انطلقت مآذن المساجد في كوردستان العراق بالتكبير والتهليل – هم مسلمون إذاً!!! ابتهاجاً بصدور أحكام الإعدام في بغداد على علي حسن المجيد، الكيماوي، لا لأنه له إسهامات علمية في حقل الكيمياء، بل لأنه استخدم الكيمياء الحية في قتل الحياة والأحياء. وهو رمز الإجرام الميداني البشع، والذي اختزل عروبة العراق في سلوك حاقد، قلّت فيه علامات المروءة والسماحة، حاقد متخلّف وعارٍ من القيم والمبادئ… ما يخاف معه الغيارى والمحبون للأكراد أن يدفع أجيالهم الى شوفينية كوردية مضادة، مفهومة على كل حال، ولكنها ضارة بهم وبالعراق، لأنها تعني تعطيل المشتركات الرحبة والعميقة بينهم وبين عرب العراق والعرب عموماً، وكلهم ذاقوا من جور صدام وإجرامه ما ذاقوا.
ومن أجل تلافي هذا المصير، يصبح حتماً على العرب، بعض العرب من شعوب ودول، أن يكفوا عن استعلائهم على الأكراد ونسيانهم وعدم تذكرهم إلا عند الرغبة بالشك فيهم، بحيث تذهب الى كوردستان متوقعاً أن ترى الموساد في كل شيء، فلا ترى، تنتبه الى أن البيت العربي من زجاج… وأن يكفوا، أي العرب، بعض العرب عن تمجيد صدام حسين ورفع صوره وكأنه بطل قومي حقيقي، وكأن الكويت من بلاد يأجوج ومأجوج!
وهو الذي لم يترك للعروبة جنباً ولا خاصرة ولا قلباً ولا رأساً ولا روحاً ولا أمساً ولا غداً، من دون جراح وتشويهات وأعطال دائمة.
ويتذكر الجميع خطابات التمجيد والتظاهرات التي رفعت صور صدام حسين على أنه شهيد العروبة المطعونة والمنتهكة وشهيد الإسلام الذي وضع في البداية في مواجهة المشروع القومي ووضع القوميون القومية في مواجهته، وأكل كل منهما ما أكل من الآخر، حتى تآكلوا وتآكلنا وأُكلنا… ليعود هذا الإسلام السياسي المسكون بالتطرف، وبعد الانكشاف في الحركة القومية، ليحمل ويحمّلنا شعارات وموبقات صدام حسين!
علي حسن المجيد، شبه الأميّ، الزاحف على بطننا وظهر العراق من عريف سائق شاحنة في الجيش العراقي الى وزير داخلية ووزير دفاع في مفاصل صعبة، وحاكم للكويت إبان احتلالها، وفاعل الأفاعيل فيها، والذي نزل الى الشارع إبان انتفاضة عام 1991 والتي لم يُنج النظام منها سوى النجدة الأميركية ونخوة (شوارزكوف) واستخدم قدميه ومدفعيته في قتل الناس ودك المدن مع رفيقه سلطان هاشم أحمد، آخر وزير دفاع في عهد صدام، والذي استكمل مع صدام عملية تهميش الجيش العراقي بعدما أنجز تفريغه من كفاءاته وحوّله الى ذيل أو ملحق بالقوات الخاصة التي أسسها النظام وحصر الشأن العسكري فيها وأخلاها من أي معيار مهني أو أخلاقي، وأوكل أمرها كاملاً الى «قصي وعدي» يستخدمانها يومياً في عملية استقواء كل منهما على الآخر، والاستقواء المشترك بينهما على الجيش والحزب والشعب والأمة والدولة.
الى أن كان الاحتلال، وظهرت النتائج الفاضحة الفادحة، حيث كانت كفاءات الجيش في منازلها أو منافيها أو سجونها أو مقابرها… وقاصرون فارغون جمّاعون للمال الحرام في زمن الحروب، تركوا العراق، وبغداد خصوصاً، عارية، وبعدما اكتمل الاحتلال. عاد كثير منهم منخرطاً في صفوف القاعدة وسائر فصائل التكفير، ليحولوا المشروع العربي الى رديف للحشاشين الجدد الذين لا يوفرون أحداً، ويوقظون بسطاء الناس، بجرائمهم، على مكوِّنات مذهبية، لم يكن من شأنها ولا مرة، أن تكون مؤثرة أو فاصلة بين مكوِّنات الشعب العراقي، لولا الخطة الخبيثة لتدمير الاجتماع العراقي وإعاقة أو منع بناء الدولة التعددية الجامعة والقادرة.
حسناً هناك داع للإطالة لأن في الصدر كثيراً من المكبوت، ولن أطيل… وأعلن ندمي وتوبتي مما اقترفته واقترفه معي كثيرون من أهل الرأي والفكر والأخلاق من العرب… لقد كانت هناك ثغرة كوردية في وعينا وفي أخلاقياتنا، صحيح أن بعضنا، كان يقول احتجاجه علناً ولكن نادراً، ويقوله همساً كثيراً. ولكن الجميع كانوا يمرون بـ «الأنفال وحلبجة»، وكأن المئة وثمانين ألفاً – منهم خمسة آلاف في «حلبجة» معظمهم من الأطفال، قد ماتوا بلدغة أفعى واحدة في خمس دقائق. وكأن الأربعة آلاف وخمسمئة قرية كوردية وادعة وجميلة، سويت بالأرض، تختلف كلياً في مأساتها – لأن مرتكبيها منسوبون الى العروبة – عن مأساة أهلنا وأرضنا في فلسطين المنكوبة الآن، من تجريف البيارات الى التهجير والقتل والجدار العازل، والمفارقة أن إسرائيل تهوِّد الأرض من دون الناس، أما علي حسن المجيد وزبانيته فقد كانوا يعملون على تعريب أرض كوردستان وأهلها! ومن أجل ذلك اقتلعوا من بقي من أهل القرى على قيد الحياة من قراهم ومن الشمال عموماً، الى الجنوب، ومن جبال زاغروس الى صحارى الناصرية والبصرة في الجنوب، من القرِّ الى الحر!
وما هذه العروبة التي يحولها الجهلاء الى برشامة لمنع الحمل أو الإبداع العربي في الفكر والسلوك؟
لا بد من أن نشهر عروبتنا صافية ومؤنسنة، حضارية غير نابذة، تكتمل بالآخر ويكتمل بها الآخر، وتتجاوز العرق الى الإيمان والثقافة والقيم… ونشجع الأكراد على إشهار كورديتهم صافية أليفة مزينة بذاكرة نقية منظفة من نفايات صدام حسين وسمومه وارتكاباته.
لقد أقيمت الأحد الماضي، في «حلبجة»، احتفالية شعبية ابتهاجاً بالأحكام التي يمكن أن تشفي غليلاً، ولكنها لن تجدي في تعويض الخسائر، إلا إذا قررنا أكراداً وعرباً، أن نتجاوزها معاً من دون أن ننساها… إن الاحتفالية لا تقول بأنه يمكن من خلال الأحكام أن تستعيد أحداً، وتقول إنه يمكن استعادة العراق عموماً وكوردستان خصوصاً من أجل المستقبل المشترك وعلى أساسه، والذي هو وحده العلاج الشافي للذاكرة المقرّحة.
على أنه لا بد من أن يكون هناك وعي وعمل على أساس أن العراق الذي نرجوه لا يمكن أن يصبح ناجزاً إلا إذا كانت وحدة العراق راسخة وناجزة، والوحدة الناجزة والدائمة، هي التي لا تلغي أحداً لمصلحة أحد، لأن الإلغاء في المحصلة وفي التجربة، ليس لمصلحة أحد أبداً، ومن يلغي الآخر الشريك، يلغي ذاته أولاً.
في آخر يوم من أيام أسبوع المدى الثقافي الذي كان أبرز فعالياته تكريم الجواهري شاعر العرب وإزالة الستار عن تمثاله في أكبر وأجمل حديقة كردية في أربيل وتسمية الأسبوع باسمه تمهيداً للاحتفاء لاحقاً بالشاعر الكردي العربي أحمد شوقي، ذهبنا صحبة الدكتور بطرس الآشوري الذي لا يتحدث إلا بالعربية الفصحى، فحادثنا الأساتذة والطلاب في كل شيء بعربية فصحى وعامية عراقية فيها نكهة مركبة من الفرات ودجلة والزاب. أما مساجد كوردستان الفارهة – مسجد الخياط – والصغيرة المنمنمة في قرى القصب، فهي ترفع الآذان وتهلل وتكبِّر في الفرح والحزن بالعربية الفصحى ذاتها، أرجو أن يتنبه أهل العدل والعقل من العرب الى تصرفات منتظرة من شراذم عربية تحاول أن توحي بأن جريمة – الجنوسايد – الإبادة الجماعية، في حق الأكراد هي موضع قبول عام عربي وعروبي!
إن تجوالاً هادئاً في يوم من ربيع كوردستان، حيث النرجس وشقائق النعمان تحوّل الحقول الشاسعة على امتداد الطريق بين أربيل وشقلاوة وصلاح الدين والسليمانية، الى مزهريات… وحيث الأعراس الكردية بألوانها التي تحاكي ألوان الحقول، تقام في الهواء الطلق وعلى جانبي الطرق الطويلة طول بال الأكراد على النهوض من ماضيهم الى حاضرهم وحاضرنا معهم.
هذا التجوال بدءاً من أربيل (هولير) بالكردية، جعلني أكف عن حلمي، قبل وصولي، بأن تكون كوردستان على صورة بغداد، لقد انتبهت الى أن بغداد المعنية هي التي في ذاكرتي وليس مشهد بغداد الآن، غيّرت الاتجاه لأتمنى أن تكون بغداد غداً على صورة كوردستان الآن مشهداً ووعداً، تعدداً ووحدة، أصالة ومعاصرة، كوردية ممتزجة بمقدار من العروبة والعربية، يكفي لتنبيه العرب على دورهم الكردي وعلى أن كمالهم في الآخر الشريك.
أدهشتنا صورة الشراكة المعرفية والفنية والأدبية مرات عدة في أربيل عندما ألقى كبار الشعراء قصائدهم بالكردية والعربية فاستمتعنا مرة واستمتع المثقفون الأكراد مرتين، وعندما ارتجل المسؤولون الأكراد – خصوصاً عدنان المفتي رئيس مجلس النواب – كلمة الختام للمهرجان بعربية فصحى صحيحة ومن دون لحن سوى لحن الحزن المعتَّق والفرح الموعود بعراق معافى.
* نقلا عن صحيفة “الحياة” اللندنية
علي الكيماوي محكوماً: لعل في القصاص حياة للعراق
والله اكبر وعاش العراق حرا وعاشت امتنا العربية المجيدة
المجد و الخلود للرئيس صدام و الخزي و العار للمنهج الدي ينتعش دائما كالقرد على دبابات اسياده