من الخطورة استدعاء الأٌقباط في مسألة الإصلاح الدستوري بمنطق طائفي، وكأن الأقباط- وحدهم- دون غيرهم مطالبين بنقد المواد ذات الطبيعة الدينية من الدستور، وتحديدا النص بأن الإسلام دين الدولة، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. هكذا أصبح مطلوب من الأقباط وحدهم أن يكونوا في موقع الصدارة في قضية يرجى من وراءها إثارة غبار على طبيعة الحضور المسيحي في المجتمع المصري، وإضفاء مزيد من التعقيد علي الاندماج السياسي للأقباط.
بداية أحب أن أؤكد أن هناك العديد من الاجتهادات القانونية التي طرحت تمس صياغة هاتين المادتين من الدستور المصري، وكثير منها لا ينطلق من أرضية علمانية ترفض بقائهما، ولكن من أرضية قانونية تري أن صياغة المادتين علي النحو الراهن تثير إشكاليات قانونية. فمثلا القول بأن “الإسلام دين الدولة” ليس له معني قانوني ذي دلالة. فهل الدولة كائن بشري يمكن أن يتدين بدين معين. وهل النص بأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع يجب ما عداها من مصادر؟ السجال ممتد في هذا الشأن، لن أخوض في هذا الحديث الآن، كل ما يستوقفني هو تراجع التيارات العلمانية عن مناقشة هذا الموضوع صراحة، والاكتفاء بالهمس حينا، والتمسح بالأقباط في كثير من الأحيان، وهو ما يجعل الأقباط في “حالة توظيف سياسي دائم” في معارك ليسوا الطرف الأساسي فيها.
وهنا يجب تسجيل عدد من النقاط الأساسية:
1- طيلة العامين الماضيين، وبالتحديد منذ عام 2003 عندما بدأ الحديث عن الإصلاح، عربيا ومصريا يقفز إلي صدارة الاهتمام في الشارع السياسي، لم يشارك الأقباط بفعالية في جهود أو حتى لحديث حول الإصلاح، ليس هناك سوي بضع أسماء معروفة للحياة العامة منذ سنوات. ولم تبذل جهود حقيقية من أي طرف سياسي لتشجيع مشاركة الأقباط. وبدا الأمر وكأنه لا يخص الأقباط، الذين لا يفكرون سوي في مشكلاتهم الخاصة، ولا يتحدثون عن سواها. يضعهم هذا التفكير في موضع أقرب إلي “الجالية” منه إلي مجتمع المواطنين. الجاليات تنكفئ علي مشكلاتها وهمومها وشواغلها فقط، لا يعنيها من بعيد أو قريب تفاعلات الواقع من حولها، كل ما يهمها شأنها الخاص. أما مجتمع المواطنين فهم منشغلون بالعام والخاص معا. وتقودنا النظرة التكاملية إلي تحقيق الخاص في إطار الخير العام، بمعني أن يجد الهم الخاص سبيله للحل في إطار جهود الارتقاء بالكل المشترك. هذا ما لم يفطن إليه الأقباط بعد. ومن الملفت أنه لا يوجد تنوع حقيقي في صفوف الأقباط، يعكس تعدد الانتماءات المجتمعية الحديثة في إطار رابطة المواطنة. فلم تعد هناك أسماء قبطية فعالة ومشاركة في السجال العام حول قضايا هي من صميم الحياة السياسية مثل قانون الطوارئ والمشاركة السياسية وتصفية القطاع العام والانتخابات الطلابية….الخ. هذه فقط مجرد نماذج لقضايا نكاد لا نجد قبطيا واحدا يتحدث فيها في وقت باتت فيه شرعية الدفاع عن الشأن الخاص لأي جماعة ترتهن بشرعية الدفاع عن الشأن العام.
2- تشجيع الأقباط علي الخوض في انتقاد المواد ذات الطبيعة الدينية في الدستور يعوق مشاركتهم واندماجهم في الشأن العام. الأقباط متنوعون، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ويجب أن يظلوا هكذا. الدفع بهم للمضي وحدهم علي هذا الطريق يجعلهم أكثر فأكثر منعزلين متقوقعين سياسيا، تحركهم مصالح طائفية مباشرة تلغي تنوعهم. القضية برمتها لا تزال في طور “المساجلات الخالية من المعني”. رغم أن النص على أن الإسلام دين الدولة، ومبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع تم منذ عقود لم نجد حتى الآن دراسة قانونية متكاملة موثقة حول تأثير مثل هذه النصوص على الوضع القانوني للأقباط، بوصفهم مواطنين كاملي الأهلية السياسية والقانونية في المجتمع. من هنا فإن المطالبة بإلغاء هذه المواد أو تعديلها أو الشكوى من وجودها أو الاستماتة في الدفاع عنها، كل هذا لا يستند إلي طرح قانوني محدد. القضية برمتها سياسية، والتوظيف فيها سياسي، وتداعياتها سياسية.
3- كثير من المشكلات التي يتحدث عنها الأقباط لا يبدو أن هناك ارتباطا مباشرا بينها وبين كون الإٍسلام دين الدولة الرسمي أو أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. فمثلا الجرعة الإعلامية المكثفة للبرامج الدينية في التليفزيون، وعدم حصولهم علي الحضور الإعلامي المناسب، أو الازدراء بعقيدتهم في بعض المنابر الإعلامية، أو التمييز ضدهم في شغل بعض المواقع القيادية، أو تراجع مستوي تمثيلهم السياسي، أو تديين المجال العام. كل هذه المشكلات لم تترتب تلقائيا علي نصوص الدستور ذات الطبيعة الدينية. والدليل علي ذلك أن الاتجاه الرسمي كان في وقت من الأوقات يرفض تعيين محافظ مسيحي وكذلك تولي د.بطرس غالي منصب وزير الخارجية (راجع كتاب طريق مصر إلي القدس) لم يكن ذلك بسبب نصوص الدستور ذات الصبغة الإسلامية، والدليل علي ذلك أن مسيحي تولي منصب محافظ وآخر تولي وزارة المالية في ظل وجود هذه المواد. وإذا كان الأقباط يشكون من العقبات التي تعترض بناء وترميم الكنائس فإن هذا الموضوع قديم، يعود إلي عهود سابقة لم تكن فيها هذه المواد الدستورية قائمة بهذه الصياغة. وعلي العكس من ذلك فأن التطور النسبي الذي لحق بملف بناء وترميم الكنائس حدث مؤخرا، أي في ظل وجود هذه المواد الدستورية ذات الصبغة الإسلامية. ولم تحل هذه المواد الدستورية أيضا دون اعتبار عيد الميلاد عطلة رسمية، أو نقل صلاة عيدي الميلاد والقيامة على الهواء مباشرة.
القضية- إذن- ليست لها علاقة مباشرة بالأقباط، بقدر ما لها علاقة بموقع الدين في بناء الدولة والمجتمع. الحكومة توظف الدين لكسب شرعية، والتيار الإسلامي يستند – بحكم التعريف- إلي الشرعية الدينية، والأحزاب السياسية جميعا تبحث عن شرعية دينية، الكل يريد الدين مصدرا للشرعية. هذه هي القضية بوضوح. فلا يصح أن يكون الأقباط “حصان طروادة” للفصائل السياسية التي تقود معاركها علي أرضية الصراع علي الدين من أجل السلطة. الملفت أن التيارات العلمانية تصمت الآن في وقت ينبغي أن ترفع فيه صوتها. والحكومة أغلقت باب الكلام في هذا الشأن حتى لا تكون طرفا في حديث لا تود الخوض فيه. والحقوقيون يتحدثون بصوت خفيض، لم يعلو بعد، والتيار الإسلامي بمختلف تفريعاته يعتبرها “معركة مصيرية”. هناك إذن ما يشبه الاتفاق العام علي الصمت أو التجاهل أو التأجيل أو المزايدة…..فلماذا ٌيطلب من الأقباط دون غيرهم إشهار السلاح؟ هل رغبة في إثارة الغبار علي قضايا ساخنة بعينها لتمرير تعديلات دستورية في صمت حول قضايا أكثر سخونة؟ هل المطلوب أن يظهر الأقباط وحدهم في طليعة “القوي العلمانية” حتي يسهل تصنيفهم، وحشرهم في منطقة الصيد بين الحكومة والتيار الإسلامي؟
الموضوع برمته- كما أسلفنا- لا يمس الأقباط وحدهم، أو يخصهم دون غيرهم. فإن كانت هناك نخب سياسية أو ثقافية تري أن هناك مشكلات حقيقية تترتب علي بقاء المواد ذات الطبيعة الدينية في صلب الدستور المصري فعليها أن تطرح رؤاها علي أرضية سياسية واضحة، لا تضع الأقباط في المقدمة للاختباء خلفهم، أو تذرف الدمع علي حال الأقباط المتراجع قانونا في ظل المواد ذات الصبغة الإسلامية في الدستور.
هل أمر الدولة المدنية يهم الأقباط وحدهم؟ وهل مليشيات الأزهر كانت تجيش وتستعرض عضلاتها من أجل الأقباط؟ وهل أسلمة البورصة يضر بالأقباط فقط؟ وقبل هذا وذاك هل شعار “الإسلام هو الحل” يطول الأقباط فحسب؟ وهل موجة التكفير تطول الأقباط وحدهم؟
القضية واضحة. الدولة المدنية وليست غيرها. والسؤال الآن: لماذا الأصوات المطالبة بها خافتة رغم كل ما يحدث؟
*مفكر مصري