أي اعتداء أو فعل جرمي يحتم اتخاذ تدابير وإجراءات تمسّ أو تحد من حقوق الإنسان . بمعنى إنّه إذا وقعت جريمة على حياة أو حرية أو ملك شخص ما ـ أو على المجتمع بكامله فإنّ إجراءات الكشف عن الجريمة وملاحقة الفاعل ومحاكمته وعقوبته ـ تتضمن قيوداً على حرية الفرد أو انتقاصاً منها . وهنا نجد أنفسنا أمام مصلحتين ” متعارضتين ” إلى حدّ ما ـ مصلحة المجتمع في حماية قيمه وكيانه وأفراده ومصلحة الإنسان الفرد في حماية حريته وحقوقه ـ وإذا كان القانون الجزائي بقواعده الموضوعية والشكلية ـ هو القانون الذي يحدد كلّ جريمة وأركانها والإجراءات المقبولة للملاحقة والمحاكمة والعقاب . فإننا ! نصبح أمام سؤال عن المبادئ التي يتضمنها لتأمين التوفيق بين المصلحتين ” المتعارضتين ” بحيث يستطيع المجتمع حماية كيانه وقيمه من جهة ولا يضار الإنسان الفرد أو تقيد حريته إلا بالقدر المناسب وبما يضمن الكرامة الإنسانية , من جهة ثانية .
* * *
يمكن القول : إنّ مبادئ التشريع الجزائي ـ تشكل الضمانة القانونية لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية وحمايتها من غائلة الاعتداء عليها . ويضعنا غياب هذه المبادئ أمام سلطة القهر والقوة التي تولد بدورها مجتمعاً خائفاً ضعيفاً ومتخلفاً أفراده قلقون مذعنون , ومسلوبو الحرية ـ فاقدو الفعالية والتأثير في الحياة العامة .
* * *
يشكل مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات أحد مبادئ القانون الجزائي ـ الضامنة للحريات العامة وحقوق الإنسان ـ وهو مستمد من تجارب البشر عبر التاريخ , ومن اعترافهم واتفاقهم في المواثيق والإعلانات الدولية على أنّ الأصل في الأشياء الإباحة . ولا يمكن أن يُجرم فعل ـ لم ينص القانون على تجريمه قبل ارتكابه . وأكدت هذا المبدأ المادة / 29 / من دستور الجمهورية العربية السورية .
” لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني ” .
وعبرت عنه المادة الأولى من قانون العقوبات السوري بنصها :
” 1- لا تفرض عقوبة ولا تدبير احترازي أو إصلاحي على فعل لم يكن القانون قد نص عليه حين اقترافه .
2- لا تؤخذ على المدعى عليه الأفعال التي تؤلف الجرم وأعمال الاشتراك الجرمي الأصلي أو الفرعي التي أتاها قبل أن ينص القانون على هذا الجرم ” .
ونصت المادة السادسة :
” لا يقضى بأية عقوبة لم ينص القانون عليها حين اقتراف الجرم ” .
ويعني مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات عدم جواز تجريم فعل بدون نص قانوني يحدد الفعل الذي يرد عليه التجريم وأركانه وشروطه , ويحدد العقوبة وخصائصها .
ويعني من وجهة النظر القانونية . أن النصوص العقابية , لا يجوز أن تتعارض مع الإعلانات والمواثيق الدولية والنصوص الدستورية . لأن قواعد القانون الجزائي تخضع لمبدأ تسلسل القاعدة القانونية ـ الذي يحتم عدم مخالفة القاعدة الأدنى للقاعدة الأعلى مرتبة . ومن ثمّ لا يمكن للمشرّع الجزائي أن يجرّم أفعالاً اعتبرها الدستور حقوقاً ثابتة للمواطن وواجباً عليه أحياناً , مثل حرية الرأي والتعبير , وحرية التجمع السلمي والحق في المشاركة في إدارة شؤون البلاد …. وغيرها .
وينتج عن هذا المبدأ النتائج التالية :
1- لا يجوز أن تفرض أو تمارس عقوبات مهينة للكرامة الإنسانية مثل الجلد والتعذيب والوشم وجدع الأنف وبتر الأطراف …. وغيرها .
2- لا يجوز أن تخوّل أية جهة بفرض عقوبات لم ينص القانون عليها .
3- لا يسوّغ للقاضي اعتبار فعل من الأفعال جرماً إلا استناداً لنص صريح ـ ولا يسوّغ له أن يستند في التجريم على القياس أو على مصادر القانون الأخرى التي ذكرت في القانون المدني مثل الشريعة الإسلامية والعرف .
4- لا يسوّغ للقاضي أن يستبدل بالعقوبة المنصوص عنها في القانون عقوبة أخرى أشد .
بمعنى آخر فإنّ مصادر التجريم والعقاب محصورة في نصوص القانون , وتحديد الأفعال الجرمية وبيان أركانها والعقوبة المقررة لها من حيث مقدارها ونوعها . كل ذلك من اختصاص المشرع وليس للقاضي شأن في ذلك سوى تطبيق النص . وهذا لا يعني أن القاضي لا يستطيع أن يفاضل بين نصين فإذا وجد أن تحديد الجريمة أو العقوبة يخالف نصاً أسمى ـ فإنه يطبق النص الأعلى مرتبة ويهمل النص المخالف .
ويتفرع عن مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ـ مبدأ عدم رجعية النصوص العقابية . لأنه لا يجوز أن يحاسب أو يحاكم إنسان على فعل أقدم عليه وكان مباحاً ـ ثم صدر قانون ينص على تجريمه ـ وخلافاً لنصوص القانون المدني التي يمكن أن تطبق بأثر رجعي إذا نص القانون على ذلك . فإنه لا يجوز أن يطبق النص الجزائي بأثر رجعي إلا إذا كان أصلح للمدعى عليه .
* * *
انطلاقاً من أن الأسس السابقة الذكر , من حقنا أن نتوقف عند بعض القوانين التي تشكل مخالفة صريحة للمبادئ الدستورية ـ وللمواثيق والإعلانات الدولية التي صادقت عليها الجمهورية العربية السورية ومـنها :
أ- قانون إعلان حالة الطوارئ :
الذي أعطى في الفقرة ” ز ” من المادة الرابعة للحاكم العرفي ونائبه تحديد العقوبات التي تفرض على مخالفة الأوامر التي يصدرها الحاكم العرفي أو نائبه ـ على ألا تزيد على الحبس مدة ثلاث سنوات وعلى الغرامة حتى ثلاثة آلاف ليرة سورية أو إحداهما …. إلخ .
وإذا عرفنا أن الأوامر التي يحق للحاكم العرفي ونائبه إصدارها ـ تتعلق بفرض القيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والإقامة والتنقل في أماكن وأوقات معينة وتوقيف المشتبه بهم …. وتحري الأشخاص والأماكن في أي وقت …. وتكليف أي شخص بتأدية أي عمل من الأعمال ـ ومراقبة الرسائل والمخابرات وتحديد مواعيد فتح الأماكن وإغلاقها …. وغيرها من الأوامر المشابهة . يمكننا القول : إنّ التدابير بحد ذاتها تشكل عقوبات . فما بالنا إذا أعطى القانون للحاكم العرفي ونائبه حق فرض عقوبات لم يعلم بمقدارها أحد .
ب- القانون رقم / 49 / لعام 1980 :
الذي فرض عقوبة الإعدام على كل منتم ٍ لتنظيم الإخوان المسلمين . هذا القانون الذي لم يأت نتيجة نقاش وبحث تشريعي بقدر ما جاء نتيجة ظرف راهن أثناء الصدامات بين السلطة وبعض من تنظيم الإخوان المسلمين في سورية . أي ردة فعل عرجاء على واقع مشوه . لذلك جاء النص مخالفاً للمواثيق والإعلانات الدولية ـ ومخالفاً للمبادئ الدستورية التي تضمنها الدستور السوري .
هذان المثالان اللذان نكتفي بذكرهما في هذا المجال يدلان على انتهاك مبدأ شرعية الجرائم والعقاب وعدم رجعية النصوص العقابية . ويؤكدان إن المطالبة بإلغاء هذه النصوص وما يماثلها تشكل واجباً وطنياً من الدرجة الأولى ـ ووقفة أولية للدفاع عن ضمانة من ضمانات حقوق الإنسان وحرياته الأساسية .
السويداء في 8/8/2007
مخطئ أنت
من يظن أن المصادمات بين الأخوان و المسلمين و السلطة في سوريا وقتية أو انتهت مخطئ – انتظر حتى تصبح سوريا كالعراق لتعرف الوضع الحقيقي أن لا شيء تغير