رَكلَ المسلح الباب الخشبي المترهل بقدمه ودخل الغرفة المظلمة، حيث ما زال نور الفجر يكابد العتمة بجدية من أجل أن يؤدي واجب البزوغ. اتجه المسلح ناحية رهينته بهمة مفتعلة. كانت الرهينة مريم جالسة متكورة وملتمة على نفسها، واضعة رأسها على ركبتيها، ويداها ملتفتان حول ساقيها. كانت ترتدي ثوباً طويلاً رثاً فقدَ ألوانه من فرط ما اُستهلك. كانت السَكينة مخيمة على حيطان المكان، والبؤس يملأ الزوايا، والمسلح قادم يخبط الأرض بحذائه العسكري، ويترك آثاراً على أتربة متناثرة ببلادة في الغرفة. اقتربَ من الرهينة مريم وجسده يبث رائحة عرقه النتن، بدا وكأنه لم يستحم منذ دهور، أو لعل بشرته أنست إفرازات العرق فصارت جزءاً منها..
زَعقَ المسلح في وجه مريم بنبرة غضب مرتبك وقال لها:
– انهضي يا قذرة… حان وقت ذبحك..
رفعت الرهينة مريم رأسها وحدّقت في وجهه بحدة تفلق الصخور الصماء وسألته بسخرية:
– هل أنت جاد هذه المرة فيما تقول؟
كان يعرف انها ستجيبه بنفس النغمة، فلقد سئمها وسئم أن يقوم بمهمة قتلها. ثلاث ليال مضت عليه وهو يأتي بقصد أن يتخلص منها، ولكنه في آخر لحظة يجبن ويضعف عزمه، فيعدل عن قراره. لا يدري هذا المسلح لماذا يفشل في كل مرة. إن مريم امرأة عجيبة بالنسبة إليه، ربما لأنها لا تخشى الموت ولا تهابه، لذلك لا يجرؤ على الفتك بها. لقد قتل من قبل أناساً كثيرين، ويداه ملطختان بدماء نساء ورجال وحتى أطفال، قتلهم جميعهم دون أن يتردد أو ترجف يدُه، لكن الأمر مع مريم اختلفَ عليه ولا يدري ماذا دهاه..
لم يرد عليها… ومريم بقيت تحدق فيه وتنتظر إجابة على سؤالها.. أخذ وقتاً طويلاً للرد.. فاستنتجت مريم الإجابة قائلة:
– يبدو لي أنكَ غير مستعد لذبحي…عد لمن أمرك وأخبره بحالك.. واعلمه أنك غير قادر على أداء هذه المهمة..
بصقَ المسلح على الارض وهو يمسك بذراعها ويسحبها بقوة لكي يجبرها على النهوض. وقفت مريم على قدميها بصعوبة، ثم رد المسلح عليها بحنق:
– سأقتلك يا مريم كما قتلت الكثيرين من عشيرتك، الواحد تلو الآخر، اعلمي أنهم توسلوا إلي جميعاً لكني لم أرحمهم ولم أدعهم يذهبون في حالهم، فهم لا يستحقون الحياة.. جميعهم خَونَة.. باعوا الدين والوطن.. وانتِ مصيرُكِ سيكون مثلهم حتى لو ركعتِ وقبلتِ قدمي والتراب الذي تحتهما… أنتِ ميتة اليوم لا محالة.. سأذبحك وأفصل رأسكِ عن جسدكِ، وأرمي بكِ للكلاب والضباع الضالة، لتمزق أعضاءكِ قطعة قطعة، وترتشف دمك قطرة قطرة..
ابتسمت مريم بهدوء في وجه المسلح وقالت له:
– لا تنتظر كثيراً، ولا تضيع وقتك معي فوراءك أرواح تنتظرك لتزهقها… أنا لن أتوسل إليك أبداً .. ولم أتوسل لأحد قبلك قط..
غَضِبَ المسلح من مريم، وسحب خنجره من غمده، وقرّبه من عنقها الناعم، وهو يحاول أن يتماسك خوفاً من أن تحس مريم برجفان كفه الخفي، وقال بعصبية:
– سأقطع رأسكِ بهذا الخنجر، وسوف أتلذذ بسماع حشرجة الموت تصدر من حلقكِ وأنتِ تلفظيين أنفاسكِ الأخيرة.. أنتِ وعشيرتكِ عملاء، وهذا جزاء كل من يخون دينه ووطنه..
أغمضت مريم عينيها كي لا تدعه يرى لمحة جَزَع فيهما، وتنفست بروية وكأنها تستنشق النسيم في بستان مليء بالزهور الحلوة، وردت عليه بسكينة:
– انت منهم.. بالتأكيد إنك منهم.. وستظل تعيش في دوامتهم حتى تـُزهق روحُك، ويُواري الثرى جسدك، وتلتهم ديدان الأرض أعضاءك التي أسأتَ استخدامها في هذه الدنيا.. فيداك ليستا للبطش، لكن هذا ما فعلته أنت بهما.. لسانك ليس للشتم والغيبة والنميمة، لكنك لم تر له مهمة غير ذلك.. عيناك ليستا لتسترق بهما البصر، ولكنك لم تستخدمها سوى في النظر إلى الرذيلة.. عقلك ليس لتحيك به المكائد وخطط الغدر والانتقام والفتنة، لكن هذا ما طوّعتَه له.. قلبك ليس مخزناً للحقد والضغينة والأنانية، ولكنك جعلت منه هذا..
ضجر من كلامها ودفع بها بقوة شديدة بعيداً عنه، فارتطمت بالجدار وصرخ قائلاً:
– ماذا تعنين بأني منهم يا خبيثة؟؟ مَن هم..؟؟ العملاء هم انتم، وليس نحن، هيا.. ردي مَن هم؟؟.. هيا أجيبيني..
تمالكت مريم نفسها وقالت:
– أنت من فاقدي معنى الحياة، ممن لا يجدون المعنى سوى في الهدم والموت وإقصاء الغير.. أنت من الذين يستمدون قوتهم من ضعف الآخرين وذلهم.. ويُـطهرون رذائلهم بسحق العُزل وزهق أرواحهم.. ويـُلصقون شتى التـُهم بمن لا يروق لهم، لكي يبرروا تصفيتهم لهم وتنحيتهم.. أنت منهم لأنك لم تعرف معنى أن تعيد بناء بيت متهالك إلى الحياة.. أو أن تعتني بأرض بور جرداء لتصبح معطاء.. أو أن تجني ثمراً مُراً، وتصنع منه عصيراً حلواً.. أو أن تربي ابناً عاقاً فتخلق منه رجلاً نبيلاً.. أو أن ترحم عدواً مبيناً وتجعل منه صديقاً عطوفاً.. أو أن تصفح عن كاذب بغيض فتحوله إلى إنسان أمين صادق.. او أن تـُكرم لئيماً مخادعاً وتساعده أن يصبح شهماً خيـّراً…أو ببساطة أن تجعل من العتمة الداكنة في هذا العالم شعلة مضيئة لأجيال قادمة..
انتفض المسلح من وقع عباراتها، فقد كشفت عورته، وجعلت من مهمته مستحيلة التنفيذ، فدار بوجهه للجهة الأخرى كي لا يضعف أمامها لأنه أراد أن يحسم الأمر وبسرعة.. فقال لها:
– أنا سأقتلك يا مريم بالرغم من كل الذي قلتِه، لأن رجالاً من عشيرتك قتلوا أخي الأصغر ولم يرحموه…
حزِنت عليه مريم وقالت له:
– إن كان قتلكَ لي سيضيء عتمتك فافعله ولا تتردد .. فما أجمل أن تكون الروح نوراً مشعاً في جسد آخر…
التفتَ إليها والدموع تغطي وجهه المتجهم، وغرس خنجره في عنقها فخرت صريعة مخضبة بدمائها اليانعة، وعيناها مفتوحتان تحدقان فيما وراء هذه الدنيا، وصار يبكي المسلح بشدة ويلطم وجهه، وكأنه فقد أعز إنسان عليه. جلسَ على الأرض بجانب مريم والروح تغادرها لحظة بلحظة وهو يصيح ويردد:
– نعم أنا منهم يا مريم.. نعم أنا منهم.. انا من فاقدي المعنى.. أنا لا أفهم معنى أن أحيا في دنيا بدون قصاص وتفشي وانتقام وتصفية حسابات وضغينة… لا أعرف كيف أحيا يا مريم في دنياك تلك..لا أعرف كيف أحيا..
استيقظَ المسلح من نومه وهو يتحسس بندقيته حيث كان العرق يتصبب منه بغزارة، ودقات قلبه تتسارع، ودموعه تبلل كل وجهه. هذه هي حاله كل ليلة منذ أن قتلَ مريم ولحظات موتها الأخيرة لا زالت ترواده في منامه. طيف مريم يعذبه في يقظته ويقلقه في غفوته، لأن نورها الذي خلّفته له ظل تائهاً عنه، لم يهتدِ إليه بعد، فهو مازال غارقاً حتى النخاع في مستنقع العتمة من حوله، بدون أية دلالة على النهوض للتوجه لنور مريم والى تلك الدنيا التي بشرته بها…
salamhatim2002@yahoo.com