الأبطال هم حقيقة تاريخية، ليس لأنهم كانوا (أبطالا)، بل لأنهم أصبحوا كذلك F.Gundolf (كاتب ألماني)
عندما بدأت الكتابة، في هذا الموضوع، سمعت خبر اكتشاف قبر هيرودس ( 37 ق.م ، 4 م) قرب مدينة القدس، على يد باحثين من الجامعة العبرية، ومن المعروف أن هيرودوس كان ملك اليهودية، التي تمتعت بحكم ذاتي روماني، ويسجل عهده (الميمون ) ولادة المسيح، أما الضجة التي أثيرت حول هذا الكشف، فإنما تدل على مساحة الفضاء الذي يحتله الموتى في حياتنا. فوجود هكذا قبر، دليل آخر على وجود يهودي عتيد في فلسطين، وتأكيد غير مباشر للقصة المسيحية. وبرغم إحتجاج بعض الآثاريين، على ما قامت به الجامعة العبرية، وتنقيبها في أراض المنطقة (ج) التابعة لدولة لفلسطين الموّعودة، فهناك ما يؤكد قطعيا أن هذا القبر(والتابوت المحطم) لا يحتوي على أية كتابات أو نقوش أو تواريخ تؤكد هوية ساكنه، أو الزمن الذي قبض عليه عزرائيل!! وبهذا نكون قد دخلنا مجددا في أسطورة جديدة، تشبه اللُعبة الخشبية الروسية (ميتروشكا) المكونة من قطع تدخل ببعضها البعض (إلى أن يرث الله الأرض وما عليها).
منذ أعوام كنت منهمكا بقراءة بعض الكتابات النقدية للتاريخ. وقد أغتنمت الفرصة مؤخرا وكتبت بعض من تلك الآراء المتناثرة (حول التقويم الميلادي، والإسلام المبكر) ومن الطبيعي أن يشكل تاريخ المسيحية، محور إهتمام تلك الكتابات، لما تشغله الكنيسة من مساحة في الذاكرة والوعي الأوروبي. وبمحض الصدفة توقفت عند محاضرة ألقاها Uwe Topper عام 2000م، باعتباره أبرز ممثلي التيار النقدي (وليس الصدري). ولقد اعتمدت الإقتباس من محاضرته تلك وترجمة ما يتيسّر منها، تجنبا للخوض في كتبه، التي لا يتسعها هذا البحث المتواضع. لكني بنفس الوقت، آليت أن لا أكون ماكينة ترجمة، لإحساس عميق بأن نقل الأفكار إلى فضاء لغوي آخر، أشبه بكدح معرفي وحرث في تربة جديدة، لذا فليعذرني القارئ (المختص) إذا تحايلت قليلا أو كثيرا، فجلّ ما أصبوا إليه، تقديم مساهمة، أحسّها كقارئ عادي، ويحسّها غيري من عباد الله القارئين.
بداية أعترف بأن النظريات المعرفية، المزلزلة، والصادمة، هي تلك التي تغيّر زاوية الرؤية، أمام ناظرنا، والتي تقلب صورة العالم والكون في وعينا. وقد تبدو لأول وهلة غريبة، منفرة، تقف ضد ما عرفه الناس في مألوفهم، لكن لو تذكرنا غاليلو غاليليه، سنعرف أن ما ألفناه، ليس بالضرورة حقيقة أبدية؟ لنتخيّل أنفسنا من معاصريه، فهل يمكننا ببساطة أن نسلم بأن الأرض كرة تدور حول نفسها؟ أحد بطاركة القرون الوسطى إحتج عليه بقسوة، فقد تخيّل أن دوران الأرض، سيجعل أرجلنا للأعلى ورؤوسنا للأسفل، وهذا كان شأن الأنبياء أيضا أو الناطقين الرسميين باسم السماء. فقد تركوا لنا أحاديث، تقول بأن الشمس تخرج من المشرق، ثم تسقط في مغارب الأرض، لتسجد عند العرش؟؟ مما حدا بعبد العزيز بن باز، إصدار فتواه الشهيرة عام 1978م والتي قضت، بتحريم القول بكروية الأرض، وهدر دم كلّ من يروّج لها .واعتباره مرتدا، أنكر معلوما من الدين!! ما علينا. فسواء سجدت الشمس تحت العرش، أو تمددت ونامت تحت العريشة، فهذه أغنية أخرى؟؟
يسمي المؤرخون عام 451م، نهاية لعصر الأنتيكا، وبداية للقرون الوسطى المظلمة، وقد ارتبط ذلك العام بهزيمة “الهون” فوق الأراضي الكاتالانية، ويسمّون إختراع المطبعة عام 1450م نهاية لتلك القرون الوسطى، وبداية عصر النهضة الأوروبية. إنها إذاً، قرابة ألف سنة، جرت أحداثها وسنوها، مدعمة بالوثائق والمدوّنات التاريخية. والويل ثم الويل لمن يشكك بها، فقد تُسحب الأرض من تحت أقدامه، لأنها ألف سنة راسخة كالصخور والرواسي. لكن باحثين من أمثال: الفرنسي هاردوين Hardouin أو السويسري بالداوف Baldauf أو الألماني كاممايرKammeier لديهم أقوال أخرى. إنهم ينظرون إلى تلك القرون الوسطى، باعتبارها اختلاقا وبدعة. فكل الوثائق التاريخية المتعلقة بها، هي فبركة لعصور متأخرة، وكل ما لدينا ليس أكثر من نسخ (ومنحولات). إذ إننا لا نملك وثائق أصلية قبل القرن 12، أما ما بين أيدينا من وثائق للقرن 12 إلى 14 (القرون لوسطى العليا)، فقليل منها يتمتع بالمصداقية. أما ما يمكن أن نثق به، فيقتصر على وثائق مابعد اختراع المطبعة عام 1450م، وينطبق هذا على الحقبة الشارلمانية بعد عام 769م، فلا نملك حولها أيّة وثيقة حقيقية، وكذلك هو حال اللقى الآركيولوجية المنسوبة إليها.
فتاريخ أوروبا منذ انتهاء الأنتيكا وحتى القرن 12 أشبه بقصة (جميلة أو قبيحة) ومسرحية للأساطير المقدسة وقضية إعتقاد ليس أكثر؟ لذا فإن كامماير(توفي في خمسينييات القرن العشرين) أطلق اصطلاح: الحملة الكبرىDie große Aktion ، ليصف العمليات التي رافقت قرون التزوير تلك. وقد سبقه مطلع القرن 19 اللاهوتي اليسوعي الفرنسي هاردوين، الذي اعتبر أن معظم المدوّنات التاريخية لعصر الأنتيكا وعصر آباء الكنيسة الأوائل* إختلاق وفبركة، وقد تمتع هذا العالم الفذ بدراية ومعرفة واسعة بالمسكوكات والنقوش وما بقي من نصوص أصلية ( كنص فرغيلVergil). ولأن أحدا من علماء عصره، لم يجرؤ على مواجهة هذا العالم العبقري، فقد اكتفوا بانتظار وفاته، لتعود حليمة إلى عادتها القديمة. ولنعود إلى نفس التابلوهات (الجداول) الزمنية لتاريخ الحقب والسلالات والأمم، التي وضعها لنا كبار مؤرخي القرن 16 و17 من أمثال الألماني سكاليغر Scaliger والفرنسي Bettau وكذلك العالم الشهير نيوتن لتصبح هذه التواريخ قدرا محتوما يتحكم بأذهاننا ووعينا (دهشت شخصيا بعد معرفتي أن الألماني سكاليغر من القرن 16، وهو المؤسس الحقيقي لكتب التاريخ الحالية. كان يتقن العربية وقد ترك مخطوطا عربيا: اسمه كتاب الأمثال!!!!) وبعد هاردوين بقرن، استطاع عالم الفيلولوجيا السويسري بالداوف، من رفع القناع عن معظم الأعمال الكلاسيكية، ويكتشف أنها من أعمال الرهبان. وأخيرا استطاع كامماير أن يلقي الضوء على نشوء المسيحية، فكتبه العبقرية لا تزال تمثل ( تابو) حتى في الأوساط الأكاديمية، لأن الأمانة وعشق الحقيقة ليسا فيصلا في إثبات صحة نظرية ما!! بل علاقات والنفوذ والقوّة، فهي التي تفرض شروطها .
وباقتضاب شديد، ولو جمعنا أعمال هؤلاء، وبحوثهم لاستنتجنا مايلي:
1 – إن مخطوطات الأناجيل هي نسخ متأخرة عن أصل واحد عمره حوالي ألف سنة وكأقصى حد 1100سنة،(ربما يكون الانجيل الهارموني لتاتيان السوري). وكذلك الأمر فإن كتابات آباء الكنيسة ( كالأيسوبي Euseb) وغيره ليست أكثر قدما، وهذا ينساق أيضا على ألواح قمران (التي تتشابه مع الكتابات الغنوصية في نجا حمادي، وتعكس نفس روح العصر الذي نشأت به)، والتوراة المازورية !!
2 – كل الموّروث الكتابي لعصر الأنتيكا (الأعمال الكلاسيكية) بُدأ بصياغتها في القرن الحادي عشر، وقد أنتج الجزء اليوناني منها في دواوين قياصرة القسنطنطينية وفي آبولين والتوسكانا، أما الموّروث الكتابي اللاتيني فقد أنجز عمله في شمال فرنسا وفي هيسن في ألمانيا وفي الدير الإيطالي المعروف مونت كازينو.
3 – حتى في عصر النهضة، فقد تم اختلاق عدد من الكرونولوجيا (مدوّنات تاريخية) وتم إلصاقها بذكاء، في كتب التاريخ، حيث أن إزالتها الآن تؤدي إلى انهيار الصورة التاريخية برمتها. ومثال على ذلك الجرمانيا لتاسيتوس Germania، فقد أنجزها كوزانوس عام 1420م لحساب Doggio Bracciolini وكذلك الأمر مع الكتابات المنسوبة لآباء الكنيسة كنصوص الأيسوبي وبيروسيس فهي من اختلاق القرن الثاني عشر.
4 – وبالتدريج ومع تكدس الموّروث الكتابي لعصر الأنتيكا والمسيحية المبكرة، تم حساب الأزمنة وجدولتها، لتتسع فضاءات زمنية كبيرة، وأصبحت القرون كحبال مطاطية، فإكتسبت المسيحية التي لايزيد عمرها على ألف سنة؟؟، ألف سنة إضافية، وحظي موسى بزمن إضافي.. وكذلك الحال مع الجد الإفتراضي ابراهيم. فقد حاز هو الآخر على ألف سنة، ليبتعد عنا حوالي 4000سنة، علما أن اللاهوتيين أنفسهم، يقرّون أن هذا الإبراهيم هو من ابداع جيل السبيّ البابلي(من خلال تتبعي للسياق الاسلامي، أرى أن البناء السيمانتي للنص القرآني، يتفق مع هذه النقطة بصورة مدهشة، حيث يبدو جليا أن ابراهيم وموسى وعيسى و و، هم أشبه بعشيرة ميتاتاريخية عاشت في أزمنة قريبة من محمد!) وقد لعب تزمين هذا الجد الإفتراضي دورا مهما في تحديد الإطار الزمني العام للحضارات الرافدية والمصرية وبالتالي حضارات الهند والمينوا الصينية.
والأن لو أصغينا إلى فريدريك غوندولف (1880،1992) الذي يقول: من يتقصى أثر الأنتيكا تاريخيا لا بد يكتشف أنها تكونت تدريجيا من خيوط سائبة، وعقد لنصوص شفهية. لذا فإن هذا الباحث، لا يعتبر تاريخ ألمانيا، تاريخا لأحداث ووقائع، إنما مواصفات عامة لتاريخ أدبي، وبهذا فإن الرجل يدخل عميقا في بذرة تشكل الوعي التاريخي للألمان. وباختصار يقول: التاريخ ليس وثيقة كتابية لأحداث حصلت، إنما صدى إنطباعات لأحداث حصلت؟؟ عليه فإن كتابات هذا الرجل كانت نقدا قويا لما خلفته قرون التدوين التاريخي، التي دعته لإستخدام عبارة : ظلامية عصر التنوير؟؟ فالتاريخ برأيه لم يكن بحثاً وتنقيباً وحفظاً، إنما انتخاباً وخلقاً جديدا. وأخيرا يعتبر غوندولف الخطابة (وروح الفخر والمجد) هي المفتاح الإصطلاحي لكتابة التاريخ وهذا يذكرنا ببكائيات موتى الجيروسك، التي كانت بمثابة صرخة الخلاص من روما. وهكذا يلخص أفكاره: أعرف أن شيئا واحدا يظل خالدا أبد الدهر: إنه أمجاد الموتى. ً
naderkraitt@yahoo.de
للموضوع صلة
الخديعة نشأة المسيحية
“اغفر لهم يا ابتاه لانهم لايعلمون ماذا يفعلون”