“الفاجرون” يغتالون نائب بيروت مرتين .. و”المفجوعون” أمام امتحان “الإمساك” بالمصير.. والمجتمع الدولي على محك الصدقية
يصعب عليّ أن أُحوّل وليد عيدو إلى مادة تحليل سياسي. هو صديق عمري المهني. تعرفتُ عليه وكنتُ لما أزل أتلمس الدرب إلى مهنة الكلمة المتعبة. هو من دائرة الأصدقاء الأول التي أحاطتني وساعدتني وسمحت لي بأن أتوسل أكتافها لأتمكن من رؤية الدنيا. شاركني في كل شيء. كنتُ إلى جانبه عندما احتفى بنيل حبيبه خالد شهادة الحقوق، وكذلك عندما شهر عدنان عضوم حربه عليه ووضعه أميل لحود “في رأسه”. أيضا كنت أتناول معه الغداء في “سبورتينغ” عندما فكر بالاستقالة من القضاء، واجتمعت إليه إلى “فطور” لنتناقش في أهمية استدعاء الرئيس رفيق الحريري له ليكون في لائحته الانتخابية، كما بكى أحدنا على كتف الآخر، عندما “يتمنا” ذاك الرابع عشر من شباط 2005، ولتتشابك أيدينا عندما انتصر الشعب للبنان في ذاك الرابع عشر من آذار 2005.
مع “الريّس وليد” ـ هكذا ناديته اول مرة وهكذا خاطبته لآخر مرة ـ تلمستُ لأول مرة خيانة “حزب الله” لما سمي بالتحالف الرباعي في الانتخابات النيابية الأخيرة. “حزب الله” لم يصوت لوليد عيدو وكثيرين من رفاقه على اللائحة ـ الحليفة، بل قدّم كل ما يملك لنجاح واكيم الذي كان على رأس اللائحة المعارضة للحلف الانتخابي المشبوك مع “أشرف الناس”.
في باريس، قبل أشهر عدة أمضيت معه ثلاثة أيام، بنهاراتها ولياليها. كان وليد عيدو قلقاً من اغتيال محتمل. لديه معلومات عن إدراجه في أكثر من لائحة سوداء، لكنه رفض ان يأخذ المعلومات ـ الشائعات على محمل الجد، لأن أحدا لم يبلغه رسميا بوجود ما يجب أن يخشى منه. رجوته ان يأخذ جانب الحيطة والحذر. ذكرتُه بأن الرئيس الحريري لم يلتفت إلى المعلومات ـ الشائعات فجرى اغتياله، وأن جبران تويني سئم من الحذر فاستشهد، وأن الياس المر ارتخى أمنيا، بعدما نفوا ان تكون هناك أي صدقية للمعلومات التي وصلته عن مراقبة أمنية لصيقة له، فجرت محاولة اغتياله.
من باريس اتصلتُ به، طلبتُ منه أن يحمي نفسه. لم اكن أملك معلومات، كنتُ اقرأ الحملة الإعلامية المنظمة عليه. في مواقع المخابرات السورية كان متقدما على غيره من النواب، وفي حملات “جماعة 8 آذار” كان موضع تندر. خشيتُ ان يكون النظام السوري يحضر الأرضية لتحقيق انتصار جديد بارتكاب اغتيال جديد. ردّ عليّ ضاحكاً: “أنت دائما مهووس بالواقع الأمني. لا معلومات هنا تستدعي هذا الاستنفار”.
عندما علمتُ ان صديقي “الريّس وليد” قد استشهد، غضبتُ ولم أحزن. غضبتُ منه، ولكن سرعان ما أطلت روحه عليّ. طلبت مني التروي. دعتني إلى أن أتذكر “أسرارنا”. أعادت إلى ذهني رواية سبق له أن أبلغني إياها عن انتحار احد أصدقائه. في تلك الرواية أن زياد (…) وقف إلى جانب صديق له كان طريح الفراش في أحد المستشفيات المتخصصة بمرض السرطان. كان زياد يستمع إلى ما يقوله أقرباء صديقه المريض وكيف يدعون له ان يريحه الله من عذابات المرض، ففي ذلك رحمة للأحياء ووفرا للأموال وقصرا للمعاناة. بعد موت صديقه، علم زياد أنه هو أيضا قد أصيب بمرض السرطان، تذكر ما كان يُقال عن صديقه، فقرر أن يختصر المعاناة ويرحم الأحياء ويوفر الأموال، فالتجأ إلى رصاصة وضعها في صدغه.
في مكان ما خاف وليد عيدو على نفسه من كلام يمكن ان يكون قد سمعه عن “زياد” ما. أهمل المخاطر المحيطة به إلى تلك الدرجة التي لم يعد يرى فيها أن ثمة وجودا للخطر، فاستكان إلى روتينه اليومي، وأراد أن يتنعم، كحالة كل والد، برفقة ولده إلى جانبه، فجاءه ذاك الذي كان ينتظره على الكوع.
دماء وليد عيدو على يدي بشار الأسد. صحيح.
دماء وليد عيدو على ضمير كثيرين في قوى الثامن من آذار. صحيح.
لكن ذلك لا يُعفي أياً كان من واجب أن يأخذ من حالة وليد عيدو ـ الشهيد درسا حتى لا يكون بعده شهداء، لأن أحداً لا يستطيع أن يقول إنه تفاجأ باغتيال النائب وليد عيدو، تماما كما أن أحدا في الغد لا يستطيع أن يقول إنه تفاجأ باغتيال نائب جديد أو وزير جديد.
هذا على مستوى الحيطة والحذر المطلوب من الداخل اللبناني لحماية المستقبل اللبناني، ولكن ماذا عن المجتمع الدولي؟
تأييد حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، يعني عمليا تأييد الأكثرية النيابية التي تحميها، لأن هذه الحكومة صامدة بفعل ثلاثة عوامل متداخلة. اول هذه العوامل هو حماية الأكثرية النيابية لها، ثانيها هو عدم بلوغ الاستقالات الوزارية منها إلى نسبة “ثلث زائد واحد”، وثالثها هو بقاء الرئيس السنيورة على قيد الحياة.
هذا يفيد بأن انتفاء أي عامل من هذه العوامل يزيل حكومة السنيورة المدعومة من المجتمع الدولي.
ولأن المسألة كذلك، فإن اللبنانيين، وربما للمرة الأولى منذ الرابع عشر من آذار 2005، يضعون المجتمع الدولي تحت المحك.
وفي هذا السياق، إذا لم يضع المجتمع الدولي اغتيال وليد عيدو على مستوى خطورة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فهذا يعني عمليا ان دعم هذا المجتمع للحكومة اللبنانية وهمي.
تعرف دول العالم ان النظام السوري، مباشرة أو بواسطة حلفائه، هو من ارتكب هذه الجريمة في بيروت. المسألة لا تحتاج إلى لجان تحقيق دولية تفتش في كومة التبن عن الأدلة المطمرة. المحاضر موجودة. المعلومات الاستخبارية موجودة. التحليل الامني موجود. الأسبقيات موجودة. الدافع موجود. المصلحة موجودة. المحتفون موجودون. سلوكية أميل لحود الجرمية موجودة.
في المعطى الحقيقي، صدام حسين قديس بالمقارنة مع بشار الأسد. صدام كان يلعب مع شعبه لعبة الموت، بعدما احترقت أصابعه بالتطاول على السيادة الكويتية. بشار يلعب هذه اللعبة مع شعبه ومع الشعب اللبناني، ويريد ان يحرق الدنيا لأن هناك من ضرب على يده للكف عن تحويل الوطن اللبناني إلى دمية صبيانية.
اغتيال وليد عيدو، يضع اللبنانيين والعرب والعالم أمام مسؤوليات تاريخية.
منذ دوى الانفجار في الروشة بدأ العد العكسي.
لم تعد المسألة محصورة بنقاش عقيم مع فاجرين يريدون تصوير وليد عيدو ضحية لانفجار استهدف منطقة سياحية، أو يعمدون إلى التلاعب بعقول من ربّاهم التخاذل على نظرية “تشابك المؤامرة”. لا قيمة للرقص مع إعلام الثامن من آذار. لن يستطيع الشهداء مواكبة فجور هؤلاء. لا أهمية للتذاكي مع جماعة المخابرات السورية، فلا قيمة لإرهاق العقل إحباطا للذين تخلوا عن عقولهم.
حان وقت العمل. “أبو ملحم” كان مجرد شخصية تلفزيونية. المخابرات السورية وجماعتها في لبنان هم شخصيات واقعية مخرّجة من أعتى مدارس الإجرام.
(المستقبل)