قاس جدا ولا يحتمل. لثوان عابرة، تمنيت لو يعاد اعتقاله الآن، في هذه اللحظة، كاتب “خيانات اللغة والصمت”*. فليأخذوا معه إلى سجنه، تغريبته التي تملأني غربة. فليقيدوا لغته وحشية الألم. إن نسوا، سأشير كأي مخبر مخلص، إلى ذلك الصمت بكل ضجيجه المؤلم.. – يسميه صمتا..خائنا!
قرأت عشرات القصص وسمعت مئات الحكايا. تعبَد الطريق من سجن إلى جهنم إلى سجن..إلى ذاكرتي. ذاكرتي مثقلة بذكريات الآخرين الحزينة. لم يعد لتفاصيلي الصغيرة من مكان. هي أيضا خائنة، هذه الذاكرة. حقي عليه كاتب تلك الخيانات، سحب شهادته. ألم يضمن لنا في بداية التغريبة، أن عودتنا مضمونة؟ ” ليس بأسا كبيرا أن تذهبوا، ما دامت عودتكم مضمونة في آخر الكتاب..”. لا أعرف طريق الرجعة أبدا أيها الشاعر. “لن تشعروا بصدمة الحرية ولن تخنقكم الزرقة”..وبهذه صدقتَ..للأسف.
ينتابني إحساس غريب، بأنهم، من خاضوا تلك الطريق حقيقة، عبر جحيم المعتقلات وشياطينها، عادوا في النهاية. معهم ظل كبير جدا وثقيل جدا رموه كخيمة خشنة فوق جيلنا. هل نعيد اعتقالهم جميعا ونستريح؟! تبقى قبور من رحل منهم..وفي أحيان أخرى، تبقى كتبهم، وأشعارهم.. وأشباحهم. نشعل البخور ربما.
لن يجدِ الأمر كثيرا. من حلَوا محلهم في الزنازين المعدلة وراثيا، لازالوا أجسادا وأرواحا، وليسوا مجرد ذكريات أو أشباح.
أصحاب الذكريات، يخففون من وطأة الحاضر باستحضار الماضي. كرسي اليوم غير كرسي زمان. زنزانة اليوم، غير زنزانة زمان. قضبان اليوم، غير قضبان زمان. والمسيرة مستمرة!، وهنا الكارثة. خيمة أقل خشونة هي امتداد لخيمة خشنة. والظل الثقيل ما يزال ممتدا من هناك إلى هنا. الأدهى من ذلك كله، أنني طالما اعتقدت الخيمة إياها سماء.
في متاهة طريق الرجعة، مررت بفرج وهو على ذلك السلَم الآخر.. “وباتجاه آخر، حيث كل شيء يهبط ما عدا الروح”. مررت بتلك اللحظات التي كان فيها وآخرين يخلقون في سجنهم لحظة ابتسام أو ضحكة في موقف “فرح”، أو “فكه” ( يا للإنسان..كانوا قادرين على الخلق في زحمة الموت). ولدهشتي، كنت أبكي لتلك الابتسامات والضحكات. وفي نهاية الطريق الذي لم أرجع منه، تمنيت لو ألتقي أم فرج، التي علمته أن “الحرية التي في داخلنا أقوى من السجون التي نحن في داخلها”. وددت فقط، أن أطرح عليها بضعة أسئلة! قبل أن أرحل، سأعتذر عن فكرة إعادة اعتقال ابنها مع لغته وصمته. لأنني ببساطة، لن أتمكن من اعتقالنا جميعا. وحتى لو تمكنت، ذلك لن يجد نفعا. فرج قال ذلك. وأنور دائم الابتسام، يجعلني أصدقه مئة بالمئة.
الخيمة واحدة، والظل واحد. حرية واحدة، تجلوهما ضد العتمة.
razanw77@gmail.com
* دمشق
* كتاب الشاعر السوري والمعتقل السابق فرج بيرقدار “خيانات اللغة والصمت، تغريبتي في سجون المخابرات السورية”.