على الرغم من أن قسما كبيرا من بنيان الحياة القديمة قد تشكل استنادا إلى أطر وضعتها الثقافة التقليدية الغيبية القائمة على مبدأ ما هو “مقدّر” و”مقسوم” للبشر، التي طرحها وتبناها التفسير الديني التاريخي، ثم سيطرت تلك الثقافة على الإنسان وعلى شؤون حياته، فإن هذا البنيان انهار في لحظة معينة من التاريخ بعد أن تهدمت قواعده التي كان يقف عليها. لكن: لماذا تهدمت تلك القواعد؟
غالبية من المفكرين الحداثيين يعتقدون أن السبب الرئيسي في ذلك يعود إلى سقوط السلطات التي كانت تتحكم في الحياة القديمة، ومنها السلطة الأقوى، أي السلطة الدينية المؤسسة للثقافة التقديرية. فبعد أن كان “التقدير” الإلهي و”النصيب” الديني يسيطران بصورة رئيسية على التفكير ويبنيان ثقافة الخضوع والطاعة والتبعية لرجل الدين الفقيه، باتا ذوي حضور محدود جدا في الحياة الحديثة باستثناء العالمين العربي والإسلامي.
فالحياة الراهنة أصبحت تستند إلى رفض العيش في ظل سلطات مسبّقة تتحكم في حياة الإنسان وفي تفكيره، وأطر التفكير أصبحت مفتوحة بحيث لا يمكن تحديدها أو السيطرة عليها. كما انفتح على الإنسان باب “انتخاب” الأطر التي يجب أن يعيش تحت ظلها، ولا مجال لـ”إجبار” أي شخص على الخضوع أوالركوع لإطار فكري معين، وبالذات الإطار الديني التقليدي الخاضع لمفهوم التقدير الغيبي الإلهي.
ففي كل مجال من مجالات الحياة، وفي كل شأن من شؤون الإنسان، انفتح باب الانتخاب على مصراعيه وتعددت الاختيارات، وذلك بعد أن تنوعت طرق التفكير. وهذا التنوع لم يكن لينشأ لولا سقوط إمبراطورية “التقدير” الدينية المهيمنة على الحياة، والتي كانت تستند في تفكيرها، وأيضا في حل القضايا والمشكلات، إلى رجل الدين الفقيه صاحب التفسير المستند إلى الغيبيات الدينية التي ترفض ظهور منهج الانتخاب والاختيار، لأن هذا التفسير لا يرضى إلا بوجود منهجه ولا يقبل إلا بتسيّد فقهه على الحياة.
وفي اعتقاد الفقيه وتفسيره الغيبي، لم تكن مناهج التفكير الأخرى إلا مجرد “خزعبلات” تتعارض مع سلطته الدينية وتتحداها، وهي سلطة لا ترضى للإنسان إلا باتباعه وتقليده والائتمار بأوامره.
ففي الماضي كانت مسؤولية الإنسان هي “التبعية” للسلطات المتحكمة في الحياة، ومنها سلطة رجل الدين، وهو أمر لا يزال مستمرا في وقتنا الراهن في العالمين العربي والإسلامي.
وفي عالم السياسة القديم كان على الإنسان أن يطيع الحاكم أو السلطان أو الخليفة، وهذه الطاعة لم تكن إلا مجرد تبعية تعبّر عن حياة الراعي والرعية. في حين باتت الحياة في الوقت الحاضر تستند إلى مفهوم الوطن والمواطن والمواطنة، والذي تبرز خلاله عملية الانتخاب ما جعل حياة الإنسان ترفض اتباع شخص ما وإنما اتباع نهج فكري اختاره هو.
إن الانتخاب لا يمكن أن يتعايش مع الطاعة والتبعية، بل هو في الضد ومتناقض معهما. فهناك من يعتقد أن “الشورى” في التفكير الديني هي مرادف للانتخاب، وهذا خطأ كبير. فمن يتمعن في التجارب التاريخية السياسية للحكام المسلمين، ومنهم الخلفاء (وكذلك التجارب السياسية الدينية الحديثة كتجربة الثورة الإسلامية والنظام الإسلامي في إيران) سوف يستنتج أن “الشورى” لم ولن تعكس إلا الطاعة والتبعية، على الرغم من وجود عملية انتخاب في بادئ ولوج الخليفة أو الأمير أو الولي أو المرشد على الحكم. فتجربة الخلفاء مع معارضيهم تثبت بما لا يدع مجالا للشك أنهم تعاملوا معهم بمفهوم الطاعة والتبعية لا بمفهوم الاختيار والانتخاب، وللدلالة على ذلك فلنتمعن في تجربة المعارضة التي جسدها أبو ذر الغفاري مع الخليفة عثمان بن عفان.
إن الإنسان، في الحياة الحديثة الراهنة، ليس أمامه إلا السير في نهج الانتخاب، لأن جميع الأمور والقضايا خاضعة لهذا النهج. فالتعدد والتنوع ظاهران في مختلف جوانب الحياة بما فيها الدينية، وحتى في الأطر الضيقة منها أيضا. فهناك تعدد في الديانات، وكذلك تعدد في المذاهب لدى الدين الواحد، وتعدد في التوجهات الفكرية والسياسية والاجتماعية داخل المذهب الواحد.
إن تنوع الاختيارات في الحياة الحديثة لا يمكن أن يخضع للسؤال التالي: هل نريد هذا التنوع أم لا نريده؟ فالحياة قائمة على التنوع ولا حياة من دونه، لكنه يختلف في “نسبته” من مجتمع إلى آخر.
هذا التنوع والتعدد هو الذي أدى إلى ظهور “البدع” في الحياة. والبدع حسب التفسير الديني التقليدي التاريخي تصنّف في إطار العمل المذموم!! لكنها في واقع الحال لا تعبر سوى عن مفهوم “الإبداع” لدى الإنسان الحديث إن صح التعبير. فبالتنوع، ومن خلال إنتاج البدع أو “الإبداعات”، استطاع الإنسان أن يقفز قفزات جبارة في جميع شؤون الحياة. لكنه التفسير الديني التقليدي الذي لا يزال يسعى لأسر البشرية في سجن فهمه التاريخي الماضوي ليطلق على الإبداعات، التي تظهر في كل لحظة من لحظات هذه الحياة، بدعا مذمومة، رغم أن أصحاب هذا التفسير، من دون أن يعلموا أو بجهل متعمد منهم، يستخدمون معظمها ويستغلون أخطرها لتحقيق مآربهم الماضوية والوصائية.
فالبدعة كانت مذمومة في الماضي لأنها كانت تعتبر عملا غريبا واستثنائيا. فبسبب سيادة ثقافة الخضوع والتبعية والطاعة للسلطات التي كانت تتحكم في الحياة آنذاك، كانت البدعة تعتبر تحديا وخروجا على طاعة تلك السلطات. لكن العصر الراهن الحديث هو عصر البدع أو الإبداعات الخلاقة بكل ما تحمل هذه الكلمات من معان، لأنه عصر الانتخاب لا عصر الطاعة والتبعية والتقليد.
ssultann@hotmail.com