فلنضع مزاعم، ورهانات، حماس، وحقيقة استثمارها في دماء الفلسطينيين، جانباً. هذا لا يعنينا الآن، ولا تعنينا الاستيهامات شبه الميسيائية في كلام الفلسطينيين عن “مسيرة العودة“، فثمة ما يتجاوز هذا كله. ولنبدأ من نقطة ما في زمن بعيد:
أسكنت السلطات الإسرائيلية، بعيد قيام الدولة، عائلات من يهود البلدان العربية في قرية “عين حوض”، التي فرغت، بالإكراه، من سكّانها الفلسطينيين. ولكن السكّان الجدد لم يتمكنوا من البقاء لأن القرية، كما قالوا، مسكونة، فهم يسمعون أصواتاً، ويرون أشباحاً تطل عليهم من وراء النوافذ في الليل. المكان مسكون، إذاً.
جاء هؤلاء من بيئة الثقافة العربية، التي وإن طالها “نزع السحر عن العالم“ (بتعبير ماكس فيبر)، إلا أنها احتفظت بمكوّنات قوية تنتمي إلى أزمنة مضت. ومع ذلك، لا ينبغي إلقاء اللوم على عاتق المخيال الثقافي لهؤلاء، ولا البيئة التي أنجبتهم. ثمة ما هو أبعد، وما يتجاوز بقاء السحر أو نزعه عن، ومِنْ، العالم.
وهذا ما لا يتجلى على حقيقته، ومثقلاً بالدلالات كعناقيد العنب، إلا على خلفية، وفي سياق التفكير في، نشأة وخصوصيات المخيال الكولونيالي. ففي حوليات، ومدونات، ومذكرات، الفاتحين في الأميركتين الشمالية والجنوبية، وفي أفريقيا، ما لا يحصى من الإشارات عن أشباح تمشي، وأرواح تهيم، وعيون أطلّت عليهم في الليل. موتى أحياء، وأحياء موتى.
هذا لا يعني، بالضرورة، أن المذكورين من سكّان عين حوض فكّروا كغزاة، أو كانت لديهم أدنى فكرة عن الكولونيالية. فالأرجح أنهم كانوا فقراء، وشبه أميين، ومغلوبين على أمرهم بعدما أُرغموا على مغادرة بلدانهم الأصلية، أو وقعوا ضحية استيهامات دينية وقومية، وعوملوا كسقط المتاع في وطنهم الجديد. ولكن هذا كله لا ينفي ما ينجم عن إحساس العيش في بيوت طُرد أصحابها بقوة السلاح، أو الخوف، من مشاعر بالذنب، أو ضرورة التفسير والتبرير.
وإذا حدث هذا بطريقة فردية، وغالباً ما يحدث، فإنه يتموضع في، أو يكون مشروطاً بسردية أكبر، وأشمل، يسهر على إنشائها أشخاص أكثر ثقافة وخبرة في التفسير والتبرير والتأويل. وبهذا المعنى يجوز الكلام عن فلسفة وهندسة المخيال الجمعي للمجتمعات الكولونيالية. وغيرها، في الواقع. ويكفينا التفكير في طريقتها في الشفاء من مشاعر الذنب.
طرد الفاتحون الأوروبيون مشاعر الذنب بأيديولوجيا عبء الرجل الأبيض، ولكن الإسرائيلي، وراء قناع اليهودي، الذي ناله من بلاء الرجل الأبيض الكثير، عثر في مجاز جلاّد مُقدّس، لا يملك خياراً آخر، لا على ما يحرره من عبء الإحساس بالذنب وحسب، بل وعلى ما يمكّنه من اتهام الضحية بالسادية، أيضاً، لأنها أرغمته مرّة على قتلها، ولأنها، في مرّة ثانية، ترفض أن تموت.
نترجم هذا الكلام بكلام آخر: فلنتذكّر محمود درويش: “صاحت فجأة جندية: هو أنت ثانية؟ ألم أقتلك؟ قلت: قتلتني، ونسيت مثلك أن أموت“. ولنتذكّر عبارة شائعة الصيت لغولدا مائير: “لا نكره الفلسطينيين لأنهم يقتلون أولادنا، بل لأنهم يرغمون أولادنا على قتلهم“. ولنفكر كم يبدو الكابوس ثقيلاً وباهظ التكاليف لأن الميّت ينسى، كما حدث على الشريط الحدودي مع غزة، أن يموت، والأدهى والأمرّ أنه يرغمهم على قتله.
على أي حال، سبقت فكرة الميّت الحي المخيال الكولونيالي، وولدت مع الإنسان نفسه، ويمكن المجازفة بالقول إنها انطوت على دلالات سياسية، دائماً، حتى في أقدم العصور. ولكنها، ككل شيء آخر، تصبح قيد التداول، وتُصاغ، تُعاد صياغتها، بطرق مختلفة إشباعاً لحاجات أزمنة، وعصور مختلفة.
وبقدر ما يعنينا الأمر، ثمة صلة أركيولوجية بين الميت الحي (الزومبي)، في زمن السينما، وبين شعوب وأقوام في مجاهل وأدغال بعيدة في زمن الفتوحات الاستعمارية، وصلة أقل من أركيولوجية بكثير بينه وبين سكّان مدن الصفيح والعشوائيات على مداخل، وتخوم، وأحياناً، في قلب المدينة من ناحية، وسكّان الأحياء الراقية والضواحي من ناحية ثانية.
والواقع أن إسقاط هذا كله على الصراعات القومية، وعلى الصراع بين المراكز الكولونيالية القديمة والجديدة و“مستعمراتها“ القديمة والجديدة، أو على صراع الأغنياء والفقراء، بين الشمال والجنوب، لا يحتاج أكثر من قفزة واحدة. وهذا ما يحدث، يومياً، ويتجلى في خطابات، وأخيلة، وصور يصعب حصرها.
ونكتفي، هنا، بالتوقّف أمام شاهدين: الأوّل، فيلم ظهر في العام 2013 بعنوان “الحرب العالمية Z” طالما أن بعض أحداثه تدور في القدس، ومحوره الرئيس أن وباءً يجتاح العالم فيتحوّل كل من أصيب به إلى ميت حي، وقد انتشر الوباء في أربعة أركان الأرض، وعلى الفاعل الرئيس، العثور على ترياق، وإلا تعرّضت البشرية للفناء.
تبدو القدس، في الفيلم، مطوّقة بسور خارجي يحميها من زحف حشود الزومبي، وتبدو آلة الحرب الإسرائيلية، بكل ما يُعرف عنها من كفاءة في أبهى صورها. ومع ذلك تنجح الحشود في اختراق الأسوار، وينجح الفاعل الرئيس في الهرب، بمساعدة مُجنّدة إسرائيلية تمكن الزومبي من قضم ذراعها. ويعثر الاثنان في النهاية على الترياق في مكان آخر.
والثاني، وهو أكثر ميلاً إلى إمساك الثور من قرنيه، بلا مجازات، ولا وجع دماغ، كتاب بعنوان “كوابيس إسرائيل: الزومبي الفلسطينيون والمسلمون يطاردون إسرائيل“ لكاتب إسرائيلي يُدعى رفائيل يسرائيلي. ولكي تصل الرسالة كاملة غير منقوصة تظهر في صورة الغلاف يدان شيطانيتان، تقبضان على نجمة سداسية، أما مفردات الأشباح والكوابيس فتظهر بقدر كبير من السخاء في متن الكتاب.
الفيلم والكتاب لا يختزلان الواقع بل يلامس كلاهما، على طريقته، جانباً من الكابوس. في يوم الأرض، لم يخرجوا في الليل، ولا أطلوا على الجنود من وراء نوافذ، ولا ماتوا تماماً. وهل ثمة سادية أكثر من هذه؟
khaderhas1@hotmail.com