غزّة ـ عمر حرقوص
بالأمس كان يوم “المستقبل” في غزة، هناك على أرض فلسطين التقت الناس وشهدت حياتهم ومعاناتهم، ورأت الدمار الذي تركه العدوان الإسرائيلي في حربه الأخيرة على القطاع المحاصر، وكذلك ما فعلته الحروب وعمليات القصف السابقة، من رفح إلى خان يونس ودير البلح ومخيم الشاطئ ومدينة غزة، أرض حرثتها القذائف والصواريخ الإسرائيلية ولكنها رغم ذلك هي تشهد حركة عمران كبيرة، فهي أصغر ارض نسبة لكثافتها السكانية، ناس يغلب عليهم عدد الأطفال الذين يخرجون من مدارسهم إلى منازلهم التي دمر بعضها القصف أو اصيب بعضها الآخر.
في شوارع قطاع غزة تتكثف الاسئلة، هنا جزء من فلسطين التي رواها الأهل لأولادهم، هنا خان يونس الذي شهد في الانتفاضتين ثورة الشبان بحجارتهم على الدبابات ورصاص البنادق الإسرائيلية، فالفلسطينيون في تلك الارض هم مثال للشعب الذي يناضل من أجل حريته، يتحمل الدمار والخسائر ويعيد بناء ما سقط ليكون غد ابنائه افضل وأجمل.
يوم أمس زار وفد من قوى 14 آذار قطاع غزة والتقى رئيس الحكومة المستقيلة اسماعيل هنية وعدداً من قياديي حركة المقاومة الإسلامية “حماس”. وفد 14 آذار اتى ليكون إلى جانب الشعب الفلسطيني بعد العدوان الإسرائيلي على القطاع والذي استمر لمدة ثمانية ايام، ضم نائبي كتلة “المستقبل” جمال الجراح وأمين وهبة ونائب كتلة “القوات اللبنانية” أنطوان زهرا وشخصيات اعلامية.
وفد قوى 14 آذار التقى هنية في منزله في مخيم الشاطئ في غزة ودام الاجتماع أكثر من ساعة، ليشهد منذ لحظاته الأولى حفاوة كبيرة في الاستقبال، وفي نهايته يصر هنية على الخروج مع الوفد لوداعه رغم الاجراءات الأمنية المشددة التي تمنعه من الظهور علنا في الشارع، ويبقى مع وفد 41 آذار لمدة ربع ساعة حيث كان يقبض بيده على يد الجراح ويتحدث إلى الاعلاميين اللبنانيين.
أفادت مصادر المشاركين في الاجتماع أن هنية أكد خلال اللقاء أن موقف “حماس” من النظام السوري حاسم ونهائي “لأننا لا يمكن أن نؤيد نظاماً يقتل شعبه”، وأضاف أن “حماس تركت دمشق لهذه الاسباب ولأنه لا يمكن الموافقة على ما يحصل ضد الشعب السوري الذي طالما احتضن الفلسطينيين”، مذكراً بأن الفلسطينيين تلقوا بعد العدوان على غزة في العام 2008 مساعدات من الشعب السوري بلغت قيمتها 15 مليون دولار “فكيف يمكن أن نقف ضد هذا الشعب أو مع نظام يقتل هذا الشعب”.
وتطرق هنية إلى الموقف من إيران موضحاً أن حركة “حماس” ناقشت الوضع السوري مع إيران مراراً “لكن لإيران اعتباراتها”، وأضاف “في المقابل نحن نشكر إيران لأنها ساعدتنا لكن ذلك لا يغير في ثوابتنا وفي مقدمها دعم الشعب السوري”.
وأكد خلال اللقاء أن العدوان الأخير وحّد الفصائل الفلسطينية، مؤيداً أي مسعى لتوحيد الصف الفلسطيني، رداً على ما ابلغه إياه الجراح من رسالة نقلها من الرئيس سعد الحريري مفادها أن الأخير مع وحدة الشعب الفلسطيني لأنها سلاح يضاهي قوة الصواريخ، فقال هنية “نحن مع اي مسعى لتوحيد الصف” مثنياً على دور مصر والنظام المصري الجديد.
وكان وفد 14 آذار ابلغ هنية تعاطفه مع الشعب الفلسطيني ومع أطفال فلسطين الذين سقطوا تحت ضربات الطيران الإسرائيلي تماماً كما يسقط أطفال سوريا بنيران قوات الأسد وطيرانه.
وحمّل هنية النائب الجراح تحياته إلى الرئيس الحريري والرئيس فؤاد السنيورة والنائب بهية الحريري، كما حمّل زهرا تحياته إلى رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع شاكراً له هذه “اللفتة الكريمة” وبدا واضحاً الاهتمام الملحوظ الذي أبداه بزهرا.
وكان وفد من قوى 14 آذار قام بالزيارة التضامنية إلى غزة عبر مطار العريش في مصر، والتقى في خلالها مع وفد من كتلة “حماس” في المجلس التشريعي الفلسطيني، حيث أكد وفد 14 آذار التضامن الكامل مع الشعب الفلسطيني وخصوصاً أبناء قطاع غزة بعد الضربة الإسرائيلية قبل أيام، وقد نقل وفد 14 آذار تحية من الرئيسين الحريري والسنيورة وكذلك من جعجع للفلسطينيين في نضالهم لطرد الاحتلال من بلادهم.
بدأت الرحلة إلى غزة منذ ساعات الصباح الباكر من مطار الشهيد رفيق الحريري الدولي باتجاه مطار العريش الدولي في شمال سيناء المصرية حيث كان النائب زهرا ينتظر الوفد اللبناني. ساعة من الطيران فوق البحر مقابل شواطئ فلسطين المحتلة لتحط الطائرة في المطار الصغير. أرض صحراوية شاسعة مزروعة بمنازل وبساتين من أشجار الزيتون. مع وصول الوفد الى المطار فتح صالون الشرف الرسمي، وبعدها يتم الانتقال بمرافقة أمنية باتجاه الحدود المصرية الفلسطينية. اللافت على الطرق المصرية الانتشار الأمني الكثيف، حيث تتواجد الدوريات والحواجز الأمنية لمنع عمليات الخطف التي حصلت قبل فترة.
منازل المنطقة مبنية بطوب قرميدي، تحيط بها أشجار الزيتون. نموذج للفقر، ولحال السكان في منطقة قليلة المياه وكذلك هي نقطة اتصال وصلة وصل مع قطاع غزة، هنا يعيش بعض سكان المنطقة من عمليات التهريب التي تحصل على الحدود، فيما تعتبر الزراعة رغم الجفاف مصدراً أول للرزق.
معبر رفح
في المعبر ازدحام للسيارات وحركة متواصلة لمئات العابرين إلى غزة أو الخارجين منها، باعة ينادون على بضائعهم مقابل البوابة الحديدية المقفلة إلا لعبور السيارات، في المجمع المصري للحدود يتم استقبال وفد 14 آذار في صالون الشرف بانتظار انتهاء الأوراق الرسمية، بعدها يتم الانتقال إلى سيارات فلسطينية تابعة لحركة حماس، حيث تنطلق باتجاه فلسطين، والبداية في معبر رفح البري التابع للسلطة الفلسطينية، حيث يتوافد وفد رسمي فلسطيني يمثله نائبا “حماس” سيد ابو مسامح ويونس أبو دقة ومدير عام العلاقات الدولية والبروتوكول في وزارة الخارجية محمود المدهون.
خان يونس
في معبر رفح تبلغ وفد 14 آذار ضرورة الاسراع في التنقل بين مواقع الزيارات لأن معبر رفح من الجهة المصرية يغلق ابوابه الساعة الخامسة مساء ولا يمكن بعدها العبور، لأن الظروف الأمنية في منطقة شمال سيناء هذه الفترة غير آمنة بالكامل، ولذلك لا يمكن التوقف عند كل الأماكن المفترض زيارتها، تنطلق السيارات وتمر من أمام خان يونس، القيادي الحمساوي عبد القادر عبد النور يشرح مساحات القطاع وأهمية مخيم خان يونس في الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية وكذلك في حرب غزة الأولى والثانية، ويشير إلى المزروعات الخضراء التي تغطي المناطق القريبة من المخيم وأهميتها في تغطية الاكتفاء الذاتي للقطاع وخصوصا في المرحلة التي كان فيها محاصراً.
في خان يونس بعض الدمار الحديث وبعضه قديم، مركز مرور شرطة المدينة تم تدميره من الطيران الإسرائيلي قبل ايام ولكن الفلسطينيين استحدثوا سريعاً مركزا بجانبه. حركة الناس في شوارع المدينة كثيفة من عبور السيارات والشاحنات وكذلك “الطنابير” التي تنقل الحاجيات، حيث يستعملها الناس تخفيفاً للمصاريف في ظل حصار طويل امتد لسنوات.
اللافت هناك أشجار الصبار التي ترسم للمدينة لوناً اخضر يوحي بمكانتها في ثورة الشعب الفلسطيني، فهذا المكان كما نبتة الصبار يحمي نفسه باشواكه ولكنه طيب بناسه الذين يحلمون بالحرية والأمان. مرافقنا يؤكد أن البنية التحتية للمقاومة لم تضربها اسرائيل خلال هذه الحرب، فبنية المقاومة هم الناس وبيوتهم وليست مستودعات أو قواعد سرية.
غزة
الطريق يتسع ويضيق حسب المنطقة التي يتم عبورها، فطريق صلاح الدين يربط غزة من أولها إلى آخرها بطول 40 كلم، اعمار القطاع يسير على قدم وساق رغم الدمار الذي ضرب العديد من المرافق الاساسية، يروي مرافقنا قصة دخول مواد البناء عبر الأنفاق، ويشير الى آلاف المنازل والأبنية التي ترتفع سريعاً في القطاع لاستيعاب حوالي مليوني انسان. يشير إلى مكان مستوطنة “غوش قطيف” التي خرج منها الإسرائيليون في العام 2005، حيث أعيدت الارض لمالكيها الفلسطينيين فيما بدأت الحكومة بزراعة المشاعات فيها باشجار مثمرة وفاكهة لتحسين مستوى التغذية في القطاع، بالقرب منها جسر كبير هدمه قصف الطيران قبل ايام، ففي غزة أربعة جسور دمر منها الإسرائيليون جسرين، ولكن الغزاويين يستعدون من جديد لإعادة بنائهما لأنهما يسمحان بالعبور السريع فوق أحد الأنهار الموسمية الذي ينبع من الضفة وجبال الخليل ليصل إلى غزة ويكون صلة التواصل الطبيعي بين ابناء الشعب الفلسطيني رغم الاحتلال وحواجزه وجدرانه.
في غزة يتوقف موكب السيارات أمام مجموعة من الأبنية دمرها القصف الصاروخي للطائرات الإسرائيلية، يقول مرافقنا إن الإسرائيليين اتصلوا بأحد سكان البناء وطلبوا اخلاءه، وبعدها قصف الحي فتدمر بناءان وتضرر الحي بكامله، نجا السكان من الموت ولكنهم انضموا إلى لائحة طويلة من اللاجئين الجدد فوق ارضهم.
في الحي طفلة صغيرة تدعى فاطمة، تقف قرب أطلال بيتها، تؤكد أنها خافت من القصف، وهربت مع والديها وأخوتها ورأت الدخان والركام يتصاعد من منزلها، قبل خروجها لم تأخذ معها كتبها وألعابها وثيابها، كانت تهرب وهي تعتقد ان العودة إلى البيت ستكون بعد ساعات.
نقترب من مبنى وزارة الداخلية المدمر بكامله، يؤكد مرافقنا أن هذه المباني ليست عسكرية، فهي مخصصة لسجلات النفوس واصدار بطاقات الهوية، كأنما يريد الجيش الاسرائيلي كعادته منذ أن كانت عصابات مثل “الهاغانا” أن لا يبقى ما يشير إلى هوية الناس هنا واصولهم.
في غزة يتداخل الدمار بين ما تهدم في العام 2008 وهذا العام، مواقع عديدة بعضها تاريخي دمّر بالكامل، فيما بدأت عمليات جرف الردم وإزالته لإعادة بنائه من جديد، ونموذج ذلك هو مبنى الشرطة الذي دمر في العام 2009 وأعيد بناؤه ولكنه دمر من جديد، في لعبة كرّ وفر يؤكد فيها اصحاب الأرض أنهم الأجدر بالبقاء رغم كل القصف والتدمير.
المجلس التشريعي
يصل الوفد إلى مبنى المجلس التشريعي الفلسطيني في غزة، هنا لوحتان لبنائه وإعادة بنائه الأولى باسم الرئيس المصري جمال عبد الناصر والثانية باسم الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، هناك يلتقي الوفد اللبناني مع عدد من النواب الفلسطينيين وعلى راسهم النائب الأول لرئيس المجلس التشريعي جمال نصار. بعد التعارف اكد النائب الجراح تضامن كل مكونات قوى 14 آذار مع الشعب الفلسطيني، ونقل تحيات الحريري والسنيورة وجعجع لاعضاء المجلس، واعتبر أن الرسالة الأهم التي يحملها الوفد من الرئيس الحريري دعوته لوحدة الصف الفلسطيني لنجاح قيام الدولة، وقال إن “14 آذار تابعت التصدي للعدوان وكانت ثقتنا كبيرة بانتصار الشعب الفلسطيني”، وأضاف إنّ “انصياع العدو لشروط المقاومة يعتبر نصراً مؤزراً وتراجعاً في استراتيجية العدو”، مضيفاً “هذا يقربنا أكثر فأكثر من النصر على الصهيونيّة وتحرير كل الأراضي العربية المحتلة من قبل الكيان الزائل لا محالة”. وشدد الجراح أيضاً على “تضامن كافة الكتل البرلمانيّة اللبنانيّة مع شعب فلسطين وقضيته وتأييد الشعب اللبناني للموقف الفلسطيني وثوابته وحقوقه الوطنية”.
أما النائب زهرا فأكد أن “ما شاهدناه بأم العين من عدوان على غزة يؤكد أن إسرائيل لا تريد السلام وهي ترفض حل الدولتين، ونحن نحيي الشجاعة الاستثنائية للشعب الفلسطيني ونحيي صمودكم الذي هو العين التي كسرت المخرز”.
أما النائب امين وهبي فأكد أن “دعم فلسطين هو الخطوة الأولى لنا”، وأشار إلى أن “ما حدث هو نقلة نوعية في نقل المواجهة إلى أرض فلسطين بعيداً عن التدخلات الخارجية، ونحن حريصون على الدم الفلسطيني وحياة الفلسطينيين الحرة والكريمة”.
من جهته اشار بحر إلى سعادة الفلسطينيين بالزيارة التضامنية وأكد “ثبات الشعب الفلسطيني في خندق المقاومة”، وقال “لقد انتصرنا بقوة شعبنا وصموده، فالإسرائيليون كانوا يريدون تدميرنا ولكن صمودنا وانتصارنا أجبرا إسرائيل على الانصياع للتهدئة والاتفاق على وقف اطلاق النار”.
ولفت الى أن “تيار المستقبل” له قوته ونصاعته وتواجده الحقيقي على الساحة اللبنانية”، ولفت إلى إدراك الفلسطينيين لمعاناة الشعب السوري، وأكد التضامن معه وعدم رضاهم بالظلم اللاحق به.
بعد اللقاء أقيم حفل غداء للوفد اللبناني في مقر المجلس التشريعي الذي انتقل بين شوارع المدينة إلى مخيم الشاطئ حيث منزل اسماعيل هنية، الذي أخبر الصحافيين اللبنانيين عن مدى حبه للبنان وعيشه فيه لمدة عام حين ابعد مع المئات من الفلسطينيين إلى “مرج الزهور” مع الشهيد عبد العزيز الرنتيسي وغيره من القيادات الفلسطينية.
في طريق العودة إلى معبر رفح كان الفلسطينيون يخرجون من منازلهم إلى شاطئ البحر، حيث يعتبر المتنفس الوحيد لهم في ظل الحصار المفروض عليهم، هنا مخيم دير البلح وقصص البطولة، تتشابه مخيمات غزة بشكلها مع المخيمات الفلسطينية في لبنان، الشبان يلعبون بالطابة على الشاطئ، تغيب الشمس، وتبدأ العتمة، يخبرنا مرافقنا أن الكهرباء تقطع مداورة لست ساعات لمدة يومين لتعود لمدة أربع وعشرين ساعة في اليوم الثالث، يتفاجأ بواقع الكهرباء في بلدنا، نصل إلى معبر رفح لنكون آخر العابرين إلى مصر باتجاه مطار العريش والعودة إلى بيروت.
المستقبل