“التقاليد الحضارية للمجتمع”: هكذا صوّت البرلمن العراقي على حجب المواقع الإباحية- “برفع الأيدي”، على الطريقة “الصدّامية”!
*
نُقل عن وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، في السلطة، وجود خطة لتوفير إنترنت آمن حفاظاً “على العادات والتقاليد والهوية الحضارية للمجتمع، والحفاظ على السلم الأهلي“. وفي السياق نفسه، طبعاً، جاء الكلام عن “حجب المواقع الإباحية، وأخرى ذات الصلة بالإرهاب والجريمة، مع مراعاة الحريات العامة“.
للوهلة الأولى، يبدو الكلام كالليرة الذهب. ومن المؤكد أن الغالبية الساحقة من “المجتمع” تُثني عليه، وتصد عن غيره. ولكن الشيطان، كما يُقال، في التفاصيل. فلنقل، مثلاً، إن كل المفردات الواردة في الفقرتين المذكورتين هلامية، أو، في أفضل الأحوال، حمّالة أوجه.
فما هي، بالضبط، العادات، والتقاليد، والهوية الحضارية للمجتمع؟ ولماذا أصبحت مفردات كهذه مائعة إلى حد يمكّن كل صاحب سلطة من تأويلها كما يشاء. ففي غزة، مثلاً، منعت سلطة حماس النساء من تدخين النرجيلة، في الأماكن العامة، لأن هذا يتنافى مع “عادات وتقاليد شعبنا”، كما أفتى ناطق باسمها، وفي أماكن أخرى يحجّبون المانيكان في دكاكين بيع الملابس، وللأسباب نفسها.
وهذا، في الواقع، لا يطال المجتمع في بلادنا، دون غيرها، بل كل مكان آخر في العالم العربي. مع ملاحظة أن الأمر لم يكن هكذا حتى قبل عقود قليلة مضت. فهل ثمة صلة من نوع ما بين ما أصبح، وما أصبحنا، عليه، وبين تحوّل وتحويل بلاد العرب إلى جثة تعفنت؟
هل توجد عادات، وتقاليد، وهوية حضارية، وإن وجدت فما هي؟ فلنلاحظ، مثلاً، أن العالم العربي أكبّر مصدّر للاجئين، والانتحاريين، والإرهابيين، في العالم. وأنه الفائز ببطولة الدولة الفاشلة على مستوى العالم. وأنه الأقل إنتاجية من دولة كاليونان، والأقل كتابة، وترجمة، وطباعة، وقراءة، للكتب منها، واليونان في كل الأحوال فقيرة مقارنة بالحيتان الأوروبية.
وهل نضيف المزيد عن الصراعات الطائفية، والحروب الأهلية الصريحة والمُضمرة، والسجون وتقييد الحريات، وانتهاك أبسط حقوق الإنسان؟ فما هي، إذاً، العادات والتقاليد والهوية الحضارية لعالم كهذا؟ وهل ثمة صلة من نوع ما بينها وبين كل ما تقدّم؟
فلنتقدم خطوة إضافية: لماذا يفوز الجنس بالبطولة بين مصادر التهديد الواقعية أو الوهمية والمُتوهّمة، كلما تصادف الكلام عن العادات والتقاليد والهوية الحضارية؟ ولماذا يثير كل هذا القدر من الذعر، ويُعامل كنوع من البلوتونيوم المُشّع؟ والأهم: لماذا لا تسعى “العادات، والتقاليد، والهوية الحضارية”، في تعريف ما هي، وما تكون، إلا بالتضاد مع الجنس (كائنا ما كان تعريفه)؟ ولماذا لا تكون قيم الصدق، والتسامح، والعمل، والحرية، والمساواة، في صلب العادات، والتقاليد، والهوية الحضارية، ومعيار الحكم لها، أو عليها؟ ماكس فيبر، مثلاً، أقام الصلة بين روح الرأسمالية، وأخلاق العمل البروتستانتية.
ثمة ما يُبرر إقامة الصلة بين علاقة السلطة في العالم العربي بالمجتمع على خلفية العلاقة بين الراشد والقاصر. وهي علاقة تعود إلى ما قبل زمن الدولة الحديثة في كل مكان آخر من العالم. ففي علاقة كهذه يُعامل المجتمع باعتباره قاصراً وعاجزاً عن معرفة ما يضره، وما ينفعه. وهذا، أيضاً، موقف القوى الكولونيالية، التي حملت “عبء الرجل الأبيض”، في زمن الفتوحات.
ولكن العالم تقدّم كثيراً منذ زمن الفتوحات الاستعمارية، وزمن الدول المملوكية والسلطانية، وطرأت على فكرة الدولة والسلطة تحوّلات جذرية. فبقدر ما تبتعد السلطة عن دس أنفها في خصوصيات وحريّة وأجساد مواطنيها بقدر ما تنال من الشرعية، والاستقرار، بينما تعثر السلطة، في العالم العربي، على ما يبرر وجودها بقدر ما تدس أنفسها في خصوصية وحرية وأجساد مواطنيها، خاصة إذا كان فيها ما يهدد “العادات والتقاليد والهوية الحضارية”.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالعالم العربي، فلا العادات والتقاليد ولا الهوية الحضارية واحدة أو مُوحّدة، ولكنها تخضع في الوقت الحاضر لنوع من التوحيد القسري، إلى حد ينبغي أن يزول فيه الفرق الثقافي والحضاري، وحتى التاريخ نفسه، بين أبها وبيروت، وبين صعدة والقاهرة، وبين سبها وبغداد، وبين الدوحة والقدس.
والمُلاحظ، في هذا الشأن، أن دس الأنف في الخصوصية، لا يحمى المواطنين، ولا السلم الاجتماعي. فالسعودية، مثلاً، هي البلد الوحيد في العالم الذي توجد فيه شرطة دينية لديها صلاحيات تبيح لها معرفة مدى شرعية أن يمشي رجل مع امرأة في مكان عام. وفي حادثة لا تُنسى اشتعلت النيران قبل سنوات في مدرسة للبنات، فأغلق رجال الشرطة الدينية أبواب المدرسة، ومنعوا خروج البنات حاسرات الرأس، ودخول الرجال، إلى مكان لا يحق لهم أن يكونوا فيه، فكانت النتيجة أن أكلت النيران البنات.
المهم، في معادلة العلاقة بين الراشد والقاصر، لا تُجابه السلطة، في النسق الثقافي العربي السائد هذه الأيام، بمقاومة حقيقية من جانب الغالبية، إذا تعلّق الأمر “بالعادات والتقاليد والهوية الحضارية”. كانت ثورات الربيع العربي، المُجهضة، محاولة من جانب النخب المدينية، وما تبقى من الطبقة الوسطى في الحواضر، لتغيير المعادلة. فلم يكن همها الرئيس لا “العادات”، و”التقاليد”، ولا “الهوية الحضارية”، بل كان الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية.
ولنفكر، دائماً، أن مرافعة “العادات، والتقاليد، والهوية الحضارية” من أسلحة الثورة المضادة. فبها ردت طبقات النبلاء والإقطاعيين الأوروبية المذعورة على ربيع الشعوب في العام 1848. وبها ترد طبقات وشبكات النخب العربية المذعورة والمتضامنة: المالية والسياسية والأيديولوجية والتجارية الحاكمة، والسائدة، على ربيع الشعوب العربية. ثمة ما هو أبعد. وما هو أبعد يتمثل في شطب معادلة الراشد والقاصر، وفي الصراع على بنية الدولة، ومفهوم السلطة، وعلاقة هذه وتلك بالخصوصية، والحرية، وأجساد البشر.
khaderhas1@hotmail.com