في الحياة الحديثة، لا توجد حدود معينة للتفكير أو أطر لا يستطيع الإنسان أن يتجاوزها. ولا يمكن تكميم فم التفكّر وتكبيل يديه بأغلال تمنع عنه الحرية، أو رميه في سجون اللاتفكير المنتشرة في أصقاع العالمين العربي والإسلامي. وأخطر هذه السجون على الأمن والسلم الاجتماعي، بل وأكثرها فتكا بالتفكير الحر، هي تلك التي يصنعها الخطاب الديني والدين الرسمي المتحالف مع المستبد السياسي. ولننظر إلى الظروف المحيطة بنا ونحن نعيش وسط عالم العرب والمسلمين كيف استطاع السجّان الديني، الرسمي وغير الرسمي، أن يتحالف مع المستبد السياسي ويصنعا من هذه الحياة سجنا لا يقل سوءا عن أي جدران مسورة بالأسلاك الشائكة والحديد والحراس والكلاب والأجهزة لمعاقبة المجرمين وتعذيبهم وانتهاك حرماتهم. لنتفحص وضع المرأة، وضع الخادم والخادمة، وضع الأجنبي العامل، وضع الأقليات الدينية، والأقليات الإثنية، وضع الفقراء، وضع “البدون”، التمييز الفاضح بين المواطن والوافد، القوانين الرسمية والعادات والتقاليد الاجتماعية المستندة إلى التفسير الديني والمقيدة للحريات والحاثة على انتهاك الحرمات وحقوق الإنسان.
كل تلك الأمثلة توضح كيف أن السجن الذي صنعه الخطاب الديني المتحالف مع المستبد السياسي، أو ما يسمى بالمستبد الديني السياسي، في حياتنا العامة هو أسوأ من السجن الذي بني للمجرمين. فالمجرم على يقين بأن عالم اللاحرية سوف ينتهي بمجرد انتهاء فترة عقوبته، لكن ما مصير من يعيش في سجن الحياة المكبل دائما بأغلال الأحكام والقوانين الدينية والسياسية المتعجرفة التي حكمت على الحرية والعقلانية واحترام حقوق الإنسان بالمؤبد؟
لقد كان الإنسان في الماضي يعيش في ظل أطر من التفكير لا يستطيع أن يتجاوزها. وهذه الأطر كانت تحتل مكانة في الحياة أهم من الإنسان نفسه وأهم من وجوده. كانت تلك الأطر تحدد للإنسان طريقة التفكير دون أن يكون قادرا على نقدها أو تغييرها، فهي ترسم له طرق التفكير وكيفية التفكير، وما يجب أن يفكر فيه، وما يجب ألا يفكر فيه. هذه الأطر كانت متعلقة بالعالم الآخر، العالم المرتبط بالدين وبالغيبيات، وكانت مهمة البشر كشف تلك الأطر لا أكثر. وكانت الحقيقة الدينية، وغير الدينية أيضا، تفسر في إطار هذا النهج. فالحقيقة كانت تعني الوجود، والكذب كان مرادفا للعدم. أي أن التفسير الغيبي المرتبط “بالمقدر” الإلهي هو الذي كان يسيطر على التفكّر والتفكير. ولا يزال الخطاب الديني الراهن يضحي بالغالي والنفيس من أجل تثبيت هذا النهج في الحياة العامة، ولا يزال يعتقد أن الحياة لا يمكن لها أن تسير إلا وفق الأطر الغيبية. ولأن تغيير هذا النهج الديني التاريخي الغيبي معناه تقليل التدخل غير المبرر للدين في الحياة العامة، ومعناه أيضا الحد من سلطة رجال الدين الفقهاء على أمور الناس وأمور السياسة والاقتصاد والاجتماع وحتى الجنس، فإن الطريق أمام الفقهاء سار في اتجاه واحد هو: محاربة النظريات الحديثة في الحياة.
في الوقت الراهن لا توجد أي أطر تستطيع أن تكبل التفكير أو تسوّره بأسوار تحد من حريته وتعيّن أنواع موضوعاته التي يراد التفكير فيها. وهذا الأمر ينطبق أيضا على الدين والتفكير فيه وتفسير مكنوناته وحقيقته. فتفسير الدين بات مستقلا عن نهجه القديم، الذي كان محددا في أطر خاصة غير قابلة للتغيير والتطوير. وباتت الحقيقة الدينية المطلقة القديمة، متغيرة ومعبّرة عن حقائق جديدة نسبية في ظل مناهج تفسير جديدة، لا ترتبط بأطر غيبية جامدة مسوّرة بأسوار حديدية فحسب، بل بأطر علمية تستند إلى العقل المستقل الحر.
إن الإنسان الحديث أو إنسان اليوم، تم وضعه في صحراء كبيرة غير منتهية، ومهمته في حياته هذه هي اكتشاف نفسه، إذ عليه أن يعيش في إطار ما تمليه عليه مسؤوليته، وأن يحدد هو بنفسه كيف يريد أن يعيش فيها. فهو وُضع في حياة لا توجد بها أطر، ومسؤوليته هي وضع أطر لحياته، لا أن ينتظر الأطر الغيبية. فالغالبية العظمى من معوقات التفكير التاريخية التي كان الإنسان يستند إليها قد سقطت، كما أن الباقي في طور السقوط. لذلك لا يمكن في الحياة الحديثة قبول دور لمرجعيات، دينية كانت أو غير دينية، تحدد أطرا غيبية ماضوية للتفكير وتغيّب عقل الإنسان وتكبل حريته وتجعل إرادته تابعة لإرادة وعقل إنسان آخر، إنسان غير منتم للوقت الراهن. فالإنسان الحديث ما عاد يقبل للمرجعيات أن تلعب نفس الدور الذي كانت تلعبه في الحياة القديمة، وما بات يقبل للمنهج التاريخي، القائم على تقليد المرجعيات التي يستند فكرها إلى الغيبيات، أن يكون عنصرا أساسيا في حياته يديرها حسبما اقتضى التفكير الغيبي وحسبما كانت المصلحة الفئوية الضيقة.
إن هذا النوع من تقليد المرجعيات الدينية يظهر بوضوح لدى الطائفة الشيعية. فلم يكن الاجتهاد عند الشيعة معروفا، ولم يفتح بابه إلا في القرن الخامس الهجري، وكان التقليد في بداية نشوء الاجتهاد محرما عند الشيعة. وقال الشيخ الطوسي في كتابه (تلخيص الشافي) “إن العامي لا يجوز أن يقلد غيره، بل يلزمه أن يطلب العلم من الجهة التي تؤدي العلم”. كما قال السيد ابن زهرة في (الغنية) إنه “لا يجوز للمستفتي أن يقلد المفتي لأن التقليد قبيح ولأن الطائفة الشيعية مجمعة على أنه لا يجوز العمل إلا بعلم، وإنما أمر أهل البيت برجوع العامي إلى المفتي فقط، فإما العمل بقوله تقليدا فلا، والفائدة من ذلك أن يصير له بفتياه وفتيا غيره من علماء الإمامية سبيل إلى العلم بإجماعهم فيعمل بالحكم على يقين”.
أما إذا نظرنا إلى الوضع اليوم فإننا سنرى أن تقليد المرجعيات الدينية قد بات مسيطرا على حياة الإنسان الشيعي، وأصبح هذا النظام بمثابة “تبعية” أكثر منه رجوعا إلى الفتوى. فالمقلد اليوم لا يعتمد على عقله في التفكير أو الحوار أو المجادلة أو حتى في اتخاذ القرار، بل إن العقل الآخر المرتبط بالمرجع الديني أصبح هو البديل لعقله وبالتالي لقراره، ومن ثم لفعله. فالمقلد يعتمد على عقله فقط لدعم موقف العقل الآخر، ومن ثم اتباعه.
ويصف المفكر المصري جابر عصفور تلك التبعية بالآتي: “إن العلاقة التي ينطوي عليها فعل التقليد تتضمن بعدا من أبعاد القيمة المقسومة بين طرفين: الطرف الأول أسبق في الوجود وأعلى في الرتبة، والطرف الثاني لا حق في الوجود وأدنى في الرتبة، وعلاقته بما قبله علاقة من يستكمل نقصه باستدعاء من يراه أكمل منه في حال تقليده، فهي علاقة تقتضي تسليما أوليا أو قبليا بتميز ما سبق وضرورة تكراره بمحاكاته، أو إعادة نسخه باحتذائه”.
ويضيف عصفور أن “تلك العلاقة تسقط من حسابها متغيرات الزمن مفترضة أن القديم أو السابق ينطوي على قوة تجاوز المتغيرات، وترد سلبها على إيجاب ثباتها، فتنفي نقص الحاضر بالعودة إلى كمال الماضي الذي يظل على إطلاقه أفضل من تجليات أي حاضر أو متغيراته”.
إن تقليد المرجعيات الدينية، إضافة إلى كونه تبعية، وصل إلى مرحلة من “الاستسلام”، وذلك لتفويضه المرجع حق التدخل في جميع أمور الحياة، ومصادرة حق الإنسان في تقرير مصيره، بل وحقه أيضا في التفكير، ومحاصرة حريته الفطرية تحت مسمى الدين. فباتت صورة التقليد ووجهة الكثير من المرجعيات الدينية أقرب إلى المؤسسة التي تحتكر تفسير الدين وتأويله والنطق باسمه وإرجاعه إلى الماضي الغيبي، وأصبحت تلك الوجهة تهيمن على الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية، وبالتالي باتت تلغي معظم أدوار الإنسان في الحياة.
ssultann@hotmail.com
*كاتب كويتي