الرسالة السياسية والفكرية التي خرجت من المؤتمر الخامس والعشرين للحزب الشيوعي الاسرائيلي، هي أشبه بالنعي الذاتي. السؤال الأساسي ما هو التحول الذي احدثه مؤتمركم على الحياة الداخلية للحزب ، وعلى مبناه الفكري واستراتيجياته النضالية ؟ ما هي الخطوة ، مهما كانت صغيرة ، الى الأمام .. نحو تحديث الحزب وتوفير مسببات لانطلاقة سياسية جديدة؟ انطلاقة تساعد على استعادة الدور الرئيسي والمؤثر بين الجماهير العربية في اسرائيل .
يبدو ان ما لاحظته في مقال سابق كتبته، بأن المؤتمر سيحسم في موضوع ازدواجية الرؤوس، بين الجبهة من جهة ، التي تتصرف بشكل مستقل وأحيانا مناقض لمواقف الحزب ، وبين الحزب الشيوعي من جهة أخرى ، الذي اسس الجبهة ، ولكنه فقد السيطرة عليها ، رغم انه رسميا يقودها بواسطة عضو في المكتب السياسي ، كانت ملاحظة غير مدروسة وحماسية ومتسرعة . وأن حالة الحزب اليوم هي ترقيع أوضاعة ، على كل المستويات . عجزه كان مكشوفا في المجال الفكري . كل مواد المؤتمر لم تتعد التكرار للكليشيهات الماضوية في الفكر الشيوعي . خطاب الحزب الشيوعي الاسرائيلي السياسي ، في مجالات هامة عدة ، كان نسخا ، دون جهد للتعمق في التغيرات العاصفة التي شهدتها الحركة الشيوعية عالميا ومحليا . كأن شيء لم يتغير ، ربما يظنون أن ستالين ما زال يلوح بيديه للجيش الأحمر وللجماهير المحتشدة في الساحة الحمراء .. وأن بريجينيف ما زال يتحرك ومحفوظا مثل الموميات المصرية ، لأنه لا بديل في الاتحاد السوفييتي العظيم لهذة المومياء .. ومازالت موسكو الحاضنة الحنون .. والأم الرؤوم للرفاق المجبولين من طينة خاصة تختلف عن طينة بقية البشر .. باختصار ما استطيع أن استنتجه ، ان الواقع الشيوعي في اسرائيل ، هو واقع كاريكاتوري ، مثير للضحك ، وبنفس الوقت مثير للألم في نفوس أجيال من المناضلين ، صنعوا التاريخ المجيد للحزب ، الذي يعيش اليوم على حساب رصيده …
الواقع داخل الحزب الشيوعي بعيد عن ان يكون في مستوى لائق من الوعي الأولي والمعرفة الصحيحة لأبسط المفاهيم الماركسية . سأعطي نموذح واحد احترت ان كان مضحكا أم مبكيا أن يصدر عن عضو مكتب سياسي ، ويعتبر الرجل القوي ( ليس فكريا ) في السيطرة واقرار سياسات الحزب ، احيانا بشكل فردي ، دون أن يجرو أحد على مناقشته والزامه بخط الحزب وقراراته .
هذا الشخص هو عضو الكنيست محمد بركة ، ورئيس مجلس الجبهة التي حاول ، وربما نشهد الآن فصلا جديدا .. جعلها حزبا مستقلا ، أي القضاء عمليا على بقاء الحزب الشيوعي ، ولكن مشروعه تعثر ، نتيجة وجوده باقلية داخل صفوف الحزب ،وسيطرة كبيرة داخل الجبهة . ويبدو اليوم أن نتائج المؤتمر كانت لصالحه لدرجة ان بعض الصحف العربية الصادرة في اسرائيل ، والمعروفة بتوجهاتها القومجية والاسلاموية ، كتبت باحتفال مريب أن بركة “انتصر بالضربة القاضية في مؤتمر الحزب ”
من أبرز الأفكار الجديدة التي طرحت في المؤتمر كان اقتراح عضو المكتب السياسي ورئيس مجلس الجبهة وعضو الكنيست محمد بركة ، الذي طرح اقتراحا مذهلا في ” مستواه وعبقريته ” ، ولا اتردد في الاضافة انه مذهل في عنصريته أيضا . بركة يريد أن يثبت قوميته . طالب بتغيير اسم الحزب من ” الحزب الشيوعي الاسرائيلي ” الى ” الحزب الشيوعي في اسرائيل ” . السؤال : لماذا الحزب الشيوعي في اسرائيل وليس الحزب الشيوعي الاسرائيلي ؟ هل هناك حزب شيوعي في آية دولة يتهرب من انتساب الحزب الى الدولة التي ينشط فيها ، وحزبه مرخص حسب قوانينها ، وله ممثلين في برلمان دولته ، يقسمون يمين الولاء للدولة وقوانينها وصيانة أمنها … كما يقسم بركة في الكنيست الاسرائيلي . هل هو عضو في الكنيست الاسرائيلي، أم عضو في كنيست في اسرائيل.. او ربما في كنيست في بلاد عرب ال48!
في منطقتنا أحزاب شيوعية في الأردن ولبنان وسوريا ومصر ، وفي اوروبا أحزاب شيوعية في كل دولها.. كلها تنتسب مباشرة لدولها. الحزب الشيوعي… الاردني… اللبناني … السوري.. المصري… الفرنسي… الايطالي… اما الحزب الشيوعي الاسرائيلي فيريد بركة جعله الحزب الشيوعي في اسرائيل .
اولا هذه مراهقة سياسية ومنافسة للتيارات القومية التي لم تجلب لنا الا المزيد من العزلة وفقدان القدرة في التاثير على السياسة الاسرائيلية ، مما ينعكس سلبا على واقعنا الاجتماعي أيضا ، على التطور الاقتصادي للوسط العربي ، وعلى فرض أنفسنا كشركاء في القرار داخل مؤسسات الدولة ، وعلى تكريس مواطنتنا في الدولة، في خدمة قضايا شعبنا . الاستراتيجية المتبعة من الأحزاب العربية ، ومن الحزب الشيوعي أيضا ، تتلخص بتعميق الصراخ القومي ( أي الظاهرة الصوتية ) ، الذي لم يحقق لا مكاسب لابناء قوميتنا العرب مواطني اسرائيل ، ولا تأثير ايجابي على النهج السياسي العام للدولة . ولا تحقيق مكاسب ملموسة للأقلية العربية .. بل على العكس ، يعمقون عزلتنا وتقوقعنا …
هل جاء اقتراح بركة ليبرز قوميا بدل عزمي بشارة – والمثل العربي يقول “خلا الميدان لحميدان”؟ الا تظن يا بركة ان قوميتك مزيفة في مثل هذه الطروحات؟ هل تريد منافسة القومية العنصرية (يمكن تسميتها القومية الفاشية أيضا)، التي الحقت بنا من الأضرار أكثر مما جلبت من مكاسب … حتى على صعيد المطالب الوطنية ؟
والمهم سيدي العزيز محمد بركة: اليس من واجب الحزب الشيوعي، وكل عربي مسؤول ، أن يسأل أولا : ما العمل للتأثير على السياسة الاسرائيلية ؟.. على الأحزاب اليهودية..؟ على الرأي العام اليهودي..؟ السنا بحاجة قومية حارقة الى توسيع رقعة التفهم لحاجاتنا ومصالحنا ومستقبلنا كأقلية قومية عربية فلسطينية في دولة اسرائيل؟
هل يأسنا من العمل للتأثير على اليهود ؟ وهل صار الرفاق اليهود عبئا ثقيلا على صدورنا ؟
هل استراتيجية بركة من وراء اقتراحه المبكي – المضحك هو التحالف مع الأحزاب العربية والقبول بالبقاء على الهامش المنسي في السياسة الاسرائيلية ؟ هل ما يهمك أن تظل نائبا تقوم بالمراسيم الرسمية في البلاد وفي الدول العربية ؟
اعترف ان بركة ليس مسؤولا لوحده عن الوضع الانعزالي الآخذ بالتعمق ، مع ارتفاع الصراخ القومي الخالي من أي تفكير منهجي حول أهداف واقعية قابلة للتحقيق ، وتشكل مكسبا وطنيا للجماهير العربية . نهج الحزب الشيوعي كله رسميا ، لا يقدم جوابا انتقاديا على القومجية المنتشرة كالفطاريش ، ولا عن الأصولية الدينية المتطرفة . وهذا من مميزات مرحلة الانحدار المتسارع في مكانة الحزب الشيبوعي … وربما أفضل ان استعمل الفكر الماركسي ، لأني لا أرى علاقة بين نهج بركة والحزب وبين الفكر الماركسي . ان الموقف المتلعثم بين قومجية عزمي بشارة ، وشعارات الاصولية الدينية ، خلقت سياسة حزبية غير واثقة بالنفس ، احياتا اتهازية ، وسطية ، مهادنة ، متخاذلة وتابعة للآخرين .. اليس من المستهجن هذا التضامن مع بركة في الصحف التي تعد على التيارات القومجية والدينية ؟ اليس هذا تضامنا مع السطحية الانتهازية ، وترويجا لليأس من التعاون اليهودي العربي ؟
هل كان نضال الشيوعيين التاريخي ، في أكثر المراحل مأساوية وتضييق على الخناق ، ونجاحهم المدوي ، رغم كل الظروف القاسية والتي كانت تبدو مستحيلة ، في صيانة الأقلية الفلسطينية الباقية في وطنها ، واعادة تكوينها كشعب ، والحفاظ على هويتها الوطنية ولغتها وارتباطها بتاريخها وتراثها .. هل كان نضالا خيانيا لأن الحزب الشيوعي كان اسمه ” الشيوعي الاسرائيلي ” وليس ” .. في اسرائيل ” ؟!
هل مشكلة الحزب وتضعضع مكانته اليوم ، بسبب أسمه ” الحزب الشيوعي الاسرائيلي ” أم بسبب الفقر الفكري ، والعجز عن فهم عالم ما بعد الاتحاد السوفييتي ، وضعف قياداته ، وتفسخ صفوفه ، وترك أبرز المناضلين وأصحاب الفكر المتنور لصفوفه ، بعد أن تحول الى اداة لتأليه الفرد والسجود لجمله الجوفاء مثل الشعار الذي يرفع في كل المناسبات ” زياد علمنا وقال أمريكا رأس الحية ” ( الحية بالعامية : ألأفعى) .
هل حقا كنا بحاجة لمن يعلمنا هذه الأكتشاف السياسي المبدع ؟!
كنت أتوقع ان يصحح الحزب مساره ويعمق رؤيته السياسية الاجتماعية بعيدة النظر ، ويسقط ” الشخصنة ” التي حولت الأحزاب العربية في اسرائيل الى طبول فارغة .
ما هي طروحاتكم حول حالة الجماهير العربية مواطني الدولة ؟ الفقر يزداد . التشرذم العائلي والطائفي بات رهيبا ومأساويا . العنف والطوشات وحوادث القتل في ازدياد . مكانة المراة تتراجع الى الوراء ، وحتى اليوم لم تحظ بالمشاركة في التمثيل الساسي والاجتماعي ، المضحك المبكي أن الأحزاب اليهودية ( ميرتس وحزب العمل ) أعطت للمرأة العربية تمثيلا في البرلمان. لو كان بكم بعض التفكير الواقعي المتنور ( أو الخجل ) لما قبلتم وضع يستمر فيه تهميش دور المرأة من حزب يطرح على أجندته موقفا سليما من المرأة ، ولكنه غير قابل للتنفيذ في ساحة ملآى بالرجال المتنافسين .الوسط العربي في الدولة يتعمق انعزاله وتفككه الاجتماعي ، وبات الوضع يبعث على القلق .. مشاركة العرب غي حياة الدولة السياسية والاقتصادية بتقلص متواصل . تأثير العرب على السياسة العامة غير قائم .. هل صدفة أن الاعلام العبري لم ينشر حتى خبرا عن مؤتمركم ؟
هل هكذا كان تعامل وسائل الاعلام مع مؤتمرات الحزب حين كان ذا قيادة حكيمة ومحنكة ومجربة ومصممة ان تلعب في الساحة الاسرائيلية العامة ، لا أن تكون لاعبة في “حارة كل مين ايدو الو ” فقط .. ؟
حتى رؤساء الدولة حضروا افتتاح مؤتمرات الجزب ، والقوا تحيات .. الا يشير ذلك الى أهمية الدور السياسي والاجتماعي الذي كان يمثله الحزب الشيوعي على مجمل الواقع الاسرائيلي ، وخاصة على الأقلية العربية ؟!
لست متعاطفا أو متفائلا من تيار عصام مخول ، سكرتر عام الحزب الشيوعي حتى اليوم .. غدا على الأغلب سيغير لتصبح سيطرة بركة كاملة وقد يعاد محمد نفاع ، أو أحد التابعين مباشرة لتيار محمد بركة ، وليس مهما ما يعرفه من الفكر الماركسي ،أو القدرة على صياغة خطاب سياسي ، فالآخرون ، كلهم … ليسوا أكثر معرفة ، ولا أظن ان الحزب قادر على تصحيح مساره ، لا أرى داخلة شخصية براغماتية يمكن البناء عليها . الحزب بوضعه السائد عاجز عن تقديم جوابات مبدئية واضحة مقنعة في مواجهة ما يحاول بركة فرضه على الحزب ..
كما هو واضح ، المؤتمر لم يناقش القضايا المصيرية للحزب . ما هو موقف الحزب مثلا حول مصير الماركسية في العالم العاصف والمتغير ؟ ما لاحظته ان قادة الحزب لا يعرفون أكثر من ترديد الشعارات كالببغاء .
لم يناقش الحزب احدى القضايا الهامة في نضاله ، العلاقة الجدلية بين القومي والأممي وتمازجهما ، وهذه احدى القضايا الملحة المطروحة دائما في الواقع السياسي الذي نعيشه .
هل من ضرورة لشرح أهمية ذلك في ظروف حزب يجمع بين قوميتين ؟!
ما زلت أعتقد ان الماركسية قادرة أن تجسد المصالح القومية الحقيقية للأقلية العربية في اسرائيل ، وتاريخ الحزب وقياداته التاريخية (الرعيل الأول وجزء كبير وأساسي من الرعيل الثاني ، الذي وجد نفسه خارج التنظيم ، نتيجة الفصل التعسفي ، والعزل داخل مؤسسات الحزب الذي أفضى بهم للانسحاب القسري ) أثبتوا غيرتهم القومية ، وقدرتهم على الربط بين الأممي والقومي في نضالهم السياسي العام . لم يكونوا عملاء تابعين للشيوعيين اليهود . فهموا أن الوطنية الحقيقية هي وطنية انسانية في المقام الأول .
لست عضوا في الحزب الشيوعي ، ولكني أعرف قيمته النوعية ، اذا كان فعلا حزبا شيوعيا . اما هذا الحزب الذي ينزلق ويتدهور ويتحلل من الربط بين الاجتماعي والسياسي بشكل صحيح ، ويلجأ للجعجعة القومية ، وعقد صفقات مع عائلات في البلدات العربية ، بحجة انها تيار صاعد في الوسط العربي ، ويزعجنا بترديد شعارات لا تعني شيئا .. فهو في طريقه للاندثار ، ويعيش على حساب رصيده التاريخي . جيلنا ما زال مرتبطا بهذا التاريخ ،لأنه تاريخنا وجزء هام منه من فعلنا ، أما الأجيال الجديدة فلا تعرف للأسف غير جعجعات قومية وفقر فكري ، وسيطرة الشخصنة . والصراعات الصبيانية ، والتخبط وعدم الوضوح والعجز عن الادراك ، وهي المسائل الواضحة التي كنت آمل ان أرى خروجا منها .
نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com