يتحدث جنوبيون من أبناء القرى القريبة من سهل مرجعيون حيث استهدفت الدورية الأسبانية بسيارة مفخخة أدت الى مقتل ستة جنود إسبان تابعين لقوات الأمم المتحدة، عن قيام الجيش اللبناني بحملات اعتقال شملت عشرات من العمال السوريين الذين يعيشون ويعملون في المنطقة الحدودية، إضافة الى عدد من العمال العراقيين. وحين يتحدث الجنوبيون عن هذه الإعتقالات يشيرون الى احتمال اختراق تنظيم «القاعدة» منطقتهم عبر عمال من هؤلاء من دون أن يعني ذلك أي شبهة بإمكان تورط النظام السوري في «الإخلال» بأمن منطقتهم. فالتفجير الذي استهدف الدورية الأسبانية، وإطلاق الصواريخ على مستعمرة كريات شمونة من منطقة قريبة من مكان التفجير قبل نحو أسبوعين عملان يعتبرهما السكان الحدوديون عنصرين جديدين على المشهد الأمني في منطقتهم، أثارا مخاوف كبيرة في أوساطهم وأشعراهم بأن منطقتهم مكشوفة بدورها على احتمالات العنف اللبناني في الشمال والوسط.
المنطقة الجنوبية وتحديداً الحدودية منها كانت قبل هذين الحدثين تعيش على إيقاع مختلف عمّا تعيشه بقية المناطق اللبنانية. المجتمع الحدودي منشغل في ورشة البناء والتعويضات المعقدة التي أعقبت حرب تموز (يوليو) 2006. دول وهيئات وأحزاب ومؤسسات منخرطة في تلك الورشة الجنوبية، إضافة الى قادم جديد أضاف عنصراً جوهرياً على المشهد الجنوبي يتمثل في قوات الأمم المتحدة وطبعاً وحدات الجيش اللبناني. والسكان وعلى رغم المشهد الذي ظهّرته حرب تموز والقرار الدولي رقم 1701 الذي نجم عنها ما زالوا يعتقدون ان هذه العناصر ليست سوى قشرة خارجية وان «حزب الله» هو الواقع الفعلي في هذه المنطقة. أما تفجير دورية «اليونيفل» وقبلها إطلاق صواريخ الكاتيوشا، فالمستهدف بحسب السكان بالدرجة الأولى هو «حزب الله». كما ان نجاح المنفذين في اختراق المنطقة وتنفيذ العمليتين اشعر الناس هنا ان الأمان الذي يخلفه وجود الحزب ليس نهائياً.
الجميع يجزم هنا بأن تنظيم «القاعدة» هو من يقف وراء تفجير «اليونيفل» ووراء إطلاق الصواريخ. لكن «القاعدة» عنصر طارئ على وعي الجنوبيين الذين خبروا الكثير من الموجات التي تعاقبت على مناطقهم بدءاً من سبعينات القرن الفائت. «القاعدة» غريبة ولا تمت الى النماذج التي خبروها بصلة.
الفلسطينيون سبق ان عرفوهم، والأحزاب اليسارية كانت جزءاً من نسيجهم الاجتماعي، واليوم «حزب الله» ومنظومة الحياة التي أنشأها في مناطقهم. أما «القاعدة» فهي عدوتهم البعيدة والتي لا صورة محددة لها في وعيهم. الأمر يضاعف من حيرتهم ومن مخاوفهم، ويعيق إدراج ما جرى في سلسلة من الوقائع المنطقية. فإطلاق صواريخ الكاتيوشا مثلاً من بلدة مركبا باتجاه كريات شمونة قد يفيد إدراجه في الخبرات العسكرية الجنوبية في توقع احتمالات أخرى تبدد الحيرة بحقيقة ذلك التنظيم الغريب الذي يدعى «القاعدة»، فالجنوبيون يعرفون ان إطلاق الصواريخ ليس أمراً اعتباطياً.
وصول الصاروخ الى هدفه يتطلب معرفة بالمنطقة التي يطلق منها وبالهدف الذي يتوخى الوصول إليه. ثمة نقاط تقليدية لإطلاق الصواريخ يعرفها السكان وخبروها على مدى عقود من تعاقب «المقاومات» على بلادهم. ثمة خرائط شفهية لمرابض الصواريخ بعضها درجت تنظيمات محددة على استعماله وبعضها الآخر استحدثه «حزب الله» في حروبه مع إسرائيل. لكن تنظيم «القاعدة» ليس من أصحاب الخبرات المكتسبة جراء تعاقب المقاومات على المنطقة الجنوبية، ولكي يقوم بإطلاق صواريخ عليه الاستعانة بأصحاب الخبرات في هذا المجال. هذه المعادلة وان كانت تبدّد للجنوبي بعضاً من حيرته إلا انها لم تتمكن من تبديد المخاوف الكبيرة الناجمة عن «اختراق «القاعدة» منطقة عمل ونشاط «حزب الله»».
لكن زائر القرى الحدودية في جنوب لبنان سيكتشف ان الخوف الناجم عن «وصول القاعدة» ليس وحده عنصر اضطراب الحياة في هذه المناطق. الحرب التي صُورت نصراً ما زالت جاثمة بنتائجها على حياة السكان. ليس الدمار بل ذلك التعب المقيم في أجسام الناس وفي رؤوسهم، وذلك التسليم بالأقدار والانقياد لها. ويبدو تفجير دورية «اليونيفل» وإطلاق الصواريخ في مرآة التعب الجنوبي استقبالاً لمرحلة اضطراب جديدة وربما تكون مختلفة. «اليونيفل» وبعد ان كانوا في بداية وصولهم مصدراً للشكوى والريبة من جانب السكان يبدو انهم انتقلوا ليتحولوا الى ضحايا في وعي الجنوبيين.
«النصر» بعد سنة على انقضاء الحرب ليس سوى واقعة سياسية للتوظيف الداخلي، أما ما يجرى في هذه القرى فوقائع أخرى. ربما ليس صورة لهزيمة، إنما وزر ما جرى كان ثقيلاً، فقد أصيبت معاني الحياة كلها.
قافلة لقوات الأمم المتحدة تعبر من سهل الخيام – مرجعيون
المقيمون الدائمون لم تعد قراهم صالحة لإقامة دائمة مع ما تفترضه هذه الإقامة من مصادر عيش وعمل وتعليم وطبابة، والمترددون أسبوعياً الى قراهم لم يعد ضيق الحياة هنا يتسع لما تفترضه عطلة نهاية الأسبوع، أما المغتربون العائدون لقضاء عطلة الصيف، فتجربة السنة الفائتة في تموز والحرب التي امضوا عطلتهم في أتونها جعل معظمهم يترددون في تكرار التجربة. الحرب قضت على شيء مهم في هذه المنطقة. قضت على وظيفتها، وربما على معناها. الصواريخ التي أطلقت على كريات شمونة والتفجير الذي أعقب ذلك حصلا في غمرة موت وظيفة المنطقة الحدودية، تلك الوظيفة التي لاحت ملامحها فترة ما بعد عام 2000 الذي شهد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان. وربما كانا (إطلاق الصواريخ وتفجير دورية يونيفل) نوعاً من بحث عن مرحلة جديدة وعن استئناف لوظائف أخرى لا تفترض تطلباً من ذلك النوع الذي تفرضه حياة عادية. ففي منزل علي على الطريق بين بلدات الخيام وبلاط ومرجعيون تجمع عدد من الجيران وأصحاب المحال التجارية التي لا يقصدها زبائن في هذه الأيام واختلطت أحاديثهم بين التعويضات التي ينتظرون شطورها الثانية والتفجير الذي استهدف «يونيفيل» في منطقة قريبة جداً من مكان عملهم وسكنهم. اجتماع هؤلاء في منزل علي يبعث على الاعتقاد بأن السكان (وجميعهم من المقيمين الدائمين) في المرحلة الأخيرة من إقامتهم. ثلاثة منهم دمرت المدرسة التي كانت تعمل فيها نساؤهم فانتقلن الى التدريس في مدارس بعيدة ومتدنية الرواتب. أحدهم قررت الشركة التي يعمل فيها تقليص عدد مندوبيها في المنطقة ففصلته من العمل، وآخر يملك ورشة لتصليح السيارات لكنه شبه عاطل من العمل لندرة السيارات في المنطقة هذه الأيام.
بلدة الخيام التي دمر جزء كبير منها في حرب تموز والتي وقع الانفجار الذي استهدف «اليونيفيل» في سهلها حائرة كما غيرها من القرى. ورشة إعادة بناء المنازل التي دمرت ناشطة ولكن ليست بإرادة أصحاب هذه المنازل. ثمة آلة اكبر من السكان وقرار يتجاوز قدرتهم على تجنبه يتوليان الورشة. ليست المسألة عائلة دمر منزلها وهي تتولى اليوم إعادة بنائه بعد ان تقاضت تعويضاً من الدولة أو من «حزب الله». ما يجرى هنا هو جزء من الرغبة بتولي حياة الناس ورسمها وتحديد مساراتها. صحيح ان ذلك لا يحصل بالإكراه، ولكنك تشعر بما يجرى من دون ان تسمعه أو تراه.
فالصور المعلقة على الجدران والشعارات والوجوه والأزياء، كلها تشي بأن «حزب الله» هو من يختار للناس هنا كيف يعيشون وكيف يفكرون وكيف يتكلمون. عبور الشوارع الداخلية للبلدة في السيارة كاف لمعرفة الكثير من الحكايات، فحزب الله كتب الكثير مما يريده على الجدران. في الحديقة العامة مثلاً علقت صور الخميني والخامنئي وبالقرب من الساحة أقيم «نادي سيد الشهداء»، ومن الملاحظ ان حرب تموز أعقبتها وثبة جديدة للحزب على مستوى الحضور الاجتماعي والأهلي أطاحت الكثير مما كان تبقى من حضور لمستويات أخرى من الحياة.
المهندس الذي يعمل في بلدية الخيام والذي لم تشكل لحيته الخفيفة العلامة الوحيدة على انتمائه للحزب وإنما أيضاً الخاتمان الفضيان في إصبعيه، حين راح يسهب في شرح خطة إعادة إعمار الخيام بدا انه ممسك بثبات بما يقوم به. حكايات المنازل المدمرة، والتراجعات المطلوبة عن الشارع خلال إعادة بنائها والحسابات العائلية المتقاطعة مع المساحات التي خلفها الدمار. يشعرك الشاب ان «حزب الله» موجود عند كل منعطف في حياة هؤلاء الناس ومستعد لأن يكون طرفاً في أي تسوية بين جارين من أبناء البلدة. ولكن ما ان ينتقل الكلام الى التفجير الذي استهدف الدورية الأسبانية بالقرب من الخيام حتى يسود صمت يتخلله تبدل في الملامح. هنا تحضر أسئلة ليس لدى المهندس الشاب وضيوفه في البلدية أجوبة لها.
تتكرر حكايات قيام الجيش اللبناني باعتقال عمال سوريين يعملون في ورشات إعادة بناء المنازل، واحتمالات ان يكون تنظيم «القاعدة» قد نجح في الوصول الى المنطقة. المسألة بالنسبة الى الجميع هنا ان «حزب الله» لم يتمكن من ضبط جماعة «القاعدة» قبل تنفيذهم العمليتين. أما حزام الأمان الشيعي الذي من المفترض ان يشكل عائقاً في وجه وصول «القاعدة» الى المنطقة والمتمثل في كثافة سكانية شيعية في الجنوب من المفترض ان لا يجد تنظيم «القاعدة» فيها موطئ قدم، فيجيب ضيوف المهندس في بلدية الخيام ان عملية التفجير حصلت بين بلدتي مرجعيون والخيام وفي منطقة اختلاط طائفي ومذهبي كبير، واعتبارها محمية بمنطقة صفاء طائفي شيعي تحديداً أمر غير دقيق على الإطلاق.
الأكيد ان حادثة تفجير دورية اليونيفل لم تترافق مع عملية تحريض محلي على القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان. في فترات سابقة تم رصد نشاط لـ «حزب الله» في مجال التحريض على «اليونيفيل»، أما الآن فلا يلاحظ ذلك، ما يعني ان هذه العملية ليست جزءاً من اشتباك سياسي محلي، أو على الأقل ليس الجنوبيون جزءاً من هذا الاشتباك على رغم انهم قد يكونون هدفاً له. يُشعرك السكان هنا في الجنوب بذلك، ويشعرونك بأنهم ينتظرون أوضاعاً جديدة عليهم كل الجدة. يتحدثون عن «فتح الإسلام» بصفتها قوة عظمى، وعن دعم قوى لبنانية لهذه الجماعة في مواجهتهم، وهم ضموا قوات «اليونيفيل» الى المستهدفين من «فتح الإسلام».
خلافاً لما كانت عليه أوضاع القرى الحدودية في جنوب لبنان قبل حرب تموز، وبعد نحو سنة على انقضائها، فقدت هذه القرى قدراً كبيراً من ازدهارها، وهو ما يقوّض على نحو واضح وملموس فرضية الانتصار التي أشاعها «حزب الله» في أوساط السكان وأقنعهم بها ونشر اللافتات والصور التي تؤكدها وتحتفل بها. فعبور مدينة بنت جبيل ليلاً هو أشبه بعبور مدينة مقفرة خرجت بالأمس من أتون حربٍ مدمرة. والصديق الذي قصدناه قال انه يفضل مغادرتنا قبل العاشرة ليلاً، اذ تصبح الطرق بين القرى بعد هذا الوقت موحشة ولا اثر فيها لعابرين.
«الورشة في النهار» قال صديقنا حين سألناه عن الناس هنا. كثيــرون لم يعودوا بعد الى البلدة منذ بداية الحرب، والجميع غارق في البحث عن التعـــويضات. حادثة دورية «اليونيفيل» في سهل مرجعـــيون دفــعت كثــــيرين الى إعادة حساباتهم في ما يعود الى عملية إعادة بناء منازلهم. هل ثمة حرب جديدة؟ وما هي الأوضاع التي سيخلفها تجدد الاعتداءات على القوات الدولية؟ أسئلة كثيرة يطرحها الجنوبيون وهم يهمّون بإعادة بناء منازلهم.
(الحياة)
حزب الله هو القاعدة، والقاعدة هي حزب الله، والإثنان وليدا مستنقع المخلوق السوري النتن والبهيمة الإيرانية. “دماغ” واحد أوحد، مسكون بالظلام والتخلف والبدائية. “دماغ” تقتضي الصحة العامة استئصاله من الجسم اللبناني الكبير.
حزب الله هو القاعدة، والقاعدة هي حزب الله، والإثنان وليدا مستنقع المخلوق السوري النتن والبهيمة الإيرانية. “دماغ” واحد أوحد، مسكون بالظلام والتخلف والبدائية.
“دماغ” تقتضي الصحة العامة استئصاله من الجسم اللبناني الكبير.
فادي المزمع