شدني الخبر الذي شاع مؤخراً ونشرته بعض الصحافة اليمنية ، وتداولته مجالس الساسة والمثقفين: ما يسمى «النخبة» التي هللت وانذهلت بالقفزة الهائلة التي حققتها اليمن في مجال تقنية القتل.
وكان لافتاً إن القابلية والاقتناع بصحة اكتشاف واحتكار السوق اليمنية لهذه التقنية المذهلة أكبر بما لا يقاس من الشك فيها أو سؤال غموضها وسماجتها. وقد ارتفع صوت التحذير من اتساع نطاق مفعولها في السوق اليمنية، التي لا تشكو من نقص في أدوات القتل والقتلة والقتلى، بقدر ما تعاني من تخمة وفائض لا يخطر على بال، في هذا المجال.
إنها تقنية القتل عن طريق الهاتف المحمول، وقد غرقت السوق بطوفان من المنشورات التي حذرت من مهلكة متأتية عن تلك الأرقام التي تبرق على شاشات أجهزة التلفون بلون احمر يشع بموجات «عالية جداً جداً» تتسبب في تلف الدماغ وتصرع من يستقبلها.
وتلقف الشارع ما سمع، وكذلك «الصالونات»، وتناسلت الروايات المعززة بأسماء من قتلوا، وعدد القتلى، الذي قيل أنه ما زال دون الثلاثين، وهو قابل للزيادة. وربط البعض هذه التقنية بصلة نسب مع «المتمردين الحوثيين».
وكان مستوى اكتساح هذا الخبر/ الشائعة لأثير التأثير ، أكبر بما لا يقاس من أثر الرد الخافت بالنفي، لأن الحرب صارت «خبزنا اليومي»، ولأن مناخاتها الثقيلة كتمت الأنفاس، وهرست الناس، وشلت العقل، الذي لم يعد يشتغل إلا في نطاق الاستجابة لذبذبات صعدة وأصداء الحروب الأهلية السابقة، ونذر القادمة.
وكان على من يحاول تصويب اللا معقول بتكذيب خرافة امتلاك اليمن لسلاح دمار شامل تمخض عن تحويل المحمول من سلعة مستخدمة للأغراض السلمية إلى سلاح مروع، أن ينحني للعاصفة، ويتساكن مع أغلبية تواطأت على استمراء الخدر بسحر المحمول المشبع بقوة الفتنة والافتتان الطاغية على صوت العقل؛ حتى أني لم أتمكن من إقناع صغيراتي في البيت ببطلان ما يشاع، لأنهن تبرمجن على التسليم اليقيني بصحة الخبر، وكانت كل واحدة منهن تصفعني بمنشور يتضمن نماذج من الأرقام القاتلة، وتطعِّم كلامها بواقعة طرية عن قتيل لرقم فتاك في حي مجاور.
هكذا صار مجرد التفكير بقياس ومقارنة تقنيتنا هذه مع «الجمرة الخبيثة» ضرباً من السخف والسذاجة، بقطع النظر عن ما أشاعت الجمرة من ذعر في واشنطن عواصم أوروبا التي لم تقدم الدليل الملموس عن حجم ضحايا جمرتها المزعومة.
وأتضح أن الطابع السحري لجهاز المحمول، هذه الألعوبة والأداة الانفجارية التواصلية، قوي المفعول في مستوى استدعائه للأساطير والحكايات الخرافية التي تستحضر أي شخص كان من أي بقعة قريبة أو نائية، وتخترق الأمكنة والأزمنة، وتزاوج بين الأنس والجان، على نحو ما يحدث اليوم والآن، حيث انطمس الفاصل بين الهاتف المحمول والسحر، ومسخت الصفة العقلانية للمحمول باستدخاله في باب الخرافة على نحو أسقط ماهية العلم وقيمته القائمة في الأصل على مناهضة السحر.
ولما كانت استخدامات الهاتف المحمول في اليمن مضارعة لاستخدامات جيراننا وإخوتنا وأبناء عمومتنا في الصومال من ناحية عدم ارتباطها بتيسير الأعمال والخدمات والنشاط الاقتصادي ، في أكثر الأحوال ، وبالنظر إلى نزوعها العارم بالتنافس والتناظر مع الصوماليين الذين أحرزوا السبق على مستوى المنطقة في الاستهلاك المهول لهذه الخدمة ، وملاحقة أخر تقليعاتها وصراعاتها ، فقد كان من البديهي أن يذعن الهاتف المحمول للإرادة (الوطنية) الغالبة ويستقيل عن وظيفته الخدمية الإنتاجية لمصلحة الوظيفة القتالية المشتعلة بزيت الخرافة والسحر : ” المزدوج الكيمائي ” الذي يهمس بضوء خافت على عنوان شاحب لبلاد تتخبط في مدرجات الزمن الخرافي ، وتقيس عالم اليوم بضوء فانوسها الذي لا يفسر خرافة ” المحمول القاتل ” إلا بإشارة خفية إلى ظلام حالك يغرق معظم نهارات اليمن بطوفان الخرافات القاتلة بالمعنى المادي للكلمة كما بالرمزي .
mansoorhael@yahoo.com
* كاتب من اليمن