صور (جنوب لبنان) – منال أبو عبس الحياة
«ما بدنا يونيفيل»، يقول المراهق في بلدة مارون الرأس ما ان يرى دفتر تدوين الملاحظات. يشق طريقه على الدراجة النارية بصعوبة فوق تلال الركام في البلدة المهدمة. تتمتم الحاجة أم حسين وهو يبتعد: «البلد لم تخرب إلا عندما صار للأولاد مواقف سياسية».
بلدة مارون الراس حيث يقف المراهق والحاجة تلّة باتت مدججة بالعسكريين. انها التلّة التي شهدت أشرس معارك خلال حرب تموز (يوليو) الماضية. دخلها الإسرائيليون وخرجوا بموجب القرار 1701، الذي أوقف الأعمال العدائية وزرع نحو 12 ألف جندي من القوات الدولية «يونيفيل» و15 ألف عسكري لبناني جنوب نهر الليطاني في جنوب لبنان. لكن، ماذا يعني وجود 27 ألف جندي في منطقة كان لـ «حزب الله» النفوذ العسكري التام فيها بعد انسحاب الإسرائيليين منها عام 2000، وبعد غياب للجيش اللبناني عنها دام ثلاثة عقود متتالية؟
آلية تابعة لـ«يونيفيل» في احدى قرى جنوب لبنان
في الأسبوع الماضي طلب رئيس بلدية «مارون الراس» من فريق المستشفى الميداني الفرنسي العامل في إطار قوات «يونيفيل» مغادرة البلدة. وقبل ذلك رشق أولاد في دبين دورية إسبانية بالحجارة. الحادثتان وأخرى غيرها تسلط الضوء على طبيعة العلاقة الملتبسة بين بعض سكان الجنوب والقوات الدولية.
لدى عدد من هؤلاء تحفظات كثيرة على قوات «يونيفيل». ينتقد صاحب الفرن القريب من دار البلدية في تبنين ما يرى انه نظرة دونية من الفرنسيين للجنوبيين. ويصب تلميحه في إطار ما يقال عن أن ذهنية الجنوبي لا ترى الفرنسي في غير صورة المنتدب. الذهنية نفسها قد تكون سبب تأكيد رئيس اتحاد بلديات بنت جبيل علي بزي لـ «الفرنسيين» أن «نصف أبناء البلدة من حملة الشهادات العالية ويرفضون أن ينظر إليهم أحد باستعلاء».
الاستعلاء، ان وجد حقاً، ليس السبب الوحيد لتمييز الفرنسيين عن سواهم من القوات الدولية. يتناقل بزي ومن قبله صاحب الفرن وآخرون أخباراً سمعوها عن أن «الفرنسيين يفتشون شبكات الصرف الصحي في بنت جبيل بحثاً عن السلاح من دون إذن ومواكبة من الجيش اللبناني، ويفتشون حقولاً وأبنية مهجورة». أخبار التفتيش والمداهمات ينفيها في شكل قاطع الكابتن الفرنسي ستيفان ايغا الناطق الإعلامي باسم الكتيبة الفرنسية في الطيري، ويؤكد أن القوة الفرنسية «لم تنفذ أي عملية تفتيش منذ مجيئها الى لبنان، وان ليس من مهمتنا وفق القرار 1701 أن نقوم بعمليات تفتيش منازل أو غيرها ولا حتى إقامة حواجز على الطرق».
المواقف الدولية والإقليمية والمحلية، عنصر آخر يصب الزيت على نار العلاقة الحساسة بين بعض الجنوبيين والدوليين. طرد الفرنسيين من مارون الراس غير بعيد زمنياً من تصريح (علي لاريجاني) أن فرنسا معرضة لخسارة دورها في لبنان لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية. لكن الحديث في بنت جبيل وعيناتا ومارون الراس وعيترون ودبين وغيرها يكثر عن اتهام النائب وليد جنبلاط «حزب الله» بتحريض الأهالي ضد القوات الدولية، و «تنبؤ» رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» سمير جعجع باحتمال تعرض الجنود الدوليين إلى هجمات إرهابية.
المسؤول الإعلامي في «حزب الله» حسين رحال يحمل الأطراف السياسيين في لبنان مسؤولية تضخيم الحوادث العابرة مع قوات «يونيفيل»، معتبراً أن «في العادة تحصل إشكالات بين أفراد العائلة الواحدة». من وجهة نظر رحال فان «المشكلة تكمن في ان بعض الأطراف يريد أن يسلط الضوء على أن ثمة مشاكل تواجه القوات الدولية في الجنوب، وهذا أمر مشبوه لأن المفروض إذا كنا نعمل للمصلحة اللبنانية أن نُبرز الخرق الإسرائيلي، وان نجعل القوات الدولية تعمل لمواجهة الخرق الإسرائيلي وليس تحويل مسار عملها وإشغالها بصراع داخلي في لبنان ولا أن نضعها مع طرف في مواجهة آخر».
وقوف القوات الدولية مع طرف ضد آخر، هو ما سنسمعه كثيراً في مناطق مختلفة من جنوب الليطاني (باستثناء المناطق ذات الغالبية المسيحية). تحمّل أوساط جنوبية جنود القوة الفرنسية وزر مواقف بلدهم من سلاح «حزب الله» والمقاومة والحكومة اللبنانية. تكثر هنا عبارات مثل: «الحكومة الفرنسية تقف مع حكومة فؤاد السنيورة ضد الحزب»، و «فرنسا تطالب بنزع سلاح حزب الله»… على ألسنة الناس العاديين، لتصل في حالات اكثر اغراقاً في التحليل إلى الدور الفرنسي في القرار 1559 المطالب بنزع سلاح «حزب «الله»، وهو ما يستتبع من مناصري «حزب الله» «استماتة» في الدفاع عن حزبهم في وجه «مؤامرة دولية تحاك ضده».
في جنوب الليطاني أيضاً، يسلط اتهام وزير الخارجية الفرنسي «حزب الله» بأنه منظمة إرهابية الأنظار في اتجاه الجنود الفرنسيين.
«أهل بنت جبيل كلهم مع حزب الله»، يقول بزي، مضيفاً إلى أسباب العداء الجنوبي للفرنسيين سبباً سياسياً آخر. بزي يرى أن التصريحات السياسية تلعب دوراً سلبياً في تعبئة الناس الذين «سألوا عن سبب بقاء القوات الفرنسية في الجنوب ما دام فيه إرهابيون». ويرفع بزي التهمة عن «حزب الله» بتأليب الناس على القوات الدولية، ويؤكد أن «البلدية تنسّق مع «حزب الله» في موضوع «يونيفيل» ولا نتلقى أوامر من أحد».
من جهته، لا يبدو رحّال مرتاحاً إلى المواقف التي يتبنّاها «الأهالي» رداً على التصريحات التي لا تعجبهم. ويرفض في شكل قاطع النظرية القائلة إن «حزب الله» يؤلبهم ضد القوات الدولية التي احتلت ساحة صراعه الوحيدة، مؤكداً ان ليس للحزب مصلحة في توتير العلاقة مع قوات «يونيفيل»، ما دامت تعمل ضمن القرار 1701 الذي وافق عليه مجلس الوزراء اللبناني.
«لا يشكل وجود القوات الدولية خطراً على حزب الله»، يقول رحال، موضحاً ان في إطار الأزمة التي أثارها الحديث عن نية فرنسا إرسال طائرات استطلاع إلى لبنان، «أعطينا رأياً علنياً ومباشراً للفرنسيين. وهم تفهموا الموضوع ونفوا نيتهم القيام بذلك. لا داعي للخوف لأن القنوات مفتوحة مع الفرنسيين».
زيادة التنسيق بين قوات «يونيفيل» والجيش اللبناني وبينها وبين الناس على الأرض عنصر آخر يسهّل سير الأمور من وجهة نظر رحال الذي يعلن استعداد «حزب الله» تقديم كل «ما يطلب منا لتكون العلاقة طيبة وطبيعية، ونحن نبذل الجهود مع البلديات وغيرها لتكون العلاقة أكثر دفئاً مع القوات الدولية».
دوريات «يونيفيل» تذكر بالاسرائيليين
يغيب عند الناس والمسؤولين هنا أن القوات الدولية تقوم بمهماتها بأمر من الأمم المتحدة، وهي غير معنية بالتصريحات الصادرة عن الدول التي تحمل جنسياتها.
وكما التحفظات على الفرنسيين، فإن أوساطاً جنوبية تتذمر من الإسبانيين والإيطاليين، وإن بدرجة أقل. ويحكي عدد من الجنوبيين أن بين صفوف الأخيرين عناصر لمصلحة الاستخبارات الاميركية والاسرائيلية.
الغضب على الإسبانيين الذي أفرز حادثة دبين يدرجه البعض في خانة مساهمتهم في القرار 1559، وتالياً معاقبة الاسبانيين على الدخول إلى بلدات في شمال الليطاني.
«تجاوزوا منطقتهم وراحوا يلتقطون الصور وهم يؤدون حركات عسكرية قتالية»، كما يقول رحال، نافياً أن تكون حادثة رمي الحجارة على الدورية الإسبانية – التي ينكر حصولها أصلاً – جاءت رداً على هذا التجاوز. ويؤكد الدور الإيجابي للحزب في التقريب بين الناس والقوات الدولية: «تدخلنا مع الناس ليفهموا الموضوع قبل اتخاذ أي خطوة. ربما كان العناصر مخطئين وظنوا انهم في المنطقة المخصصة لهم. بعد الحادثة قدموا اعتذاراً على التجاوز وقالوا ان بعض ضباطهم وجنودهم يخطئون».
والخوف من أسلحة جنود «يونيفيل» ودورياتهم الليلية وأضرار الآليات الثقيلة على الطرق المعبدة، عنصر آخر أسهم في زيادة التوتر بين الطرفين. «في البداية كان الإيطاليون يسيرون دوريات ليلية في صور، مصوبين أسلحتهم الرشاشة في اتجاه الناس. هذا ترك شعوراً بالعداء في نفوس أهل المدينة»، كما يقول علي وهو صاحب أحد محلات الألبسة في ساحة أبو ديب في صور.
وفي مارون الراس، تبدي الحَاجّة انزعاجاً مماثلاً من الدوريات. الحَاجّة لا تعرف جنسية جنود الدورية، وتسميهم «الأمم المتحدة». وتتحدث عن خوف أحفادها كلما مرت آلية ثقيلة في قلب البلدة، و «يصرخ الاطفال اجوا الاسرايليين يا تاتا». تتململ الحاجة من السرعة التي تمر بها سياراتهم العسكرية و «ينط قلبي على الأولاد الذين يلعبون في الساحات».
الإزعاج الذي تسببه الدوريات للأهالي مشكلة يعلم الكابتن ايغا بوجودها، لكنه يبرر ذلك بأنه «يفترض علينا القيام بدوريات وهذا يسبب إزعاجاً للأهالي، ونحن نتحاشى الإزعاج الى الحد الأقصى. لم تعد دبابات لوكلير تقوم بدوريات ليلاً، وصارت تسلك طرقاً جانبية كي نتحاشى الإزعاج». ويقول: «لا نريد إزعاج أحد. في النهاية نحن ليس لدينا أعداء هنا ونحن جنود سلام».
تطبيع … دولي
خلال مرور دورية اسبانية بجانب محل لتنجيد المفروشات، سأل جندي اسباني المنجد ان يصنع له وسادتين. صنعهما الأخير وقدمهما للاسباني من دون مقابل، سائلاً الجندي أن يشرب معه الشاي. شرب الأخير، وصارت قصة الاسباني والمنجد مثالاً تتناقله الألسن كلما تطرق الحديث إلى العلاقة مع «الدوليين».
تتحدث ريهام عن آلية تطبيع بدأت تظهر مفاعيلها في المناطق القريبة من أماكن إقامة الجنود الدوليين. «صار الناس يستخدمون كلمات أجنبية بحسب جنسية القوات»، تقول المعلمة في إحدى مدارس مرجعيون. وتوضح أن جزءاً كبيراً من المشكلات التي يتناولها الإعلام لا تعدو كونها شائعات يختلقها أولاد.
على زجاج أحد المتاجر في ساحة جديدة مرجعيون عُلقت لافتة: «توجد لدينا طلبات التوظيف في الأمم المتحدة». ويقول مصدر في مكتب الأمم المتحدة في لبنان أن «طلبات التوظيف المقدمة بلغت 15 ألفاً، معظمها من حملة الشهادات العالية». يتحدث المصدر عن مساهمة هذه القوات في تأمين فرص العمل لعدد كبير من الشباب اللبناني، وعن النشاطات الاجتماعية والثقافية والرياضية وعمليات نزع الألغام التي يقومون بها في المناطق الجنوبية.
لا يعطي المصدر أهمية إلى طرد الفريق الطبي الفرنسي من مارون الراس، ويقول انه ناجم عن خطأ من الفريق الفرنسي الذي لم ينسق مع رئيس البلدية.
الكابتن ايغا يؤكد الأمر نفسه. ويقول إن «الفرقة الطبية توقفت لأسبوع واحد وستعود بعد التنسيق مع رئيس البلدية». ويوضح ان الفريق كان يزور البلدة مرة كل أسبوع، ويعالج نحو 30 مريضاً.
جنوبيون يعرضون بضائعهم أمام احد المواقع الدولية (الصور لعلي سلطان)
شتروغر … ومسؤولية الإعلام
يحمّل الناطق الرسمي باسم القوات الدولية ميلوش شتروغر كل ما ورد عن توتر في العلاقة بين الجنود الدوليين وأهل الجنوب إلى الإعلام. يقول إن الحوادث عابرة وفردية، ولا يجب النظر إليها بمعزل عن النشاط العام للقوات الدولية.
يبرر حادثة دبين بالقول ان «في ذاك اليوم نفذت يونيفيل 300 دورية في المنطقة. كان قائد القطاع اجتمع مع نواب من «حزب الله» وحركة «أمل» في ابل السقي وعلما الشعب ووادي الجوز. ودُشِّنَت مشاريع عدة نفذتها يونيفيل. كانت مستشفياتنا الميدانية تعالج المرضى ومهندسونا كانوا يعملون في القرى المدمرة. عناصرنا ينزعون الألغام بمعاونة المحليين. الفرقة النيبالية كانت تدرب الأهالي في مقاهي الانترنت في حولا والفرقة الإسبانية تتابع برنامجها لتعليم اللغات والفرقة الإيطالية تقيم ندوات للتحذير من مخاطر الألغام. كل هذا حصل في يوم واحد مع حادث رشق الحجارة، لكن الإعلام ركز على الحادث ونسي كل ما كنا نقوم به في المنطقة».
من مكتبه في بئر حسن يصف شتروغر العلاقة مع الأهالي في الجنوب بالجيدة جداً. يقول إن سبب وجودنا في المنطقة أن نضمن الاستقرار ونساعد الجيش اللبناني ونحمي المدنيين، وهذا ما ينص عليه القرار 1701».
لا يلمح شتروغر الى عداء يخفيه أي فريق لبناني للقوات الدولية. ويضع الحوادث المتفرقة في إطار التغيير العسكري الجذري في الساحة الجنوبية: «كانت مهمتنا أن نبقى على حال وقف الأعمال العدائية وتسهيل انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي يحتلها في جنوب لبنان. وطالما أن الإسرائيليين يحتلون أجزاء من لبنان، كان علينا أن نستعمل جرافاتنا وآلياتنا الثقيلة وكل ما أمكننا لنضمن عدم حصول أي حوادث يمكن أن تُشعل الحرب مجدداً. وبعد ان انسحبت إسرائيل باستثناء الجزء المحتل من الغجر، تركز اهتمامنا على تطوير العلاقات مع المحليين، لأنه كان هناك أسئلة: هل الجنود الدوليون موجودون هنا لحمايتنا أم لحماية غيرنا؟… أعتقد بأننا على الطريق الصحيح وفي المستقبل سيتفهم الأهالي ما الذي تقوم به «يونيفيل» ولماذا».
يذكّر شتروغر بأن الموافقة على القرار الدولي تمت من جانب الحكومة اللبنانية بما فيها وزراء «حزب الله» وحركة «أمل»، ويؤكد أنه «حتى الآن لم يبدل أي من الأطراف رأيه في الموضوع».
في المقلب الآخر من العلاقة الملتبسة بين قوات «يونيفيل» و «الجنوبيين»، يقع العامل الاقتصادي. يتحدث شتروغر عن أن «الكثير من الموظفين المدنيين والضباط العسكريين في «يونيفيل» استأجروا وعائلاتهم منازل لهم في صور والقرى المحيطة بها». وأكد أحد العاملين في صور أن إيجار المنزل الواحد ارتفع إلى 1200 دولار أميركي (أربعة أضعاف إيجاره السابق).
يتحدث شتروغر عن الأثر الاقتصادي للقوات الدولية. ويقول: «عندما كان عدد جنود «يونيفيل» ألفي عنصر بعد التحرير، كانت موازنتهم 49 مليون دولار. في ذلك الوقت انفق نحو 45 مليوناً من الموازنة في لبنان. موازنة القوات الحالية من المتوقع أن تبلغ ستة أضعاف الموازنة السابقة»، ويسأل: «كم سيبقى من هذه الموازنة في لبنان لا يمكننا ان نخمن، لكن المؤكد ان الرقم سيكون ضخماً».