من يراقب أحداث غزّة وما يجري على تلك الأميال المربعة القليلة لابد يصبح معتوهاً ومهلّوسا!! وإدخاراً لبعض العقل إسمحوا لي أن أعود قليلا إلى بداية عصور الهذيان والهلوسة، آخذاً بعين الإعتبار المثل البدوي القائل: إذا جنّ ربعك (قومك) فعقلك لن يفيدك! وأول ما يسترعي الإنتباه في تلك العصور، تلك المقابلة الحميمية بين يهوى وإبرام:
بعد ذلك تراءى الرب لأبرام وقال له: “لا تخف يا إبرام. أنا ترسَ لك وأجرك عندي عظيم جداًً” فقال أبرام: ” يا سيّدي الرب ما نفع ما تعطيني وأنا سأموت عقيماً ووارث بيتي هو أليعازر الدّمشقي ” تكوين 15:1). فما كان من الرب إلا أن طمأنه ووعده بنسل كثير وقال له: “لنسلِك أهِبُ هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات”( تكوين 15:18).
بعد هذا المقطع مباشرة تبوح الأسطورة التوراتية بقصة مبيّتة ومبرمجة، تشبه فيروسات الإنترنت التي تخرّب البرامج والملفات. إذ يطلعنا المدوّن التوّراتي على نزاع بين سارة وهاجر، ويتركنا نسمع الملاك يقول للأخيرة: “أنت حبلى وستلدين، إبنا فتسميه إسماعيل.. ويكون رجلا كحمار الوحش، يده مرفوعة على كلّ إنسان، ويد كلّ إنسان مرفوعة عليه”( تكوين 16:12) (هذه نبوءة يمكن أن نفسر بها أحوال العرب وكيف أصبحوا ملطشة لمن هب ودب). وفي زحمة النسيج الأسطوري، ينقلنا المدوّن إلى صورة أخرى، تترجل من صهوة الأسطورة، وتكشف عن لثامها وترينا وجههاالحقيقي، في تلك الومضة ينسى المدوّن قصة نهر مصر والنهر العظيم، ويتواضع قليلاََ!! فيتراءى بطريركنا إبراهيم وهو متكئ على عصاه، ومظللَ عينيه بيده الأخرى، ناظراً أرضه الموعودة، التي حددها له يهوى ولنسله (أرض تقف على تخومها شجرة بلوط وتحدّها بعض الحقول والكروم والهضاب!!) وقد سبب عدم استخدام إبراهيم أنذاك ، لنظام (Gbs) للأقمار الصناعية، مشكلة كبيرة في تحديد تلك الأرض، لهذا نجد إسرائيل اليوم متخبطة ولا تعرف حدودها، (هل تصل النهرين، أم تكتفي بما حول البلوطة، أم تذهب إلى جبال عسير؟؟)
واستمر الهذيان التاريخي، إلى القرن الثامن ميلادي، واستمرت الأسطورة تعيش في أذهان جاليات الدياسبورا اليهودية المنتشرة بين غاليسيا الأوكرانية، وغاليسيا الإسبانية! واستمرت حمى البحث عن أرض ميعاد، وموطن ليهوى، لنصل إلى نهاية القرن التاسع عش، ونكحل عيوننا برؤية، وفود طلائع السوّاح اليهود، الذين أطالوا سياحتهم بيننا(مع الأسف). مذاك أصبح للأسطورة طعم جديد. فالقادمون الجدد بدءوا بإقتحام الأسوار المملوكية والعثمانية بإتجاه القدس، وبداءوا يهزّون خصرهم عند جدار قديم أسموه حائط المبكى، بينما يسميه العرب حائط البراق، (وهو منسوب إلى دابة إلهية، جسدت نصراً إسماعيلياً، كسر إحتكار الفرع الإسحاقي لله والتاريخ!!)
بعد هذه الجردة، لا بد أن أسجل إعتذاري لأهل السياسة والأدب والتاريخ، على هذا الهذيان ، فما أراه اليوم من أحداث سوريالية، تدفع العاقل إلى شدّ شعره، ولطم خدوده، فهل فقد العالم رشده!!!
إذا استدركت قليلا، وعبرت فوق الحروب الصليبية القديمة والقرابين البشرية، التي نحرت على مذبح بيت المقدس.. فكيف لي أن أفهم ما يجري في المشرق العربي هذه الأيام؟ لماذا يتذابح العالم على أرض حدودها شجرة بلوط، أو بضعة أميال، ولماذا يجتمع مجلس الأمن، ويستنفر الإتحاد الأوروبي، ويسافر أولمرت إلى ولد بوش، وعلام تتحرك جيوش إلياس (المرّ) وتخوض معركة (ستلينغراد) النهر البارد أمام (بولشفيك) أبي هريرة؟ وماذا عن تحركات أمير شرق الأردن عبدالله، ومحاولات عقد مؤتمر رباعي في شرم الشيخ، مع عباس وأولمرت ومبارك (قيل لي لاحقاً أن إمارة شرق الأردن أصبحت مملكة! حدث ذلك أثناء غيبوبتي التاريخية! لذا اقتضى التنويه!!) لكن قبل الإستفاضة دعونا نتوقف عند مفصل هلوسي آخر لشرح أهمية هذه المنطقة (أقصد المحيطة بشجرة البلوط).
عندما أعلنت بريطانيا عام 1940 الحرب على ألمانيا، دخلت إمارة شرق الأردن الحرب تلقائياً بصفتها حليفة بريطانيا وربيبتها. آنذاك سرّب أحد العارفين ببواطن الأمور، عن إضطراب الفوهرر الألماني ونرفزته، ودعوته المفاجئة لأركان قيادة الحرب النازية لحضور إجتماع مصيري. ونزولا على إلحاح الفوهرر أخذ الماريشال هملر يبحلق في الخرائط بعصبية باحثاً عن إمارة شرق الأردن. وما أن وجدها حتى احمر وجه الفوهرر، فأخذ يتمعن بتلك البقعة، ويفكر بما ستجلبه من مشكلة استراتيجية كبيرة، قد تكلف ألمانيا كثيراً. هواجس الفوهرر قامت على فرضية تقول: ماذا لو حركت إمارة شرق الأردن أسطولها الحربي في البحر الميّت (كان أسطولا ميثولوجيا مدرعاً بوعد الإنكليزي بلفور)؟؟ لكن الفوهرر سرعان ما نسيّ هذه القضية الحاسمة، وأجل البت بها، وفضّل أن يذهب وينتحر في وحول ووثلوج روسيا، ليصبح البحر الميّت سبب موته!! وسبباً غير مباشر لتأسيس كومونة غزّة الإسلامية فيما بعد (لاحظوا كم كان التاريخ ابن كلب وعضوض),
وبما اني لا أستطيع إعادة التاريخ للوراء، فلا بد أن أقف أمام الحاضر كمحكوم عُصبت عيناه، وينتظر دويّ الرصاص على صدغه!! فقضية ما جرى وسيجري في غزة، يرتبط دون شك بقصة البلوطة التي نسيّها الجميع، ولمزيد من الإستبلاه، أسوق عليكم ما حدث:
برأيي أن مشكلة اليوم وإستفحالها، لاتنفصم عما آلت إليه الأمور،أعقاب عقد إتفاقية أوسلو. أنذاك بدأ مشروع الدحرجة للأسفل (روك آند رول) بحضور كلينتون، وبهزّ ياسر عرفات يد غريمه بيريز (الذي تردد في مصافحته) وما أن هزّ يده، حتى أصبحت القضية الفلسطينية في خبر كان. أجل قضية إرتبطت منذ بداية الكفاح المسلح عام 1965م (لسوء حظها) بيد رجل، إمتلك كثير من الكاريزما والوطنية، وأكثربكثير من الميكافيلية!! رجل إعتبر فلسطين، ورقة في جيب سترته (ذات الأقلام وما أدراك ما الأقلام) رجل ظل في أعماقه وريثا لتجارة الثورة وأسيرا لعقلية سوق الحميدية ، وبعض الفهلوة العربية التي تقوم على مبدأ (ضرب ضربته). ومع تعقيدات الحال العربي، اضطر الرجل إلى وضع كلّ مقدرات الفلسطينيين ومصيرهم ومليارات المساعدات في جيوبه الأخرى!! ليتمكن من إدارة لعبة أوسلو، التي تحوّلت على الأرض إلى أشبه بمسرح علي بابا.. وفي يوم ما نشأ سوء تفاهم كبير بينه وبين الجنرال دحلان، بسبب تشبث عرفات بالأقصى وببعض كرامته الوطنية؟ فدخل الأخير مصالحاً، وطبع على جبينه قبلة تشبه قبلة إسحق لإبراهيم التي انتزع بها مباركته وميراثه بدل أخيه عيسو!! (يمكن أيضاً تتبع هذه الفرضية بإعتبارها خيطاً جنائياً؟) وبعدها بمدة قليلة استشهد الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وعاد جثمانه من باريس، بعد أن ودعه شيراك، والعالم بمشهد تأبيني تاريخي، يليق به ولا يليق بالصغائر والسفائف، التي أظهرها ورثتة وزوجته، وعباسه وقريعه. فقد طفا على السطح أن لا وريث لجوزيف تيتو غير الإنهيار!! لقد كان قتالا صامتا على ملابسه وسترته ( وهبة قسطنطين)، ليبدأ بعدها المشوار الحقيقي لتفتيت القضية الفلسطينية ورفس ثمارها، بأقدام قادتها، وتحطيم ما أنجزه أبناؤها، وما قدموه من تضحيات عزيزة.. أنئذ كانت حماس تراقب بهدوء وتربص، وتؤدي صلواتها الخمس بإنتظام، وهي ترمق من فوق سجادتها، البساط الأحمر الذي فرش من جديد لعباس. وعندما لاحت الفرصة الذهبية استثمرتها بإجادة وفازت بإنتخابات المجلس التشريعي عام 2006 وحصدت مقاعده، ولسان حالها يقول: (أردتموها ديمقراطية فليكن). وربما كان فوزها أول تفويض شعبي، في تاريخ العرب لمعاقبة الحكام وقص شواربهم، لكنها كانت أيضا اللحظة التي تحوّلت فيها الدحلانية إلى حركة صراعية وجودية ذات منحى شمشوني خطير!! الرواية لم تكتمل فصولها بعد، لكن نذراً في الأفق تخبئ بقية الحكاية:
بعد ذلك تراءى (جورج بوش) لأولمرت وقال له: “لاتخف يا أولمرت. أنا ترسَ لك وأجرك عندي عظيم جداًً”. فقال أولمرت: “يا سيّدي جورج ما نفع ما تعطيني وأنا سأموت عقيماً ووارث بيتي هو أليعازر الدّمشقي…
عند ذلك قال بوش مستغرباً: أليعازر الدمشقي!! ألم تحدثني سابقا عن سنحاريب؟؟(سفر التكويع)
naderkraitt@yahoo.de